روضة الصائم

البنيان المرصوص

يحيى بن سالم الهاشلي - إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي - إن من الأسس التي حرص الإسلام على بنائها العلاقات الإنسانية بين أفراد الأمة، فنجد أن الله سبحانه وتعالى قرن توحيده بالعبادة بوحدة الأمة فقال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، كما وجه سبحانه العباد للزوم الوحدة والاعتصام بها مذكرًا إياهم بحالهم قبل نعمته عليهم بالألفة بينهم فقال عزوجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، وتأكيدًا لهذا الأمر حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تحقيق وحدة المجتمع المسلم ونبذ كل ما يؤدي إلى الاختلاف والفرقة، وكان من أعظم أعماله المصالحة بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين كانت بين أفرادهما نزاعات دموية، وكذلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الذين شكلوا أول نواة لمجتمع مسلم ولدولة الإسلام. نجد في السنة النبوية المطهرة اهتمامًا عظيمًا بفكرة وحدة المجتمع المسلم، فيشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- حال المؤمنين بحال البنيان المتماسك فيقول: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)، كما يضرب المثل بحال المؤمنين في علاقتهم بعضهم ببعض بمثال بليغ بقوله: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الأَعْضَاءِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)، فالتشبيه بحال الجسد في تلاحمه وتداخله وافتقار كل عضو فيه للعضو الآخر ليعلم المؤمن منزلته في المجتمع والعلاقة التبادلية في احتياج كل فرد للآخر القائمة على التواد والتراحم. كما توجه السنة الشريفة أبناء المجتمع المسلم لكل ما فيه حفظ تماسكهم ووحدتهم، فقد وردت جملة من الأحاديث ترشد لسلوكيات تعزز من روح الأخوة والتآلف وأخرى تنهى عن أمور تؤدي إلى الشقاق والخلاف، فمما ورد في الحث على خصال التآلف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، كما يرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمور بسيطة تحقق الألفة بين الأفراد كالهدية فقال: (تَهَادَوْا تَحَابُّوا)، بل ولو كانت تلك الهدية ساق شاة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحَرَّقٍ)، فإن للهدية أثرا في كسب الود وإزالة الحقد ولو كانت من أقل الأشياء قيمة، بل يوجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المسلمين لكسب ود الناس بحسن التعامل فيقول: (إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ)، كما يبين أن من خصائص كمال إيمان المؤمن الألفة مع إخوانه ففي الحديث: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ)، وما ذلك إلا لتحقيق الانسجام والائتلاف بين أبناء المجتمع، كما يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إزالة الخصومة بين الأفراد وأنها حالة وقتية لا ينبغي أن يطول أمدها فيقول: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ)، وكذلك مما يدخل في حق الإخوة الإيمانية رفع الظلم الواقع على المسلم أو منه بنصرته فجاء في الحديث (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ: «تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ»، إذ وجود الظلم من الأفراد مؤذن بزوال الألفة منهم واتحاد كلمتهم. كما جاءت التوجيهات النبوية المحذرة من السلوكيات والأعمال التي تؤدي إلى النزاع والافتراق بين أبناء المجتمع المسلم، فيبين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة المسلم بقوله: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)، فالأصل أن ثمرة الإسلام تتجلى في حياة المسلم بكف نفسه عن أذية غيره بفعل أو قول، بل يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من سوء عاقبة من يؤذي الغير بسيئ الأفعال فيقول: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)، ومن أجل ذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن جملة من السلوكيات التي تفكك الروابط الأخوية بين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا)، كما نهى عن السعي بما يفسد الألفة بين أبناء المجتمع كالنميمة، فقال عن جزاء النمام (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ) كما وردت حادثة فيها عظم جزاء المشي بالنميمة مع استسهال فاعلها لها فروي (مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ». من خلال العمل بهذه التوجيهات النبوية السامية سيحفظ المجتمع وحدته وألفته ويبعد عنه شبح الفرقة والخلاف، ليكونوا كما أرادهم الله ورسوله إخوانا كالبنيان المرصوص.