شرفات

محمد عمارة.. مفكر الوسطية الحديثة«3» مقام العقل والعقلانية في الفكر الإسلامي

untitled-1
 
untitled-1
عبد الله العليان - اهتم د. محمد عمارة بالعقل والعقلانية،على اعتبار أن للعقل قيمة عظيمة في الرؤية الإسلامية منذ العصر الأول، أو كما يسميها العقلانية المؤمنة، في مقابل العقلانية المادية الغربية الحديثة التي ظهرت في القرن الثامن عشر، فالإسلام أعطى العقل مجاله الواسع في الرؤية الفكرية الإسلامية،وفي القرآن الكريم هناك الآيات الكثيرة التي تدعو إلى التفكر والتدبر والنظر والتأمل،مثل آيات ( أفلا تعقلون)، (أفلا تبصرون)، (أفلا تذكّرون)، وهناك إشارات كثيرة وردت في القرآن، تدل على استعمال العقل وكذلك مكانته في الدين الإسلامي،من أجل الإيمان من خلال العقل والإقناع عن طريقه، فإذا تعطل العقل، فلا يعتبر الإنسان مكلفاً، فالإسلام يخاطب العقل، ويدعو إلى النظر والتدبر من خلال آياته الكثيرة إلى الإنسان، وفي كتابه (مقام العقل في الإسلام)، يرى د/‏‏ محمد عمارة أن للعقل في القرآن مكانته الكبيرة،حيث «تحول على يدي الرسول (ص) والذين معه من الجيل الفريد الذي صنعه الرسول على عينه في مدرسة النبوّة، تحول إلى خلق وسجية وأمة ودولة وثقافة ومدنية وحضارة، ولم يقف عند المواعظ والوصايا والصلوات في المحاريب.. فإن العقلانية المؤمنة التي تبلورت في آيات القرآن الكريم وأساليبه في المحاورة والاستدلال، سرعان ما تبلورت فلسفة إسلامية لها أعلامها ومدارسها وإبداعاتها منذ النصف الثاني من القرن الهجري الأول في علم الكلام الإسلامي (علم التوحيد)(:) كذلك، كما يرى د/‏‏ عمارة، كان تبلور العقلانية الإسلامية فلسفة متميزة، هو الآخر،مبكراً في تاريخ حضارة الإسلام..لقد ضمت الفتوحات الإسلامية، في القرن الهجري الأول، دولاً وأقاليم مترامية الأطراف ـ من المغرب والأندلس إلى داخل حدود الصين ـ واحتضنت الدولة الإسلامية شعوباً وقبائل وقوميات ولغات ومذاهب وديانات وفلسفات ومللاً مثلت كل ألوان الطيف لعالم ذلك التاريخ»(20). كما أن العقل كما يرى د/‏‏ محمد عمارة، في القرآن الكريم والسنة النبوية هو مناط التكليف والاستدلال على الإيمان»لأن الإيمان بالإسلام هو تصديق قلبي يبلغ درجة اليقين ،كان المبدأ الإسلامي المحكم:(لا إكراه في الدين)،(لكم دينكم ولي دين)، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). كان المبدأ الإسلامي يعني في الواقع والتطبيق: تحرير ضمائر شعوب الشرق من القهر الحضاري والدين والثقافي واللغوي والاقتصادي الذي مارسه الروم والبيزنطيون في الشرق لعشرة قرون..وترك الناس أحراراً ـ بعد التحرير ـ وما يدينون..حتى أن الدولة التي أثمرتها الفتوحات الإسلامية كانت «دولة إسلامية» منذ الفتح ،بينما كانت نسبة المسلمين في رعيتها، بعد قرن من الفتح وقيام الدولة الإسلامية، لا تتجاوز 20% من السكان، ـ ولو نعقد مقارنة بين ما حدث للمسلمين في الأندلس بعد هزيمتهم على أيدي المسيحيين (محاكم التفتيش) ـ وبين ما أتاحه المسلمون للأديان الأخرى بعد الفتوحات الإسلامية،لوجدنا المقارنة شاسعة ولافتة للعقلانية الإسلامية وللحرية في الاختيار ـ ولقد نتج عن هذه المعادلة دولة إسلامية.. ورعية تتدين وتتمذهب بمختلف الديانات والمذاهب ـ إن شهدت البلاد الإسلامية ـ وخاصة الحواضر ذات المواريث الفلسفية والمؤسسات الدينية ـ أوسع نشاط في الحوار الفكري بين المسلمين وغير المسلمين من النصارى.. واليهود..والمجوس ـ وغيرهم من الفرق ـ وفي خضم هذا الحوار الحر والواسع والعميق تبلورت العقلانية الإسلامية:لأن العقل والمنطق كان السلاح الأول والأفعل في عرض الإسلام والدفاع عن عقائده،وفي الرد على مقالات المخالفين ومقولاتهم.. لقد انتقل الإسلام ـ بهذه الفتوحات ـ إلى بيئات ذات ثقافات وأبنية فكرية مركبة..