نوافذ: الغرفُ المظلمة لتصوراتنا
"كيف سيحاسبني الله، لو كانت كِلْيتي أو كبدي أو قلبي خارج جسدي؟"، هكذا عبّر المُشاركُ في البرنامج الإذاعي عن استنكاره لفكرة التبرع بالأعضاء بعد الموت، وكأنّ الحساب مقتصرٌ على الجسد الفاني! بينما ذهب متصلٌ آخر إلى القول بأهمية أن يمضي الإنسان إلى المصير والبلاء المُقدر له سلفا من الخالق، لينال الأجر والحسنات، عوض رفع سقف توقعاته بأن يهبه إنسان آخر عضوٌ من أعضائه. أمّا الاتصالات الأكثر طرافة، فهي تلك التي تطرقتْ لمخاوفها من تبرعها بالقلوب، مُصدقين أنّ تلك العضلة تكتنز مشاعرهم وعواطفهم وذكرياتهم الأكثر حساسية، ولذا فضلوا أن تمضي قلوبهم معهم في رحلة الموت، بدل أن تنبض في جسدٍ تشقيه آلامه!
ولعلنا نبرر هذه المخاوف، فما يزال الحديث عن التبرع بالأعضاء على المستوى المحلي جديدا، وإن دعمته الفتاوى الدينية بالتشريع والتحليل، فالجسد موضوعٌ مُؤرقٌ، خصوصا إذا ما قيس بتصوراتنا لما بعد الموت.
وبما أنّه "لا يوجد فنٌ ينفذُ إلى وعيننا وإلى أعماق الغرف المظلمة في أرواحنا ماسا مشاعرنا كالأفلام"، على حد قول السينمائي بيرجمان، فأظن أنّ أغلب الأفلام التي شاهدتها على الأقل، كانت تُقدم الصورة الكريهة والمُنفرة لنقل الأعضاء، حيث تُرينا عبدة المال وهم ينتزعون أعضاء الأجساد دون رحمة في سبيل المال.
أتذكر الآن فيلم the island""، الذي تدور أحداثه في مكان معزول عن العالم خوفا من وباء يلوثُ الكون، فتُجرى بين المعزولين قرعة لاختيار المحظوظ الذي سيذهب إلى "الجزيرة"، المكان الذي نُوهمُ بأنّه صالح وغير ملوث، لنكتشف لاحقا أنّنا أمام مستنسخين، ليسوا أكثر من مجرد قطع غيار لأصحابهم الأصليين!
الأكثر إيلاما، نشاهده في فيلم "lion"، الطفل الهندي صاحب الأعوام الخمسة الذي يضل طريق العودة لبيته، فيلقى في طريقه بريق الأمل على يد سيدة تطعمه وتأويه، ثمّ نكتشف أنّها تنوي بيعه كقطع غيار أيضا لقاء المال.
ولكننا نقابلُ فكرة نقل الأعضاء بطريقة مختلفة، وبحساسية متعاطفة في فيلم SEVEN POUNDS، فـ"بين توماس" لم يتبرع بأعضائه من أجل المال ولا حتى الثواب، وإنّما ليكفر عن ذنبٍ مُعذب، بعد أن تسبب بمقتل خطيبته وستة أشخاص آخرين في حادث، بسبب انشغاله بالهاتف. كان يدينُ لسبعة أشخاص، فوجد في التبرع بأعضائه شفاء نفسيا. قدّم "بين" الكِلْية، العينان، جزء من نخاعه الشوكي.. إلى أن وجد امرأة من فصيلة دم نادرة لم تتمكن من الحصول على قلب، ولا ندري إن كان علينا أن نُسمي ذلك انتحارا أو منح حياة لامرأة يائسة، فقد تركنا نرتعشُ وهو يملأُ حوض الاستحمام بالثلج، ليسمح لاحقا لقنديل البحر بلدغه، بعد أن رتب كل إجراءات التبرع سلفا. وبالمناسبة هذا الفيلم مستوحى من مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير، حيث التاجر شايلوك يضع شرطا عند إقراضه مالا لأنطونيو وهو أن يقتطع رطلا من لحمه عندما يعجز عن السداد!
شعرتُ بربط مُباغت بين مخاوف المتصلين من تسرب ذكرياتهم وعواطفهم فيما لو تبرعوا بقلوبهم، وبين تجربة أجريت في إحدى الجامعات لمجوعة من الديدان، تمّ فيها قطع رؤوسها المحتوية على أدمغتها، "فوجدوا أنّ الديدان احتفظت بقدرتها على استرجاع ذكرياتها وتدريباتها السابقة، وذلك أثناء الفترة التي كانت تعمل فيها على إعادة تخليق رؤوسها من جديد!"، وكأنّ الذاكرة تتعدى الدماغ وتتجاوزه لتنطبع في أجزاء أخرى من الجسد، ما يسمى "بالذاكرة الخلوية".
تجربة الديدان هذه أيضا تذكرني بفيلم "THE EYE"، عن المرأة العمياء العازفة التي تُزرعُ لها قرنيتا شابة مكسيكية، توفيت إثر حادثة، فتتورط المرأة العازفة بعد استعادة بصرها، بأفكارٍ مروعة وصورٍ مخيفة من ذكريات الفتاة الميتة!
ربما نكون أسرى للصور والخيالات الجامحة والمبالغات الفنية التي رسمتها السينما والأدب، وتسرّبت إلى لاوعينا، ولذا يغدو من الأهمية بمكان، صياغة أفكار جديدة -روحية وعلمية- عن التبرع بالأعضاء، قبل أن تتساوى مع التراب.
فلا أظن بوجود فكرة أكثر سموا من ضخ حياة مُفعمة ضاجة في جسد مُتعب ومُنهك يُكابدُ الشقاء اليومي بيأس، "ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا".