الرهان على نظام المحافظات لحل الإشكاليات الإقليمية.. «الخريف أنموذجا»
د. عبدالله باحجاج
الكل يشتكي من حالتي الازدحام المروري والاختناقات في المدن والسهول والعيون، بل في كل مكان من ولاية صلالة، والكل يطالب بمزيد من الخدمات في البنية الأساسية في محافظة ظفار، وكذلك المرافق بما فيها الترفيهية، وكل من زارها عن طريق البر، تساءل، لماذا الصمت على تأخير ازدواجية طريق أدم ـ ثمريت، ولماذا الصمت على شبه انعدام الخدمات فيه؟ وهو الطريق البري الوحيد الذي يربط محافظة ظفار بمجموع ترابها الوطني، ومنه بمحيطنا الخليجي الغائب الحاضر تقريبا عن خريف 2021، وهو يشكل النصف تقريبا في أعداد السياح لكل مواسم الخريف السابقة، فكيف لو سمحت لهم ظروف كورونا بزيارة ظفار الآن؟ وكيف لو فتح الطريق البري الجديد بين مسقط والرياض؟ والسعوديون يشكلون نصف سياح الخليج ؟.
تلكم الإشكاليات تتكرر وتتعاظم سنويا، وحلها لن نجده في استمرارية المقاربة المركزية وإنما اللامركزية، والأخيرة نجدها الآن تتمثل في نظام المحافظات الصادر بالمرسوم السلطاني 101 / 2020، فالنظام اللامركزي هو الوسيلة الفعالة التي نراهن عليها في استحقاق الأجندة الإقليمية للمحافظات، وهذا سيترتب عليه، تحويل بوصلة المطالبات والاستياءات من رأسية إلى أفقية، ويصبح معه كل الفاعلين الإقليميين في كل محافظة تحت ضغوطات مجتمعاتها المحلية لتحقيق الإنجازات وفق استحقاقاتها الزمنية، وأهميتها المكانية والاقتصادية.
كنت أتأمل في حالات الاستياء المذكورة في مقدمة المقال من خلال الاعتماد على المقاربة المركزية التي لم تنجح طوال العقود الماضية في تطوير السياحة، وحتى لما تدخلت أمس الأول بعد موجة الاستياء، لم تلامس الإشكالية الآنية، وقفزت فوقها، ولوحت بالخطط، ومن ثم تساءلت: لماذا لم يتم تفعيل نظام المحافظات الجديد حتى الآن؟
لم أقرر تحويل هذا التأمل إلى مشروع مقال، إلا بعد أن صدر قرار من معالي السيد وزير الداخلية بشأن تنظيم الشؤون المالية للمحافظات يمنحها استقلالية إضافية في الصلاحيات المالية، عندها ظهر لي المشهد اللامركزي غائبا في استحقاقات السياحة في ظفار قبل نظام المحافظات وبعده حتى في أبسط المطالب.
ومن المخجل سماع مطالب الزوار والسياح بدورات مياه، وكذلك انقطاع المياه عن المنازل في مدينة صحلنوت في استمراريتها السنوية، وفي وقت ذروة السياحية الخريفية، وستحاسبنا الأجيال على اندثار موروثاتنا ذات القيمتين «التاريخية والسياحية» كولاية مرباط «بيت سيدوف أنموذجا» التي أصبحت بين الأطلال وصراع البقاء.. رغم وجود مؤسسات دولة تعنى بها، وهذا كله في عصر المركزية، لذلك تظل الرهانات الآن على نظام المحافظات الجديد، والرهانات كبيرة ومتعاظمة وشاملة الخدمية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية بعدما صدر قانون المحافظات والشؤون البلدية الجديد.
والمتأمل في اختصاصات المحافظات الجديدة، سيرى طبيعة ما نراهن عليه في اللامركزية، ومهما كانت الصلاحيات، ستظل القضية متوقفة على الأداء، وهذا الأخير على القيادات، فقضايا مثل دورات المياه في الأماكن السياحية، وانقطاع المياه عن المنازل في كل خريف، تتعلق بالأداء وليس بالاختصاصات، ولو توقفنا قليلا عند بعض اختصاصات المحافظات الجديدة، مثل:
- تنمية، واستثمار موارد المحافظة، والترويج لها من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل للمواطنين، وذلك بالتنسيق مع الجهات المختصة.
- العمل على الاستفادة من المقومات السياحية والتراثية المتاحة، وذلك بالتنسيق مع الجهات المختصة.
- إنشاء، وإدارة المرافق البلدية.
- العمل على استيفاء احتياجات المحافظة من المرافق العامة غير البلدية، والخدمات الحكومية الأخرى، وذلك بالتنسيق مع الجهات المختصة.
- الحفاظ على سلامة البيئة، وذلك بالتنسيق مع الجهات المختصة.
- تنفيذ المشروعات الإنمائية، وتذليل الصعوبات التي تواجهها، وذلك بالتنسيق مع الجهات المختصة.
- المشاركة في إعداد مشروعات خطط التنمية.
فماذا سنخرج منها بغير ما أوضحته سالفا؟ سيرى أن مثل هذه المهام الجسام الملقاة على عاتق المحافظات الآن، تستوجب إقامة مركز للتخطيط الإقليمي للتنمية الشاملة في كل محافظة، للتخطيط وتحدد أولويات كل محافظة من واقع الحاجة الفعلية في أطرها الزمنية والمكانية والاقتصادية، والمجمع عليها من قبل كل مجتمع محلي، وعليه يكون كل شركاء مجتمع محلي معنيين ومسؤولين مباشرة عن تنميتها الإقليمية ضمن خطط وقوانين الدولة.
