شرفات

يوميات: سيحدُث إذا تحدَّثنا عنه كثيراً

918466
 
918466
عبدالله حبيب - هذه الحلقة من اليوميات مهداة بكل فخر واعتزاز إلى واحد من أعز الأصدقاء والرفاق، وواحد من أكثر خلق الله محبة للإنسانية، وغضباً وعناداً في سبيلها - زاهي خميس، من دون شجار عنيف، وبكل تأكيد. الثلاثاء 31 يوليو 2001، لوس أنجلوس، كاليفورنيا: رن جرس الساعة المنبهة في الخامسة صباحاً، لكني كنت فيما يشبه الغيبوبة. أيقظتني [...] فَزِعَة في السادسة إلا عشر دقائق وقالت ان الطائرة ستفوت على بشير. هرعت إلى الصالة حيث بشير - الذي كان يشخّر على «الفوتون»- لأوقظه بأسلوب الركل الميتافيزيقي جداً. كنت دائخاً، وظامئاً، وخائر القوى. قدت السيارة بسرعة إلى المطار وهناك لم نعثر بسرعة على «المبنى 7» الذي سيغادر منه بشير. أوقفت السيارة أمام المبنى المطلوب بعد أن وجدناه، وقلت لبشير إني سأبحث عن مكان لإيقاف السيارة في أسوأ مطار في العالم في أسوأ مدينة في العالم في أسوأ بلاد في العالم لدى أسوأ قوم في العالم، ثم أعود إليه فربما سنحت لنا هنيهات وداع - كنت حقاً أريد أن أحتضن وأودع صديقي الجزائري هذا عند بوابة الخروج إلى الطائرة. انتابني نفس الشعور المألوف بالاختناق في ذلك المكان الذي يعوم في دخان العوادم والضوضاء في أكثر المدن الأمريكية من ناحية التلوث الهوائي والبيئي (smug)، وكنت أواجه صعوبة حقيقية في التنفس ضاعفتها حالة ويلات أقداح الليل في النهار التالي. عدت إلى المبنى بعد أن أوقفت السيارة وأنا أترنح ومغص حاد يلوي معدتي وغثيان مقيت ينزُّ من مساماتي. بحثت عن وجه بشير بين مئات المسافرين بيد أني لم أعثر عليه فاستنتجت انه قام بالإجراءات المطلوبة سريعاً وذهب إلى بوابة المغادرة وغادر إلى الطائرة. وعند هذه اللحظة توقفت الطائرات في الهواء والسيارات في شوارع المطار وتسمَّر المسافرون في أنحائه، إذ اقتربتُ من مسافرة عشرينية سمراء والتي ما إن لمحتني حتى أقعت أمامي مبتسمة [...] والثلج يهطل في الخارج الذي بدأ يختفي في صدى ضبابي لشيء من قبيل «ضوء القمر» لبيتهوفن (التي لم تكن مناسبة بصورة خاصة فقد كنت أفضل بالتأكيد شيئاً من الكونشيرتات الإيطالية لِباخ، لكني، تنويعاً على محمود درويش، كنت أسمع ما أريد) و[...] بينما المسافرون قد تسمروا في طوابيرهم، ثم أخذت أشباحهم الأنيقة تنظر لنا مبتسمة بقليل من الفضول والتظاهر بالذهول لما نفعل في الصمت الذي لفَّ العالم باستثناء تأوهاتنا غير الخجلى. وفي اللحظة التي اعتلينا فيها الذروة أخذوا يصفقون لنا وهم يهتفون: «الكتابة هي الحرية الوحيدة»؛ العبارة التي زكَّاها ضابط الشرطة الذي أسقط في يده وهو يحرر مذكرة إلقاء القبض بتهمة «ممارسة فعل حميم في مكان عام» مردداً بدوره: «الكتابة هي الحرية الوحيدة». عدت إلى الشقة، وبعد حوالي ثلاث ساعات تداويت فيها بالتي كانت هي الداء نمتُ حيث أقلتني و[...] طائرة مروحية إلى فيتنام لنحارب هناك في صفوف «الفيتكونج». الأربعاء 1 أغسطس 2001 ــ الخميس 9 أغسطس 2001، بالتِمور/‏‏‏ ميريلَند، وشنطون دي سي/‏‏‏ واشنطون: السفر إلى بالتِمور ــ كلا؛ فبالتِمور نفسها لا تعنيني على الإطلاق سوى في كونها مكان دفن إدغَر ألن بو، ولكن ما يعنيني هو ان بالتِمور هي مكان صديقي الرائع زاهي خميس وأسرته الذين صاروا يقيمون فيها: المدينة التي فيها صار لديهم بيت مملوك (في فترة سان دييجو اضطر زاهي وكِم إلى استئجار كوخ صغير بالٍ ومعزول في واحد من أكثر أحياء المدينة عنفاً وعاهرات ومخدرات وجريمة، ومع انه لم يكن يبخل عليّ إطلاقاً باختصاصه الغذائي «ملوخيَّة بالدجاج» إلا انه بعد انتصاف كل ليل تقريباً ونحن نسهر في شيء من المنتبذات كان وجهه يتغير فجأة