الدعاوى الحدية (16)
الجمعة / 25 / رمضان / 1440 هـ - 23:00 - الجمعة 31 مايو 2019 23:00
فضيلة الشيخ زهران بن ناصر البراشدي - قاضي المحكمــــة العــليا -
أما الإنشاءات كالبيع والهبة فحيث إنها إيجاب فيمتنع تخلفها عن مدلولها الوضعي.
ذلك أن: حكم الإقرار هو ظهور المقر به لا حدوثه بداءة يعني ظهور أن الملك المقر به كان قبل الإقرار ملكا للمقر له وليس حدوث ملكية المقر له في المقر به ولا إنشاء ملكية.
ولهذا لا يكون الإقرار بناء عليه سببا للملك، فلو ادعى المدعي على المدعى عليه شيئا وجعل سببه إقراره فقط لا تسمع دعواه، مثلا لو ادعى المدعي بقوله: إن هذا المال ملكي وإن هذا الرجل -الذي هو ذو اليد- قد أقر بأنه مالي فهنا تسمع دعواه وأما إذا ادعى بقوله: إن هذا المال لي لأن هذا الرجل الذي هو ذو اليد قد أقر بأنه مالي، فلا تسمع دعواه.
وكذلك لو ادعى بقوله: إن لي في ذمة هذا الرجل كذا درهما من جهة قرض حتى إنه قد أقر بأنه مدين لي بهذا المبلغ من هذه الجهة فتسمع دعواه.
أما لو ادعى قائلا: إن هذا الرجل قد أقر بأنه مدين لي بكذا درهما من جهة قرض فلذلك إن لي في ذمته كذا درهما واطلبها منه فلا تسمع دعواه.
أما على الرأي الآخر وهو أن الإقرار حجة على المقر مع كمال الأهلية فيكون سببا للملك والمال المقر به حلال للمقر له ما لم يعلم يقينا أن المقر كاذب في إقراره.
والأمثلة الآتية يمكن تصورها في الوجهين معا.
مثلا لو ادعى المدعي قائلا: إن هذا المال لي وإن هذا الرجل الذي هو ذو اليد عليه قد أقر بأنه لي فتسمع دعواه وتسمع شهود على إقراره هذا لأن المدعي لم يتخذ في هذه الصورة الإقرار سببا للملك بل اتخذه دليلا على مدعاه.
أما إذا لم يوجد شاهد يشهد على الإقرار فلا يحلف المدعى عليه على كونه لم يقر بأن ذلك المال ملك للمدعي بل يحلف على أنه لم يكن ملكا للمدعي.
لو ادعى المدعي قائلا: بأن المدعى عليه قال لي عن المال الذي في يده إن هذا المال لي وسلمه إلي تسمع دعواه، لأنها تكون دعوى هبة والهبة سبب ملك.
أما لو ادعى المدعي قائلا: هذا المال لي لأن هذا الرجل الذي هو ذو اليد عليه قد أقر بأنه لي، لا تسمع دعواه؛ لأنه قد اتخذ الإقرار سببا للملك. كذلك لو ادعى أحد على الدار التي تحت يد شخص آخر قائلا في دعواه إن هذه الدار كانت لوالدي وقد تركها لي ولأختي فلانة إرثا وبعد وفاة والدي قد أقرت أختي المذكورة بأن جميع الدار لي وقد صدقتها في ذلك فلا تصح دعواه في ثلث تلك الدار الذي لأخته.
إذا تخاصم الزوجان في الدعاوى مدة مديدة فادعى الزوج بأن الزوجة قد أقرت بأن المدعى به ملكه أثناء الخصومة وفي حضور القاضي فلا تسمع دعواه»
قلت: وقد سبق أنَّ الإقرارَ حجةٌ على المقر مع كمال الأهلية، وقد بحثت ذلك في تطبيقات القواعد بما يغني عن الإطالة هنا.
لو أمكن توفيق الكلامين اللذين يريان متناقضين ووفقهما المدعي أيضا يرتفع التناقض، فمثلا: لو أقر أحدٌ بأنه كان مستأجرا للدار ثم ادعى أنها ملكه لا تسمع دعواه. ولكن لو قال كنت مستأجرا ثم اشتريتها يكون قد وفق بين كلاميه وتسمع دعواه.
كذلك لو ادعى أحد على آخر دراهم معلومة المقدار من جهة القرض وأنكر المدعى عليه ذلك بقوله: ما أخذت منك شيئا أو لم يجر بيني وبينك أيُّ معاملة مطلقا، أو إنني لا أعرفك مطلقا، وأقام المدعي البينة على دعواه، فادعى المدعى عليه بعد ذلك قائلا: قد أوفيتك ذلك المبلغ، أو كنت أبرأتني منه. فلا تسمع دعواه للتناقض.
