روضة الصائم

جامع ابن بركة

د. سعيد بن سليمان الوائلي- كلية العلوم الشرعية - عندما يتواصل حمل لواء العلم فيقوم العلماء المخلصون بدورهم من حمله وأدائه.. خلفا عن سلف، فإن ذلك إنما يثبت لنا أهمية الحركة العلمية في الحياة الإنسانية.. وكان من أوضح الأمور في سابق العهد: ما نقله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى التابعين لهم بإحسان من علم شرعي نافع للعامة والخاصة، ثم تناقله العلماء بعد ذلك من جيل إلى جيل. ومن الكتب العمانية في مجال العقيدة الإسلامية ومما كتبته الأيادي العمانية: كتاب الجامع لابن بركة، وسنتعرف على هذه الكتاب وصاحبه بما يعطي نبذة مختصرة، لتحمل في الذهن تصورا عنه، ومن أراد المزيد فعليه أن يرجع إلى الأصل وما كتب حوله يكون إلمامه به أوسع. وقد مر علينا سابقا التعريف بالشيخ ابن بركة، ولكن لا بأس أن نعيد ذكره مرة أخرى، فإنه الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن بركة السليمي البهلوي، الشهير بابن بركة، من كبار علماء القرن الرابع الهجري، وقد أخذ العلم عن الشيخ أبو مالك غسان بن محمد الصلاني، والإمام سعيد بن عبد الله (ت: 328هـ). وإن من أهم ما يثبت المكانة العلمية والدرجة العالية للشيخ ما يوصف به من أنه كان أصوليا وفقيها ومتكلما، وكان ذا معرفة كبيرة بالعربية، وأنه يعتبر أول من كتب في أصول الفقه من علماء عمان. أما في الناحية العلمية والتعليمية وما يرتبط بمراعاة طبقات المجتمع فيما يهمهم من ذلك، فقـد كان له أثر بارز لا يخفى، ظهر فيمن تتلمذ على يديه في مدرسته التي أنشأها ببهلا، وأوقف عليها أموالا، وكان من أبرز تلامذته تلميذه أبو الحسن علي بن محمد البسيوي، وقد ذكر أن للعلامة ابن بركة طلبة علم أتوه من خارج عمان. أما كتابه الجامع، فإنه كتاب كاسمه جامع لأصول الدين وأبواب الفقه، وما يشمله من آراء أئمة العلم والشريعة في المسائل المختلفة. ومن مسائل العقيدة التي عرضها ابن بركة في جامعه: مسألة القرآن دليل بنفسه وأنه معجز بعجيب نظمه، والقول في المتشابه، وباب فيما يوجب العقل في باب التوحيد وإثبات النبوة، وغيرها من المسائل المتعلقة بأصول الدين. ونعرض هنا مقتبسا من نصوص كتاب الجامع لابن بركة، وذلك فيما يتعلق بباب العقيدة، ومن أراد مزيدا فعليه الرجوع إلى الكتاب، وهو مطبوع ومتداول. قال في الجامع ما نصه: (وقد زعم قوم من أهل الكلام أن الحجة في القرآن إنما هو ما فيه من الأخبار عن الغيوب، والله جلّ ذكره منع العرب وصرفهم عن معارضته، إلا أنه في نفسه معجز، قيل لهم: لو كان هذا على ما ذكرتم كان الواجب في الحكم أن يستحق نظمه لأن الأعجوبة في عجزهم علة مع قدرتهم على ما أجود منه وأفصح كائن يكون أعظم وأجل وأدلّ على المراد) . وهذا النص من مسألة جعلت بعنوان: مسألة القرآن دليل بنفسه، ونجد فيما قاله العلامة ابن بركة ردا على طائفة من أهل الكلام، أنه يبين إعجاز القرآن العظيم في نظمه وتراكيبه، وليس الإعجاز بصرف المعارض عن الإتيان بمثله، وهذا جزء من الإيمان بالكتاب الذي أنزله الله تعالى، وهو من أركان الإيمان المعروفة في أصول الدين. وقال في باب مسألة القول في المتشابه: (ولو كان القرآن كله محكما لا يحتمل التأويل ولا يمكن الاختلاف فيه لسقطت المحنة فيه وتبلدت العقول وبطل التفاضل والاجتهاد في الأسبق إلى الفضل واستوت منازل العباد، والله يتعالى أن يفعل ما هذا سبيله، بل الواجب في حكمته ورحمته ما صنع وقدر فيه، إذ جعل بعضه محكما ليكون أصلا يرجع إليه وبعضه متشابها يحتاج فيه إلى الاستخراج والاستنباط ورده إلى الحكم وإعمال العقول والفكر). وهذا النص واضح فيه إثباته لموقف التأويل للآيات المتشابهات وردها إلى الآيات المحكمات، وهذه القضية قد وقف الناس فيها مواقف متباينة أثبت العلماء أصولها في مواضعها من كتب أصول الدين وعلم الكلام، وإنما ذكرنا لها هنا للاستشهاد بنص من كتاب الجامع على عرضه لمسائل متعلقة بأصول الدين. وبالتصفح في الجامع نجد طرحا لمسائل العقيدة يتم عرضها بأسلوب علمي من قبل عالم متمكن في الأصول، ويوجه إلى القول فيها بما يراعي في المقاصد الشرعية.