وأصبح يواجه ويحاور أقواماً لهم مواريث فلسفية، ومؤسسات لاهوتية..لم يعد كما كان الحال في شبه الجزيرة العربية، يتعامل مع بيئة بسيطة تكفي في الإجابة عن أسئلتها وعلامات استفهامها ظواهر النصوص.. والمنطق الفطري».(21،20)، ومع انحسار بعض الأهمية العقلانية عند بعض المدارس الفكرية الإسلامية في القرون التالية، إلا أن مكانة العقلانية بقيت في التراث الفكري الإسلامي» فباستثناء بعض أهل الحديث الذين برعوا في صناعة « الرواية» وتحفظوا كثيرا على النظر العقلي و«الدراية» ومن ثم حرموا الاشتغال بعلم الكلام.. فإننا واجدون للعقلانية الإسلامية مقاماً عالياً ومكاناً ملحوظاً ووضعاً متميزاً وممتازاً في عموم تراث مذاهب الإسلام، على امتداد تاريخ هذا التراث..وإذا شئنا إشارات ـ مجرد إشارات ـ إلى شهادات الأئمة والعلماء والإعلام التي تعلي من مقام العقل والعقلانية، فإننا واجدون أنفسنا أمام تراث تباهي به أمتنا من عداها من الأمم والحضارات..وعلى سبيل المثال:دار حوار بين الإمام علي رضي الله عنه، وبين أحد السائلين.. بدأه الإمام علي بقوله: «ألست تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ ـ فقال السائل:بلى: ـ فقال الإمام علي: تعرف تفسيرها؟ ـ فقال: لا يا أمير المؤمنين، علمني مما علمك الله. ـ فقال الإمام: إن العبد لا قدرة له على طاعة الله إلا بالله، ولا على معصيته إلا به عزوجل، يا سائل أعقل عن الله. ـ فقال:عقلت. ـ فقال له: الآن صرت مسلماً، قوموا إلى أخيكم المسلم وخذوا بيده». فالعقل عن الله كما يرى د/‏‏ محمد عمارة، «هو دليل الإسلام! أما الحسن البصري، الذي كان إمام عصره، والذي خرج تيار العقلانية الإسلامية ـ [أهل العدل والتوحيد] من تحت عباءته ومن مجلس علمه فإنه هو القائل:« ما تم دين الرجل حتى يتم عقله،وما أودع الله عز وجل أمرا عقلاً إلا استنفذه به يوماً ما». فإذا جئنا إلى هذه المدرسة التي مثلت فرسان العقلانية الإسلامية..والتي حاورت أصحاب المذاهب غير الإسلامية ـ الدينية منها والفلسفية ـ وردت شبهاتهم.. ونشرت الإسلام في الحواضر التي كان فيها المواريث الفلسفية القديمة والمؤسسات الدينية وغير الدينية ـ وهي مدرسة المعتزلة، أهل العدل والتوحيد.. فإننا نجد أنفسنا بإزاء عقلانية مؤمنة، انطلقت ـ ربما لأول مرة في تاريخ الفلسفة ـ من الدين وجعلت مهمتها الأولى الدفاع عن الدين بالبراهين العقلية».(28.27). وبرز علماء كبار من المدارس الفقهية والكلامية، ناقشوا قضية العقل ودوره كحجة لليقين، ومن هؤلاء الإمام أبو الحسن الماوردي الذي يرى « إن السبب المؤدي إلى معرفة الأصول الشرعية والعمل بها شيئان:أحدهما: علم الحس، وهو العقل لأن حجج العقل أصل لمعرفة الأصول، إذ ليس تعرف الأصول إلا بحجج العقول..وثانيهما:معرفة لسان العرب، وهو معتبر في حجج السمع خاصة»..«وإن لكل فضيلة أسًّا، ولكل أدب ينبوعاً، وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل، الذي جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عماداً، فأوجب التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه، مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين: قسماً وجب بالعقل، فوكده الشرع،وقسماً جاز في العقل، فأوجبه الشرع، فكان العقل لهما عماداً..«فإذا جئنا إلى حجة الإسلام أبي حامد الغزالي [450 ـ 505هـ = 1058 ـ 1111م] الذي مثَّل ـ منذ القرن الخامس الهجري وحتى الآن ـ «ظاهرة فكرية» غطت ميادين الفقه .. والأصول .. والفلسفة .. والمنطق .. والكلام .. والتصوف.. والأخلاق.. فإننا سنجد له صياغات كثيرة وبديعة وعميقة ـ بل وفنية ـ حول مقام العقل .. ودور الوسطية الإسلامية في تميز العقلانية الإسلامية المؤمنة. تميزها عن الغلو النصوصي، الذي يقف أصحابه عند ((الأثر)) .. وعن الغلو العقلاني، الذي يصطنع أهله التناقضات بين العقل والشرع..