وكذا لو قال المدعى عليه في رده على دعوى المدعي: ليس لك علي دين قط، وبعد أن أقام المدعي البينة ادعى المدعى عليه قائلا: نعم كنت مدينا لك ولكن أوفيتك إياه أو أبرأتني منه وأثبت ذلك بدفع المدعي، وكذلك لو ادعى أحد وديعة على آخر وأنكر المدعى عليه بقوله: ما أودعت عندي شيئا وأثبت المدعي ذلك، وقال المدعى عليه بعد ذلك كنت رددتها وسلمتها إليك فلا يسمع دفعه هذا ويأخذ المدعي الوديعة عينا إن كانت موجودة في يده ويضمن قيمتها إن كانت مستهلكة.
وأما لو أنكر المدعى عليه دعوى المدعي المشروحة بقوله ليس لك عندي وديعة ثم أقام المدعي البينة وقال المدعى عليه بعد ذلك كانت لك عندي تلك الوديعة ولكن رددتها وسلمتها لك فتسمع دعواه.
قلت: وفي هذا إشكال واضح إذ لا فرق بين المسألتين فكيف تسمع دعوى الرد؟! فلتأمل.
إذا قال أحد: أبرأت فلانا من جميع الدعاوى أو ليس لي عنده حق مطلقا يكون إبراء عاما فليس له أن يدعي بحق قبل الإبراء حتى لو ادعى حقا من جهة الكفالة لا تسمع فعليه لو ادعى بقوله: أنت كنت قبل الإبراء كفيلا فلا تسمع دعواه كذلك لا تسمع دعواه على آخر بقوله: أنت كنت كفيلا لمن أبرأته قبل الإبراء.
إذا قال أحد: أبرأت فلانا من جميع الدعاوى، أو ليس لي طرفه حق مطلقا أو ليس لي معه دعوى مطلقا، أو أبرأته من كل حق لي فيكون إبراءً عاما فليس له أن يدعي لنفسه بحق قَبلَ الإبراء مالي أو غير مالي، عين أو دين أو كفالة، أو إجارة، أو حدود، أو قصاص، أو سرقة، أو قذف قليلا كان أو كثيرا من الحقوق كما أنه تدخل الشفعة في الإبراء العام الحاصل بتلك الألفاظ، وتسقط الشفعة قضاء أما ديانة فلا تدخل الشفعة في الإبراء إذا لم تكن مقصودة فيه.
لكن لا تدخل في الإبراء جميع دعاوى الأعيان القائمة، فعليه لو تبارأ الزوجان من جميع الدعاوى بعد الافتراق فإذا وجدت على أرض الزوج مزروعات للزوجة، أو أعيان أخرى قائمة فلا تدخل في الإبراء المذكور.
و لو ادعى حقا من جهة ثمن مبيع، أو بدل إجارة، أو قرض، أو غصب أو وديعة، أو عارية أو إرث، أو مضاربة أو تركة، أو مزارعة، أو كفالة لا تسمع للتناقض إلا إذا كانت حادثة بعد الإبراء فعليه لو ادعى بقوله: أنت كنت قبل الإبراء كفيلا بالمال، أو كفيلا بالنفس لفلان فسلمني المال المكفول به أو النفس المكفول عنها، أو قال له: كفلتك بأمرك على الدين المطلوب منك لفلان، وقد أديته له حسب الكفالة فأده لي لا تسمع دعواه كما أنه لا تسمع دعواه فيما لو ادعى بقوله: أنت كنت كفيلا لمن برأته قبل الإبراء فأد لي المال المكفول به.
كذلك لو ادعى أحد على آخر بعد أن أبرأه إبراء عاما على هذا الوجه بأن له ميراثا عن مورثه ينظر فإذا كان مورثه قد توفي قبل الإبراء فإبراؤه صحيح، ولا تسمع دعواه إلا إن كان يجهل وفاة مورثه.
كذلك لو قال أحد: ليس لي قبل فلان دين، أو أبرأت فلانا من ديني، أو تركت ديني الذي على فلان، أو جعلت ديني على فلان حلالا له فيكون إبراء عاما عن المطلوب فلا تسمع دعوى هذا الدائن حتى لو قال المبرئ: إنني قصدت بهذا اللفظ الإبراء عن بعض الدين فلا يصدق إلا أنه تسمع دعواه المتعلقة بغير الديون كالأمانات أو الغصب، أو الدار أو المزارعة، أو الحيوان.
لأن الدين من المثليات التي تتعلق بذمة المدين، وما ذكر ليس من هذا القبيل.
كذلك لو قال أحد: ليس لي أمانة عند فلان كان ذلك إبراء عاما عن الأمانة فلا تسمع دعوى منه تتعلق بالأمانة إلا أنه تسمع دعواه في الجهات الأخرى كالدين
فلذلك لو ادعى المدعي مالا فدفع المدعى عليه دعواه بقوله: إنك أبرأتني من كافة الدعاوى، أو إنك قد أقررت بأن لا دعوى ونزاع لك معي وأثبت دفعه هذا يكون قد دفع دعوى المدعي.