ويقول لي: «تعرف يا عبدالله، أنا خايف هسَّه لما أرجع أشوف كِم وأحلام وبيسان مذبوحين في الكوخ»). حسن جداً، لقد أصبح لزاهي وأسرته وطن من خشب ومدفأة بعد أن تركوا كاليفورنيا. «بالتِمور أقرب إلى فلسطين من كاليفورنيا يا عبدالله» كما يقول زاهي في حنين دامٍ وعبثي. طيران طويل غير مباشر بدواعي اقتصاد نفقات الرحلة، وخاصة في العودة حيث تأخرت الرحلة من أتلانتا/‏‏‏ جورجيا (المدينة التي لم تذكرني بغير تافهة الذكر سي إن إن)، ووقوع عطب في الطائرة قبيل إقلاعها من فينيكس/‏‏‏ أريزونا (حيث فكرت في أن فيلم «سايكو» لِهِتشكُك لا يخلو من عناصر استشراقية، أو شرقية). من نافذة الطائرة أبصرت [...]، التي كانت متعبة كثيراً، مركبة صغيرة ثلاثة أرباعها مُحِرِّكٌ ضخم وهي تدفع طائرة عملاقة إلى الخلف فهتفت في بدويَّةٍ كوميدية «والله ما تنهزر»!، فانفجرنا ضاحكين لوقت طويل كنا بحاجة إليه للانتقام من منغصات الرحلة. كم أنا فخور بصداقة زاهي التي أشعر دوماً أنها تعيش حالة حرجة، فهي تسير دوماً على شفرة الحقيقة والصدق، شفرة كحد السكين العمانية التي كاد أحدنا أن يقتل بها الآخر قبل سنوات في موقف سيارات منتبذ ليلي في سان دييجو، والتي ذكرني بها زاهي بعد ساعات من لقائنا هذا. زاهي وأنا تشاجرنا بِحِدَّة مرتين فقط في هذه الزيارة؛ فقد بذلنا جهداً جباراً أمام توسلات كِم و[...] لإيقاف الرقم عند هذا الحد المتواضع قياساً بما كنا نقترفه في سان دييجو خاصة أثناء حرب «عاصفة الصحراء» (اتهمنا بعضنا البعض بـ«الدّمَوِيَّة» في المطعم السويدي بسبب تباين موقفينا من الحرب التي خسر فيها صدام حسين ولم ينتصر العرب. الغريب ان هذه الشجارات الفادحة كانت تحدث بعد مشاركتنا في فعاليّات جماهيرية ننخرط فيها طوال اليوم ونتخذ فيها موقفاً موحداً ضد الحرب، وأنا لن أنسى أبداً فضل زاهي على حياتي مرة أخرى بعد أن تأجج الوضع في إحدى المظاهرات الغاضبة التي خرجت من نطاق سيطرتنا، فبدأوا في إطلاق الرصاصات المطاطية التي تقتل إذا ما أصابتك في موضع القلب أو قريباً منه. كانت إحدى الرصاصات موجهة إليَّ من غير قصد، لكن زاهي استبق الأمر في غضون ثانية واحدة فركلني متعمداُ كي أسقط على الأرض ولا تفوز الرصاصة بي). مع زاهي يصير كل شيء ممكناً، وكل شيء مستحيل؛ كل كلمة تحريض باهر على القهقهة أو النحيب -- لا فرق. في شيء من هذه الأيام توفي خورخي أمادو. حزنت كثيراً؛ فقراءتي لبعض أعماله («كان كان العوام الذي مات مرتين،» إلخ) ترتبط في ذاكرتي بفترة التأسيس الثقافي (المستمر قدر الإمكان)، لكن لا بأس في أن يموت المرء حين يكون قد وصل إلى الشيخوخة بعد أن كتب كثيراً (وهو بالتأكيد القليل مما كان يريد أن يقول). ومع ذلك فإن الموت ليس عادلاً أبداً، ذلك أنه قرين الحياة التي لا تَعْدِل على الإطلاق. مما أزعجني في زاهي أنه لم يعد يحتسي كثيراً، وهي نفس الملاحظة التي أخذتها عليه في الصيف الفائت: بتعبير أدق، زاهي صار «يحتسي» بدلاً من أن «يعاقر» (كما يفعل الأوغاد الأمريكان الذين يحتقرهم)، وذلك حسن في أية حال، فأنا أشكر له الفضل في تعريفي إلى مشروب الـ«هنسي» الذي لا شك انه واحد من أعظم اختراعات هذه البلاد البائسة. أحببت المدينة التي لم نَرَ منها الكثير سوى لدى الهبوط التدريجي للطائرة نحو المطار حيث الخضرة والماء ــ أليك جينيس، في دور الأمير فيصل في فيلم «لورَنس العرب» محقٌّ في قوله إننا، نحن العرب، «نحب الأشجار الخضراء والماء» (فاته أن يضيف «الوجه الحسن» ربما لأن كاتب سيناريو الفيلم- روبرت بولت- شيوعي أمريكي لم يُرَد له الاعتبار إلا مؤخراً فقط، وجميع الشيوعيين أوغاد وأنذال فيما يخص علاقتهم بالمرأة)، لكن الأمير فيصل لم يكن