هجرة كفاءات وخبرات عمانية للمحيط الخليجي
عندما علمت أن كفاءات لامعة ونجوم ساطعة في مهنها غادرت وطنها نحو محيطنا الخليجي العربي تحت ضغوطات سيكولوجية، وأن هذا المحيط فتح ذراعيه لها ومكنها في تخصصاتها وخبراتها، وبعضها سلمت قيادات تأطيرية وتنفيذية وبتسهيلات وامتيازات عالية، ظهر أمامي المشهد السلبي من هذه الخطوة دون إيجابيها.
قبل أن أستدرك الإيجابيات لاحقا وحتى بعد الاستدراكات، لم تتوازن رؤيتي، وظلت تميل نحو السلبية آخذة بعين الاعتبار ظروف «الزمان والمكان» للهجرة وخلفيات الصراع التنافسي بين دول المنطقة، وعودة الحساسية الجغرافية لما يحدث داخل كل دولة من تطورات وأحداث عابرة للحدود، هذا بخلاف مدى حاجة تنمية بلادنا الجديدة لها، وهنا تستدعي المقارنة التشخصية -لو سريعا- بين الخليج السياسي الآن، والخليج السياسي في الستينيات.
**
من الملاحظ أن محيطنا الخليجي بدأ يشكل جاذبية متصاعدة للكفاءات والخبرات العمانية، والمؤشرات تشير إلى تصاعد هجرة الكفاءات والخبرات، ولولا جائحة كرونا، لقلنا إننا أمام ظاهرة الآن، وكلما انفتحت الحدود الخليجية أكثر نتيجة التعافي، ومؤشراتها قائمة الآن شهدنا منحى أعلى للهجرة، مما ستصبح هناك دول بعينها جاذبة، وأخرى طاردة، وسيجدها الخليج الجاذب التي تعاني دوله من نقص في مواردها البشرية، وتستوردها من الخارج، فرصة تاريخية لها، لأنها تستقبل كفاءات وخبرات جاهزة، ومستغنى عنها من بلدها، ومن دولة يتميز مكونها الديموغرافي بالجدية والالتزام والتسامح وتقديس العمل، واندماجه السريع في بيئات العمل، وهي في حاجة إليها.
البعض ممن غادرنا حتى الآن كان يشغل مهنًا ووظائف دقيقة وحساسة، وأصحابها في قمة النضوج المهني والعمري، وقد أنفقت البلاد على تأهيلهم وتدريبهم الخارجي والداخلي الشيء الكثير، حتى وصولوا إلى تلك القمة، هم مشروعات نجاح بيئاتها الخليجية الجديدة -دون شك- يغادرونا تحت ضغوطات سيكولوجية دافعة بهم للهجرة، وهي سلاح ذو حدين، فإذا ما وجدت بيئات العمل المهنية الصرفة، فإنها ستنصهر في نجاحها وديمومته -أي النجاح- وهذه جوهر رسالتها من الهجرة، كرسالة موجهة للداخل، مفادها أنها لا تزال صالحة للإنتاج، وصانعة النجاح، وستشتغل عليها كهاجس مرتفع، حتى لو ضحّت من أجله، وهذا الحد الآخر من السلاح، لذلك نخشى من خيار التنازلات تحت هاجس عدم العودة الفاشلة.
لا ينبغي تجاهل قضية الهجرة للخليج من منظورها الحالي المحدود، فقد تتزايد وتتعدد، وتشمل حتى الباحثين عن العمل، وهذا سيكون مفصلا تاريخيا، سيؤسس مرحلة سياسية شبيهة بمرحلة الستينيات مع الفارق في البعد الدولي، وبعض الخصوصيات الإقليمية، لأنها تتلاقى مع ما يمكن تسميته بالظاهرة الأيديولوجية الجديدة والمتصاعد في منطقة الخليج، فهناك صراع أفكار متعددة ومتنوعة، بعضها سلمية والأخرى مسلحة، وقد وصلت بعضها السلمي لداخلنا، فدغدغت مشاعر البعض، واكتشفنا حالة الفراغ الوجداني عند بعض شبابنا، وهم داخل وطنهم، فكيف لو كانوا خارجه؟
ومستقبل خارطة الأيديولوجيا في الخليج، قد أصبحت مؤشراتها واضحة الآن، فلو توقفنا عند قراءة سريعة للمشهد الجديد داخل محطينا الخليجي، فسنرصد بسهولة الصور التالية:
- جماعات مسلحة إقليمية، بعضها خليجية، تناصر العداء الوجودي لبعض الأنظمة في الخليج.
