البطاقة الشخصية لمازن حبيب
الاثنين / 3 / ربيع الثاني / 1438 هـ - 19:23 - الاثنين 2 يناير 2017 19:23
عبدالعزيز الفارسي -
يؤثث مازن حبيب عالمه القصصي بكل هدوء وتأن، ويسير في طريقه السردي الوعر متسلحاً بالصبر، والتأمل، ومنازلة الخوف وتعريته، والاتكاء على مخزونه الغني بالكائنات العنيدة، والملابسات والمفارقات والمباغتة. لا عجب إذن أن تكون «الذاكرة ممتلئة تقريباً» أو أن يصدّر مجموعته القصصية الثانية (البطاقة الشخصية للعمانيين) بتحذير واضح: « انتبه أمامك دوار». ذلك لأن على القارئ أن يختار طريقه عبرها وهو يجابه التذكر والتفاصيل الدقيقة، وأن يتصالح مع كل الاحتمالات، حتى لو كان ذلك الاحتمال هو أن يستدير ويعود من حيث أتى دون الاضطرار إلى التخلي عن حكمته أو الانتقاص منها.
هي احتمالات جائزة الحدوث، لكن الواقع الذي تفرضه القصص التسع في المجموعة هو الامتلاء، وعدم قدرة القارئ على تجاهل أبطالها أو تنحيتهم جانباً. إنهم يخرجون إليك يحملون في أياديهم جرار الخوف. يؤكدون لك أن الخوف محرك ضروري للحياة، تتكاثر مظاهره، ونتائجه أيضاً. ستتناول كل جرة لتشرب دون تردد. لن تستطيع الفكاك من تفاصيل الأبطال، أو النأي بنفسك بعيداً عن خوفهم. ستجد نفسك المذيع، والطفل مختلف اللون، وحارس المستشفى. ستكتشف أنك صاحب البطاقة الشخصية التي تجاهر خاناتها بمجانبة الحكاية الواقعية، وتربي خوفك من فقدان الحقيقة في زمن التغييب. ستكون الزوج الذي ترسّب الخوف داخله انتظاراً لموعد انكسار الشماعة، والأنثى التي أحبت بجنون مسكونة بالخوف من البوح والفقد والعالم. العصفور الخائف أنت، والرجل الذي تجرد من ذاته. ستنبت لك مخاوف أب على عفاف ابنته الوحيدة، وسترى قبح المسميات حين تتجرد من أصحابها. ستجد نفسك كل هؤلاء، وستنقاد وراء حكاياتهم، وتذكرهم على الدوام، وبمرور الوقت، وحين تكرر القراءة، مدفوعاً إلى ذلك بحاجتك المستمرة لإعادة اكتشافهم وملاقاتهم مجدداً، ستعرف أن مازناً لم يأت بالأبطال من ذاكرته الشخصية الممتلئة، وإنما استلّهم من ذاكرتكما الجمعية الممتلئة، ونفض الغبار عنهم وعن خوفهم. يعلّمك أن الخوف الدفين يملأ خانة العنوان في بطاقات الأبطال الشخصية الصغيرة، وهم بدورهم أيضاً يملؤون خاناتهم في البطاقة الشخصية الكبرى للأرض.
لقد كان اختيار (البطاقة الشخصية للعمانيين) عنواناً للمجموعة موفقاً للغاية؛ توفيق لا يضاهيه إلا دقة اختيار النماذج الإنسانية التي سلّط بها الضوء على الحالة العامة السائدة والمستمرة أزلاً. نماذج تتحد أيضاً في تقنياتها وحيلها الحياتية مع تقنية وفكرة قصة (البطاقة الشخصية للعمانيين) داخل المجموعة. تخبرك أن الحكاية الظاهرية شيء، والحكايات الصغيرة المخبأة والمعبأة بأوجاعها وأسرارها شيء آخر، فلا يغرّنك المكتوب في الخانات الجاهزة والمعدة سلفاً، ولا تأخذه على أنه الصدق بحذافيره. ابحث عن الحقيقة بعد أن تغسلها جيداً من تراكمات خوف مزمن يلتصق بالروح. هذا اتكاء مازن الأهم؛ الحقيقة بوجهيها البسيط والمعقّد، وهذا سعيه الحثيث والمتأني نحو اكتشاف السارد داخله وصقله ليعبر طريقه الخاص. إنه يراهن على ذكائك أنت في استشعار أرواحه التي يزين بها عوالمه، والسير معها نحو النهايات الصارخة.
لا يبهرج مازن اللغة السردية بما يثقلها ويعيق تحركها، ولا يبالغ في تحميل الحكاية ما لا تطيق من أشكال كتابية. إنه يترك الحكايات تختار ثيابها لحضور حفلته، ويسمح لها بانتقاء عطورها دون ضغوط. إنه يعلم مواطن الجمال في كل واحدة من حكاياته، ويرتب حضورها بعناية لتكتمل السهرة التي عمل على إخراجها بعناية. هو يحب آن تأتي «الكائنات التي نعرفها» لتقول لنا «ما لا نعرف عنها « عوضاً عن أن يأتينا بكائنات لا نعرفها لتقول لنا ما نعرفه جيداً ولا نحب تكرار سماعه، لذا فإن الكائنات التي نعرفها لابد أن تجمع كل حواسها لتحدث فعلها المباغت في النهاية، لتحدث صدمة المفارقات التي غالباً ما تنتهي بالاستدارة حول ذلك الدوار والعودة من جديد، ومحاولة القراءة برؤية مغايرة.
إن رأيت السواد يغمر أطراف الحكايات بشدة فتأكد أنك تعرف البياض جيداً، وأن نهج مازن في دفعك للضد ناجع جداً، فها أنت تميز أن بين كل الفجيعة المنثورة أمل جديد، وحب لا يخطئه قلبك للحياة، وها أنت تتعرف على الخوف وتعالج روحك بالسعي المستمر نحو أمانك. هو قد استفزك ودفعك للحياة كما يحب وتحب.
إنه عمل جديرٌ بالقراءة مراراً. هم أبطال لا يتكررون. سيعيشون معك. ستتوقف كلما صادفتهم مجدداً وستعود تسأل مازن عنهم. سيغمرك الحارس الذي يفصل الأصحاء عن المرضى. وتأسرك تفاصيل حكايته. ستتمنى لو أن الحكايات طالت أو لو أن الكاتب استرسل في براعة تحليلاته العميقة وإدهاشك بالتفاصيل الصغيرة المؤثرة. أما الرجل الذي تجرد من ذاته، وخرج ضد نفسه والحياة، فستظل تفتش عنه في السيارات الفارهة، والمكاتب الفخمة، والشوارع، وربما نفسك ، متيقناً في داخلك أن كلاً منا قنبلة موقوتة، تبحث عن انفجار يليق بها.
هكذا هو مازن حبيب في قصصه التي يكتبها بتأن وحب، ويعيشها عشرات المرات قبل أن ينثرها في شوارع القص لتصيبنا بالحب والأرق، وهكذا يرينا بطاقته الشخصية التي لا نملك من خيار أمامها سوى الاندهاش اللذيذ.