مستقبل العلاقات العربية البريطانية بعد «بريكست»
السبت / 13 / جمادى الآخرة / 1441 هـ - 22:20 - السبت 8 فبراير 2020 22:20
د. عبدالعاطي محمد -
بخروج بريطانيا بالفعل من الاتحاد الأوروبي بنهاية يناير 2020، يتهيأ العالم للتعامل مع ما يترتب على الخروج من تغيرات في السياسة البريطانية على الصعيد الخارجي.
ومع أنه لا تزال هناك مرحلة انتقالية للعلاقة بين الجانبين من المقرر أن تستمر نحو عامين قد تشهد تطورات مفاجئة تربك الحسابات، إلا أن الحدث في حد ذاته له نتائجه التي لا خلاف عليها، وكلها تفرض على العالم الخارجي أن يسارع الخطى للتأقلم معها من حيث تقليل المخاطر وزيادة الفرص.
من هذه النتائج أن بريطانيا ما بعد البريكست لن تكون ملتزمة بسياسات الاتحاد الأوروبي بشأن ملفات عديدة، كثير منها يتعلق بالشرق الأوسط وبوجه خاص المنطقة العربية، كملفات الهجرة، والتعاون الاقتصادي، ومكافحة الإرهاب، والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلا عن التزاماتها الأمنية التي ترتبها عضويتها في حلف الناتو المعني بشكل أو بآخر بأي تحركات عسكرية مستقبلية في المنطقة. وفي كل هذه الملفات لن يكون موقف بريطانيا بالضرورة متفقا مع موقف الاتحاد الأوروبي إن لم يكن مختلفا إلى حد كبير.
لقد سايرت بريطانيا، ذات الثقل العالمي الكبير، ولسنوات طويلة المواقف العامة التي اتخذها الاتحاد الأوروبي على صعيد القضايا الخارجية، وذلك بحكم التزامات العضوية من حيث المبدأ من جهة، وبالنظر إلى وجود ظروف سياسية داخلية كانت تؤيد بقاءها في الاتحاد ومن ثم حماستها لمواقفه من جهة أخرى. وفي الوقائع أو التطورات المفصلية في أي من الملفات الساخنة للمنطقة، كانت بريطانيا في الصدارة دائما بما جعلها حجرا مهما في بناء الاتحاد وتأثيره أو دوره في كثير من هذه الملفات، ولنا أن نتذكر على سبيل المثال لا الحصر دورها في قضية السلام عبر بوابة الاتحاد ومن خلال مبادراتها الذاتية، وكذلك في حرب الخليج الثانية. ولا شك أنها في تصدرها للقوى الدولية المؤثرة في أحداث المنطقة كانت تتقوى بالاتحاد بما له من وزن استراتيجي على الصعيد العالمي (كان 28 دولة وأصبح الآن 27). وأما الآن حيث لم تعد أحد أعضائه، فإنها تفقد هذا الدعم بما يحد من تأثير دورها الخارجي، كما أنها بالمقابل تتحرر من هذه المسؤولية وتتخذ ما تراه مفيدا لمصالحها، وقد يكون منسجما مع موقف الاتحاد أو متعارضا أو يعكس عدم الاهتمام.
وما لا يمكن تجاهله أن تاريخ بريطانيا مع الاتحاد لم يكن بالمجمل طيبا من جهتها، فمن المعروف أنها ترددت كثيرا في الانضمام عبر المراحل المختلفة التي مرت بها الوحدة الأوروبية منذ قيام الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في 1951 وصولا إلى معاهدة ماستريخت في 1992. وعندما قبلت الانضمام في 1973 فرضت شروطا، ورفضت فيما بعد التخلي عن عملتها (الجنيه الإسترليني) بينما قرر الاتحاد التعامل باليورو.