- جماعات سياسية خليجية محظورة في الخارج تكتسب بالقانون مظلة الحماية الأمريكية، والدعم المالي الأوربي.
- بروز تيارات فكرية متعددة الاتجاهات في الخليج، وأخرى تستعد للظهور من رحم التاريخ لتجدد شرعيتها المعاصرة.
ودون الدخول في التفاصيل، فإن تلكم الصور، تظهر مستقبل الخليج المختلف عن الخليج الذي أسسه الرعيل الأول من القادة في السبعينيات، وملامح هذا المستقبل ستشكل البيئات الجديدة التي تنفتح عليها بلادنا الآن من بوابات اقتصادية رسمية، وأخرى عن طريق فرص العمل الجاذب هناك، والطاردة هنا، ولنا تجارب حديثة مع من هاجر للخارج، حيث يمكنني القول إنه من يخرج من وطنه في مثل قدراتهم وظروفهم.. لن يعود مالكًا لذاته أو مصيره، وإنما لغيره.. ومن سيكون الغير هنا؟ دول أم جماعات أو هما معًا؟ فهل لا يزال احتواء البعد الديموغرافي مستهدفا في ذاته لكسب جغرافيته؟
ومن اللافت أن الهجرة المتجددة للخليج، لم تقتصر على بعض الكفاءات والخبرات التي أحيلت للتقاعد الإجباري، وإنما تشمل كفاءات طلبت التقاعد اختياريًا أو الاستقالة، بعد أن أوصلتها خطابات التشاؤم والتسريبات المعززة لها والمجهولة المصدر، إلى القلق المرتفع على مستقبلها، فقررت الإسراع إلى التقاعد، والهجرة للمحيط الخليجي، وفكرة الهجرة قد ترسخت في ذهنية الكثير من المتقاعدين أصحاب مهن وخبرات، لكنها لم تخرج إلى التنفيذ أما بسبب كورونا -كم قلنا سابقا- أو تنتظر الملهم الذي يفتح لها الطريق.
وقد كانت هجرة كفاءات وخبرات عمانية ذات تخصصات دقيقة، وبعضها حساسة، السبب وراء فتحي هذه القضية الآن، بهدف إثارة الهاجس السياسي الكامن وراءها، فهي تهاجر تحت دافعية المال، وبسيكولوجية التقاعد المفاجئ الإجباري، وتحت تأثير تآكل عائدها المالي إلى النصف فجأة، وتحت شعورها بقدرتها على الطاقة الإنتاجية الصالحة لزمانها بعد أن استغنى مكانها عن خدماتها، وهنا القلق من نجاح التسييس والاختراقات الفكرية.
هذه القضية تحتاج لنقاش مؤسسي عميق ينجم عنها إعادة النظر في سياسات وقرارات محددة في عملية استدراكية عاجلة حتى لا تترك المسارات الجديدة تتسع عدديا، ومن ثم تتشكل وتتلون.. وتشكل صداعات المرحلة المستقبلية، فلا نزال في مرحلة البداية بمؤشراتها التي تظهر فوق السطح، وإذا كنا لا نحتاج لعقولنا وكفاءاتنا وخبراتنا التي كونتها الدولة طوال الخمسين عامًا الماضية، فينبغي العمل على أن يكون عبورهم للضفة الخليجية الأخرى، في سيكولوجية مختلفة، وكأن يكون ضمن ضوابط جديدة للمواطنة الخليجية، كاستثناء، بينما الأصل، أن تستوعب الدولة أبناءها داخل جغرافيتها، بتشريعات جاذبة... وبفكر سياسي لمآلات هجرة الكفاءات والخبرات في مرحلة خليجية ملونة، علمًا أنني أرى أن بلادنا لا تزال بحاجة إليها، وأن بعض المؤسسات قد فرغت من كفاءاتها وخبراتها.
وإذا كان شغلنا الشاغل المسار الإنتاجي وليس الضريبي، هو ينبغي أن يكون كذلك، لأن الضرائب لا تصنع المجتمعات القوية، وإذا ما كانت الشراكات الاقتصادية الكبرى مع الخارج، سواء المعلن منها حتى الآن أو المقبلة، ستنتقل سريعا من الورق إلى التطبيق.. وثمارها ستشمل المجتمع بصورة مباشرة، وعلى قمتها، فرص العمل، فإن تنمية بلادنا الجديدة، تحتاج لعقولها وكفاءاتها وخبراتها.. وحاجتها لدرجة النظافة الفكرية لا تقل شأنا لدواعي ديمومة مظلتها الأمنية.