الخطاب الديني روائع الأصالة وجماليات المعاصرة (7)
الجمعة / 25 / رمضان / 1440 هـ - 23:00 - الجمعة 31 مايو 2019 23:00
هلال بن حسن اللواتي -
حقا أن التحدث مع الآخرين فن ذو لياقة عالية جدًا، وفيه تستكشف جماليات النفوس، وعليه يُعتمد كثيرًا للتقارب أو للتباعد، ولو استخدمت كلمات اللطف في الخطاب عامة جذب، وأما لو استخدمت كلمات العنف دفعهم عن صاحبه، والخطاب الديني لا يختلف في هذه الجزئية عن الخطابات عامة، وسوف نتعرض في هذه الحلقة إلى نصوص شريفة تؤكد على هذه الحقيقة، فإلى تكملة العناصر الأخيرة أولا ..
فالعنصر الحادي عشر هو الخطاب ونفسية الخاطب، فان نفسية الخاطب كيفما تكون تترك أثرًا على الخطاب، وبالتالي على المستمع، وهذا لا يمكن إخفاؤه عن المستمع أبدا، فان المستمع يملك من القدرة والتمييز في كلمات الخاطب، وفي خطابه، ويكون ذلك كاشفا على نفسيته وحقيقته، ومن هنا سنجد أن المستمع سينطبع في ذهنيته أن الخاطب ومنطقه يكشف عن أمرين وهما: الأمر الأول: إن الخاطب غير مقتنع بما يقوله، وهذا الأمر يترك أثرا سلبيا على المستمع بحيث يجعله لا يثق بما يقول به الخاطب، وبالتالي قد يجعل كلامه في حيز الاستحالة الوقوعية أو الذاتية، الأمر الثاني: إن المستمع يرى عدم تأهل الخاطب للخطاب، فان المرض، والحيرة، والقلق ليؤثر على الخاطب وخطابه، وبالتالي يترك أثرا سلبيا على المستمع، الأمر الذي لا يستطيع المستمع أن يصل إلى مراد الخطاب الحقيقي، ولا يقدر على استيعاب ما يقوله، إضافة إلى أن هذا يشتت المستمع، ولا يمكنه أن يركز فيما يقوله الخاطب، والسبب لأن نفسيته تؤثر على المستمع بشكل تلقائي ولا شعوري.
وأما العنصر الثاني عشر والأخير فهو الحالة البدنية، (الصحة البدنية)، فإن الحالة التي يكون فيها البدن ليؤثر على الخطاب، فلذا نجد عدم النصح في الدخول إلى الحوارات والبدن مريض، أو يكون في حالة يريد البدن أن يفرغ المعدة أو المثانة مما فيهما من الحاجات، ونشاهد الشريعة المقدسة تنصح القاضي بألا يدافع كي لا يؤثر ذلك على قراراته، وحكمه، فتنصحه أن يفرغ بطنه حتى لا يقع في مشكلة بدنية، وبالتالي يريد إنهاء جلسته وبسرعة؛ كي يلحق نفسه إلى بيت الخلاء قبل أن يبتلى بالنجاسة في بدنه، وبالتالي تلحقه الفضيحة والإحراج، فهذه المدافعة تؤثر على قراراته وأحكامه المصيرية الخطيرة.
والآن بعونه تعالى سوف نقوم بإيراد الروايات والنصوص الشريفة التي تحمل تعليمات وإرشادات جميلة جدًا للخاطب، وتبين له مقومات نجاحه، ونستفتحها بالآية القرآنية الكريمة، فقد جاء في الكتاب العزيز في قوله تعالى في سورة البقرة: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا»، والآن ليكون التالي بما جاء عن النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين- وكيف كانت شخصيته المباركة روحي وأرواح العالمين فداه، فقد ورد عن سبطه الإمام الحسن حيث سأل خاله هند بن أبي هالة عن وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لتنبئ عن المستوى العالي الذي وصله صلى الله عليه واله في إدارته لذاته أولا وبالذات، ومن ثم في إدارة خطابه ومنطقه وحواراته، حيث نجد كل ما ذكرناه من العناصر الاثني عشر تتجسد وتتجلى في نمط حياته صلى الله عليه واله الطاهرين، والرواية هي: عن الحسن بن علي عليهما السلام قال سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي وكان وصّافا للنبي صلى الله عليه وآله: أنا اشتهي أن تصف لي منه شيئا لعلي أتعلق به فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله فخما، مفخما.. فقلت: فصف لي منطقه.
فقال: كان صلى الله عليه وآله متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السكت (السكوت)، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم؛ فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا، لينا، ليس بالجافي، ولا بالمهين، تعظم عنده النعمة وان دقت لا يذم منها شيئًا، غير أنه كان لا يذم ذواقًا ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم يفتر عن مثل حب الغمام».
وورد عنه صلى الله عليه وآله الطاهرين: «رحم الله عبدا تكلم فغم، أو سكت فسلم، إن اللسان أملك شيء للإنسان، ألا وأن كلام العبد كله عليه إلا ذكر الله تعالى، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو إصلاح بين المؤمنين». فقال له معاذ بن جبل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نتكلم؟، فقال له: «وهل تكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم، فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه»، وورد أيضا: «من حسن إسلام المرء، تركه الكلام فيما لا يعنيه»، ومر صلى الله عليه وآله الطاهرين «على امرأة وهي تبكي على ولدها، وهي تقول: الحمد لله مات شهيدًا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف أيتها المرأة ؟ فلعله كان يبخل بما لا يضره، ويقول فيما لا يعنيه».