وعبر مراحل تطور بناء الاتحاد حرصت الحكومات البريطانية سواء برئاسة حزب المحافظين أو العمال على إجراء استفتاءات للانضمام من عدمه وكانت تأتي بنتائج لصالح الانضمام ولكن بنسب متقاربة لنسب المعارضين!. وظلت العلاقة ملتبسة بل وغير مستقرة يخيم عليها دائما وجود شعور وطني بأن من الأفضل لبريطانيا أن تظل بعيدة عن بقية الدول الأوروبية؛ إما ترجمة للإحساس الشعبي العام بالتفرد والتميز والاعتزاز بالماضي (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس) أو لحسابات الفائدة والخسارة.
وفي السنوات القليلة الأخيرة نما بشدة التيار الشعبي المؤيد للانفصال وكثيرا ما كان البريطانيون يرددون أنهم سيكونون أفضل حالا إذا ما تخلصوا من التزامات البقاء في الاتحاد الأوروبي. تلك الالتزامات التي يرونها تعمل لغير صالحهم، بمعنى أن بقية شعوب دول الاتحاد تستفيد على حساب الشعب البريطاني. وبالمقابل فإن دولا أخرى في أوروبا مثل فرنسا وألمانيا، وكلاهما من الوزن الثقيل، كانت تبادل بريطانيا الشعور نفسه بعدم الارتياح في العلاقة، والأولى مثلا كانت قد أعاقت انضمام بريطانيا في مراحل متقدمة من تاريخ قيام الاتحاد، ولم تتحرك عملية الانضمام إلا بعد تخلي فرنسا عن اعتراضها.
خبرة التاريخ تشير إذن إلى أنه لا بريطانيا ولا دول كبرى مثل فرنسا أو ألمانيا كانت على وفاق فيما يتعلق ببناء الاتحاد الأوروبي بما يعني أن هناك خلافا جوهريا حول السياسات الداخلية. وبما أن الوضع الداخلي يؤثر دائما وبشدة على صياغة السياسة الخارجية لأي دولة، فإن المتوقع من الخروج من الاتحاد هو تباين السياسات الخارجية بين الجانبين. وما يعزز ذلك تصاعد الاتجاهات الشعبوية واليمينية التي تثير المخاوف على المصالح الآنية والمباشرة وتبالغ في إحياء النزعات القومية لمواجهة مخاطر موجات الهجرة إلى أوروبا، فضلا عن أضرار العولمة التي سببت انكشافا لاقتصاديات عديد الدول ثم تصاعد المشاعر الوطنية بالقلق على الحاضر والمستقبل وبحسابات بريطانيا ما بعد البريكست، فإنها ترى أنها ستصبح أفضل حالا فيما يتعلق بأوضاعها الاقتصادية لأنها ستقيم علاقات تعاون تجارية ضخمة بحرية مع عديد الدول وخاصة مع الولايات المتحدة التي تتلاقى معها في كثير من الرؤى سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، وذلك بحكم تطابق الفكر بين حكومة المحافظين تحت قيادة بوريس جونسون والإدارة الأمريكية تحت قيادة دونالد ترامب.
وبناء على حقيقة التباين في المواقف والسياسات بين بريطانيا ما بعد البريكست والاتحاد الأوروبي، فإن السؤال المهم عربيا هو ما إذا كان ذلك مفيدا أو ضارا بالعلاقات العربية البريطانية. وبما أن السياسة لا تعرف المفيد المطلق ولا الضار المطلق، فإن الأرجح هو أن هناك مكاسب وهناك خسائر، ومسؤولية صانع ومتخذ القرار العربي هي أن يعلي من المكاسب ويقلل من الخسائر.
وفي سياق المكاسب فإنه بما أن بريطانيا وضعت العوامل الاقتصادية في صدر قائمة الأسباب التي دفعتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، يتعين النظر إلى أنها ستكون في حاجة ماسة للمنطقة العربية وخاصة للدول العربية الخليجية، حيث الفرص للاستثمار البريطاني الكبيرة هناك بحكم عوائد الثروة النفطية (فضلا عن الحاجة للطاقة)، وكذلك الحاجة للاستثمار في الدول الإفريقية، وذلك لتعويض الغياب عن السوق الأوروبية.