وفي ذلك يقول الغزالي:« إن مثال العقل: البصر السليم عن الآفات والإيذاء.ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء.فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء، المستغنى بأحدهما عن الآخر، في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل، مكتفياً بنور القرآن، مثاله:المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان.. فالعقل مع الشرع نور على نور».أما الفيلسوف الفقيه الطبيب المتكلم..الذي كان الناس يفزعون إلى فتواه في الفقه كما يفزعون إليه في الطب..والكلام.. والذي اجتمعت الدنيا على أنه الشارح الأكبر لأرسطو ـ حكيم اليونان..الذي تميزت شروحه بتلخيص فلسفة أرسطو مما شابها من الشراح السابقين والآخرين..أبو الوليد ابن رشد.. القائل في العقلانية الإسلامية المؤمنة:« إن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل،وتطلب معرفتها به، فذلك بين في غير آية من كتاب الله تعالى، مثل قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار)[الحشر2] وهذا نص على استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً..فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي..وإذا كانت هذه الشريعة حقاَّ، وداعية إلى معرفة الحق، فإنَّا،معشر المسلمين،نعلم،على القطع،أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى ما ورد به الشرع،فإن الحق لا يضاد الحق،بل يوافقه ويشهد له»(24 ـ 27). وطرح د/‏‏ محمد عمارة أيضا الكثير من الآراء التي تبرز مكانة العقل في الفكر الإسلامي، ففي أحد الحوارات التلفزيونية، قال « إن ابن تيمية أيضا ظلم ظلما شديدا من الذين لم يستطيعوا أن يقرؤوه أو لم يفقهوه يعني أنا كتبت كتيبا صغيرا اسمه «رفع الملامة عن شيخ الإسلام» وأوردت فيه بعض نصوصه في العقل، أتعلم أن ابن تيمية يقول إن كل أئمة الأمة وفقهائها يحسنون ويقبحون بالعقل، الذين يتعصبون لابن تيمية يظلمونه ويتصورون أن هذه مقولة المعتزلة، لكن الرجل يقول إن عدم التحسين والتقبيح بالعقل بدعة دخلت على الإسلام لم يقل بها أئمة المسلمين وفقهاء المسلمين، ابن تيمية وضع كتابا اللي هو «درء تعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول» يقول هناك استحالة أن يكون هناك تعارض بين صريح العقل وبين صحيح النقل وإذا حدث وتوهم الإسلامي أن هناك تعارضا يبقى نأخذ بالدليل القطعي سواء كان عقلياً أو كان نقلياً، إذاً نأخذ بالدليل العقلي لا لأنه عقلي ولا لأنه نقلي وإنما لأنه قطعي ويقول إنه تأمل كل المسائل الكبرى التي اختلف فيها المسلمون في علم الكلام فوجد أن كل النصوص السمعية التي تعارض صريح العقل إما أنها أحاديث موضوعة أو أنها دلالات فاسدة، وإذاً ابن تيمية له موقف ولذلك ليس غريبا أن تجد الإمام محمد عبده وهو إمام التجديد في العصر الحديث يقول عن ابن تيمية إنه أعظم مناصر للسنة ومدافع عن الدين وهو الذي أشار بطبع كتب ابن تيمية فطبع كتاب «درء تعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول» وكتاب «منهاج السنة النبوية» في أوائل القرن العشرين بإشارة وإيعاز من الإمام محمد عبده، إذاً ابن تيمية ظلم ظلما شديدا في موقفه من العقل». تظل العقل في الرؤية الإسلامية قيمة كبيرة،وهذه ،التي تأكدت في الكثير من النصوص التي سردها مجمد عمارة في هذا الكتاب من القرآن والسنة و آراء العلماء من المدارس المتعددة في العصور المختلفة التي لم تنكر العقلانية التي ساهمت في الدفاع عن الإسلام، من خلال الجدل والاستدلال والحوار، وهذا هو الذي حقق الإقناع عند الكثير من الشعوب.