لو توقفنا عند اختصاصات تنمية واستثمار موارد المحافظة، والترويج لها من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل للمواطنين، فحسبنا بها مبررا لإقامة هذا المركز، وجعله الشغل الشاغل للمجتمعات المحلية، فسنرى أن بعض المحافظات قد فوتت على نفسها فرصا ترتقي إلى التاريخية، لعدة أسباب منها المركزية، وسنأخذ مثلا على ذلك، مشروع المدينة المتكاملة المتعددة الأغراض المأمول إقامتها في مدينة السعادة بولاية صلالة - وقد كتبت عنها أربعة مقالات منشورة - فقد تمت عرقلتها للأسباب سالفة الذكر، هذه المدينة كانت تقع على أرض بلدية ظفار، وهي مدينة تجارية سياحية سكنية متعددة الأغراض، أهم مرافقها إقامة سوق للخضار والفواكه ومطاعم ومقاهٍ ومخازن عددها (14) مخزنا ومحلات للتجزئة، ومنطقة سكنية مكونة من (19) مبنى من خمسة أدوار على أنماط إسلامية وعربية ومصرية وآسيوية ويونانية ولاتينية ورومانية وهندية وفرنسية.
ستبلغ تكلفة هذا المشروع قرابة (100) مليون ريال عماني، ومدة الاستثمار (50) سنة، وستوفر (1200) فرصة عمل مباشرة، و(1500) غير مباشرة، كما ستدخل لخزينة بلدية ظفار أكثر من (400) ألف ريال عماني سنويا كإيجار الأرض، غير ضرائب البلدية الأخرى على المشروع نفسه أو المستنفعين منه، مع إمكانية رفع تلكم العوائد كل خمس أو عشر سنوات، وبذلك ستكون للبلدية موارد مالية ثابتة ستعزز بها مشروعاتها الخدمية والتنموية.. « ملاحظة: المعلومات منقولة من مقالاتي المنشورة»
وهذه المدينة الجديدة ستمثل نقلة بثنائيتها المزدوجة «النوعية والكمية» في محافظة ظفار، ولها انعكاسات على عموم الوطن، ولفوائدها المتعددة، كان ينبغي ألا تعرقل أبدا، بل تفتح لها كل الأبواب، لأنها تتقاطع وتتناغم مع التحولات الاقتصادية الكبرى لرؤية 2040 التي تركز على الاستثمارات المولدة للمال والمنتجة لفرص عمل، كما أنّ كل محافظة من محافظات البلاد، خاصة تلك التي لها جاذبية سياحية عالية كظفار، تحتاج لمثل هذه المشروعات لتعزيز واجهتها السياحية وتطوير خدماتها لساكنتها الدائمة والمؤقتة.
وتصوروا حجم العائد المالي السنوي الذي سيدخل لخزينة البلدية لولا عرقلته؟ وتصوروا عدد فرص العمل التي سيوفرها المشروع ؟ وتصوروا لو أقدمت محافظة ظفار على استثمار أراضيها تجاريا، وما أكثرها، فهل ستعاني المحافظة من نقص السيولة في مرحلة تذبذب أسعار النفط؟
هل لا يزال هناك أمل في المدينة التجارية متعددة الأغراض؟ حتى لو كان موجودا الآن، فمن اليقين أنه لن يكون بحجم الفوائد المتعاظمة المشار إليها سابقا بسبب جائحة كورونا، فمستثمر هذا المشروع، كان متحمسا له أكبر من الكثير من العمانيين، لأسباب ترجع لرغبته في تقديم منفعة مستدامة وكبيرة لوطنه الأم، حماسه نزل كثيرا، وحتى لو بحثنا عن غيره، فلن تكون حجم المنفعة المالية أو مدتها الزمنية الطموحة والواعدة مثلما كانت سابقا، وقد تنخفض العوائد المالية للبلدية إلى النصف، وقد ندخل في آجال زمنية طويلة لتنفيذ المشروع.
ومكتب وزير الدولة وبلدية ظفار، يعلمان ذلك الآن، ونعلم الآن كذلك أن هناك استعدادا كاملا لتسليم المستثمر هذا المشروع، لكن عنصر الزمن وأحداثه غير مواتية، وقد نواجه صعوبة في إقناعه، وحتى لو تم رفع الجانب المعنوي عنده، فستكون الشروط مختلفة ولصالحه وإلى النصف إن لم يكن أكثر، لذلك تم تفويت هذه الفرصة على الوطن، وقد كان المجتمع والسياحة والحركة الاقتصادية والتجارية في عمومها لظفار في أمس الحاجة لهذا المشروع.
لذلك، فنظام المحافظات الجديد، ينبغي إشراك فاعليته المحلية في التفكير والتخطيط والتنفيذ والرقابة، وهذا هو النموذج الإداري الذي يصلح لبلد كبلادنا في حجمها الجغرافي الكبير، وفي قوة مجتمعاتها المحلية المتعددة، والمتوزعة على جهويات تاريخيا، تشكل خصوصياتها المتنوعة في إطار وحدتها الجامعة، وهذا النموذج قد يتطور في مرحلة لاحقة إلى اللامركزية الاقتصادية التي هي وعاء لكل أنواع اللامركزية بما فيها الإدارية، بحيث نتأمل من خلالها إقامة اقتصاديات إقليمية بأجندة وطنية في مرحلة وسطية من تأسيس النهضة المتجددة - قد نتناولها في مقال مقبل -.