الحقوق.. رؤية مجهرية «4»
الجمعة / 11 / رمضان / 1440 هـ - 23:00 - الجمعة 17 مايو 2019 23:00
هلال بن حسن اللواتي -
لقد بينا أن الوجود يدار بشكل منظم موحد منتظم، وقلنا إن المسافات التي بين الكواكب ووجود الجاذبية ذات الأثر المزدوج هو أمر واقعي وضروري بين الكواكب وكذا المجرات، لو قلصت هذه المسافات أو تباعدت وبشكل عشوائي لأدى ذلك إلى اختلالٍ كونيٍ طبيعيٍ، وهذا ما يمكن التعبير عنه بـ«النظام الكوني» الذي لا يمكن تصور أي كائن من الكائنات الموجودة فيها غير مشمولة به، أو مستثنية عنه، فإن ما نشهد من الواقع من جهة، وما تثبته الأجهزة المخبرية من جهة أُخرى، وما تثبته الدراسات الميدانية من جهة ثالثة ليقودنا إلى تبني والاعتراف بهذه الحقيقة.
وبقليل من التأمل فيها سننتهي إلى تشخيص أمرٍ مهمٍ جدًا وهو: أن ما يتمتع به هذا الكائن والمخلوق من عناصر وجوده كحركاتٍ وسكناتٍ وقابلياتٍ واستعداداتٍ وتقنينٍ، وأن هذه العناصر هي التي تُقَوِّم شخصيته الواقعية، وبها يتكامل تكوينه الوجودي، وهي غير دخيلةٍ عليه بحيث يمكن سلبها عنه ويبقى بعد ذلك السلب ذلك الكائن أو المخلق؛ بل إنها متأصلةٌ في صميم تركيبتها الوجودية، وهذا ما يجعلها في موقع الحاجة إليها احتياجًا ذاتيًا لزوميًا، فإذا انتهينا إلى أن العلقة بين العناصر التكاملية المقومة وبين الكائن والمخلوق هي علقةٌ وجوديةٌ ذاتيةٌ لزوميةٌ وغير قابلةٍ للسلخ أو الانسلاخ ففي هذه الحالة يكون لسان حالها هو: أن تلكم العناصر «حقٌ» لازمٌ لي، ولا يجوز سلبه عني، وهذا يعني أنه «حقٌ» من حقوقه الذاتية، لأن لازم سلبه الإخلال بالنظام الطبيعي القائم عليه، إذن.. فإن «منشأ هذا الحق لهذه الكائنات والمخلوقات هو: طبيعةُ خِلقتها التي أوجدها خالقها فيها»، فافهم، وتأمل جيدًا، فلو أردنا أن نقوم بعمل ما سواءٍ أكان هذا العمل على مستوى الطبيعة الأرضية أو كان على مستوى الطبيعة الكونية؛ فلابد من ملاحظة النظام الوجودي الذي يربطها؛ ويُقِوِّم وجودها الذاتي، وينظر إلى احتياجاته ومتطلباته، وبعد هذه المعرفة تنتقل المرحلة اللاحقة إلى التعامل معها وفق هذا الاحتياج الذاتي التكويني، وإلا فمع عدم معرفة هذه الطبيعة؛ وذلك النظام الوجودي لن يُعطى الكائن حقه اللازم له، وبذلك يكون العامل فيها غير منصف معها نصفاً عدلاً، وهو مسوق لسلب الحق لذلك الكائن، والعلاقة بين «عدم المعرفة» وبين الوقوع في «عدم إعطاء كل ذي حق حقه» لأمر بديهي، وهو ما تسالم عليه العقلاء، وإثباته موكول إلى محله، وهو خارج عن محل طرحنا الآن.
وهنا نقول بأن حق الكائنات حق ذاتي، ناشئ من ذاتيات صميم التركيبة الوجودية لخلقته ولصناعته، وهو أمر غير خارج عنه، كما أنه ليس مضاف إليه من وضع واضع، وهذا كله ليؤكد لنا بأن مثل هذا الترابط العميق بين الكائنات الحية غير الحية بضرورة أن الاحتياج الطبيعي يكشف عن «حق ذاتي»، وهو حق غير اكتسابي، وغير موضوع من قبل واضع بوضع اعتباري، فإذا كان هذا الحق حقًا ذاتيًا فلازمه تقنين التشريع وفق ضرورة الاحتياج وفق متطلبات الذات، وإلا فإن الغفلة عن هذا الاحتياج الذاتي سيوجب «سلب الحق»، ومنه تعم الفوضى في عالم الطبيعة، وبما أن الإنسان ليس في معزل عن هذه الحياة وعن هذا العالم؛ فإنه حتمًا وجزمًا سيناله نصيبه من هذه الفوضى الطبيعية، وبما أن الإنسان هو الوحيد في هذا العالم الذي هو المالك «للعقل»، فيملك أدوات التنظيم، وآليات الحفاظ على النظام البيئي ومنظومته العملاقة الدقيقة، فهو المسؤول الأول على ما سيسنه من القوانين والتشريعات التي تصب الأغلب الأعم منها في صالح نمائه، وفي مصلحة مدنيته، فهو في سبيل تحقيق هذه المدنية أن لا يغفل عن أهم ما يسعى إليه وهو «الحضارة» التي تساوق في مفهومنا «المدينة الفاضلة».
وبناء عليه ننتهي إلى أن الإنسان مهما تقدم ومهما تطور في الماديات إلا أنه يظل سجينًا لجهله المركب، ولأناه وكبريائه، ولغروره وغطرسته، فيوهم من لا علم له ولا معرفة أنه يملك مفاتيح النجاح والسعادة، وأنه قادر على تحقيق الحقوق بأمميته ومجالسها، وكيف يمكن ذلك وقد نخر في تلكم المجالس الأممية والجمعيات الأممية نفوذ ذوي المال، فكيف سيصبح الحق حرًا، وهو يزور بحبر من الذهب، وكيف سيصبح عادلًا وظلمه يتوج بهتافات وتصفيق، إن البشرية بهذا العمل قد عرضت نفسها لانقلاب عالم الطبيعة، ولتحرك القانون التكويني، وهو وإن بدا مهملاً إلا أنه في الحقيقة يمهل الظالم، قال تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)» الإسراء، وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »{الروم/9}، وقال تعالى: «اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44)»{فاطر}.