وهناك ما يؤشر على هذا التوجه حيث تخطط بريطانيا لاستثمارات في دول الخليج العربية تقدر بنحو 30 مليار جنيه إسترلينى للسنوات الخمس المقبلة. ومؤخرا شهدت لندن مؤتمرا لتوسيع التعاون بين بريطانيا والقارة الإفريقية، وبما أن هناك دولا عربية في القارة الإفريقية فإن تنشيط التعاون العربي الإفريقي من شأنه أن يجذب بريطانيا اقتصاديا بما يعود بالنفع على كل الأطراف.
ومن الجوانب المضيئة أيضا أن مسألة مكافحة الإرهاب يمكن أن تكون مجالا لتعزيز التعاون العربي البريطاني بشكل أفضل مما كان عليه الوجود البريطاني في الاتحاد الأوروبي، استنادا إلى أن خبرة الماضي القريب ولدت الشعور بقصور سبل المواجهة الأوروبية لظاهرة الإرهاب بسبب تباين السياسات الأمنية والقانونية ثم استغلال الجماعات الإرهابية للثغرات أو أوجه القصور، وبالمقابل تسعى بريطانيا إلى مراجعة سياساتها الأمنية وخصوصا في التعامل مع العناصر الإرهابية المحتملة.
وتربط بريطانيا بين عاملي الهجرة وخطر انتشار الإرهاب، ورأت أن اندفاع الهجرة إلى أوروبا سواء كانت شرعية أو لظروف إنسانية أو كانت غير شرعية يجعلها عرضة لتحمل تبعات هذه الظاهرة بحكم عضويتها في الاتحاد ، حيث من السهل وفقا لقواعد العضوية أن تنتقل هذه الهجرات أيا كان نوعها إلى بريطانيا، والتبعات هنا لا تتوقف عند مزاحمة المواطن البريطاني في حياته المعيشية، وإنما تحمل معها وصول العناصر الإرهابية إلى الأراضي البريطانية.
ولا شك أن كلا من عاملي مكافحة الإرهاب والمشكلات المترتبة على الهجرة يفتحان الباب لتعزيز العلاقات البريطانية العربية بشكل أفضل من السابق لأن الطرفين معنيان بكل منهما ويسعيان إلى وضع نهاية للمشكلات التي تترتب عليهما، ولذلك هناك فرص للحوار المشترك.
ولكن هذا الجانب المضيء سيقابله تراجع في دور بريطانيا في حل أزمة الشرق الأوسط (قضية السلام) بعد أن كان لها دور مشهود لأنها كانت تتقوى بعضويتها في الاتحاد الأوروبي وهو السلاح الذي تفتقده الآن، كما أنها ستنشغل بأوضاعها الداخلية التي لن تخلو من مشاكل خلال الفترة الانتقالية، وهى تميل إلى تبنى الموقف الأمريكي بخصوص هذه القضية ولن تسعى إلى القيام بدور مستقل، خصوصا وأنها حريصة على بناء علاقات قوية مع الولايات المتحدة في الجانب الاقتصادي، وقد ظهر هذا واضحا مع حماسة بوريس جونسون للخطة التي كشف عنها الرئيس الأمريكي ترامب والمعروفة بصفقة القرن، وهي صفقة غير متوازنة لأنها تعمل لصالح الطرف الإسرائيلي وحده وتسقط الكثير من الحقوق الفلسطينية.
وفي هذا السياق أيضا يصبح من المشكوك فيه أن تواصل بريطانيا تقديم المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني لأن ذلك كان جزءا من ارتباطاتها وهي داخل الاتحاد الأوروبي، والآن أصبحت خارجه مما يعني أنها يمكن أن تتخلى عن هذا الدعم.