مُحِقَّاً حين قال «لا شيء في الصحراء». الغرب نفسه يعرف أن كل شيء قد بدأ في «الصحراء» التي عذبنا حنين الغرب إليها، عذبنا كثيراً وأبعدنا عنها ومنها. كل مدينة على الأرض أجمل من لوس أنجلوس: فليُقم المرء في أي مكان على هذا الكوكب المقيت خارج لوس أنجلوس، فلتَقُم القيامة في لوس أنجلوس وحدها، فلتنشق الأرض وتبتلعها وتخلصنا منها مرة وإلى الأبد، فلتحترق لوس أنجلوس وليطل دانتي مقهقهاً من السحب التي تفصلنا عن «الجحيم». أعجبني الحضور القوي لما يمكن تسميته «فتوقاً» (ruptures) في الهندسة المعمارية في بالتِمور وواشنطن دي سي، حيث في الغالب ثمة مروق هندسي في نفس المبنى، ثمة احتجاج واختلاف ينطوي على محاولة إجراء تآلف صعب بين نماذج متباينة. تنزهنا بالقارب في خليج تشيسيبيك بمنطقة باسادينا في مساء حلمي، وسبحت وغصت لمدد طويلة نسبياً بقصد اختبار جهازي التنفسي، ولم تكن النتائج مُرْضِيَة أبداً. ربما يكون أحد أسباب عدم الرضا هو اني كنت أفعل ذلك وأنا مرتدياً بنطالي الذي بالتأكيد أسهم في إعاقة دورتي الدموية وأنا تحت الماء، لأني لم أحضر معي سروال سباحة، ولم يكن المشهد ليحتمل سباحتي عارياً، أما التدخين فإنه يتحمل بقية المسؤولية بالتأكيد. كم أتمنى لو كان لي كوخ صغير على ضفة هذه البحيرة، أو أن أكون أنا ذلك الكوخ (لم يعد يغريني كثيراً أن أكون سمكة لأن ذلك لن يكون في صالح تعُّوب الكحالي حين يكتشف انه قد باعني في «بسطة السمك» في سوق صحم). شربنا، وأكلنا، وضحكنا لنكت بذيئة وتألمنا كثيراً لما يحدث في العالم. تحدثنا كثيراً (زاهي كعادته يتكلم كثيراً، لدرجة الإزعاج أحياناً، لكنه لا يثرثر، وهو محقٌّ على الأرجح في انه «ينبغي أن نتحدث كثيراً عن شيء ما إن كنا نريد له أن يحدُث»). من تتويجات هذه الرحلة زيارة بيت وقبر إدجر ألن بو بعد أن كنت قد زرت كوخه في نيويورك. كان البيت مغلقاً في يوم زيارتنا. زحفت العنصرية الأمريكية على كل شيء فأصبح البيت يقع في حي الـ niggers بعد أن كان «حيَّاً راقياً». لا شك ان من وسائل تعرية العنصرية الأمريكية الدراسة التاريخية لحركة التنقل البينيِّة في الأحياء والمجمعات السكنيَّة. يقع هذا في صلب انتصارات إدجر ألن بو؛ فقد أصبح الشاعر الذي يوصف بأنه الأكثر تراجيدية في تاريخ الشعر الأمريكي الآن رفيقاً للسود، إذ ان بيته صار في حيِّهم الطَّلل حيث الفصل العنصري صريح للغاية في المكان. نعم، يمكن تصور إدجر ألن بو بوصفه شاعراً أمريكياً أسودأً مُقاوِماً وعنيداً، وذلك في انتقام غير متأخر كثيراً من أبيه بالتمني الذي كان من أنشطته العديدة الاتجار بالعبيد. في المدفن قام بيسان وأحلام بمداعبة إدجر ألن بو بالصراخ في وجه القبر: «هل هناك أحد»؟!. نعم يا أحلام وبيسان: هناك أحد نحاول التعرف إليه دوماً.[...] لم تضيع الفرصة في إشارة دعابيَّة غير خالية من التبكيت بأني لست مغرماً حد الجنون بالعوالم الشعرية لإدجر ألن بو وانجازاته الباهرة في الشعر الأمريكي فحسب، ولكن كذلك بالنمط الانتحاري لحياته عن طريق التدمير الذاتي الذي هو مسؤول عن إسرافاتي الليلية الباهظة. ابتسمتُ لها بود حقيقي، وسقيت الأزهار التي تحيط بقبره، وقرأت أمام زملاء الزيارة ما أسعفتني به الذاكرة من قصيدته الخالدة «الغراب»: “Once upon a midnight dreary, while I pondered, weak and weary, Over many a quaint and curious volume of forgotten lore— While I nodded, nearly napping, suddenly there came a tapping, As of someone gently rapping, rapping at my chamber door. “’Tis some visitor,” I muttered, “tapping at my chamber door— Only this and nothing more,” etc. (في الحقيقة كانت صورة «الغراب» منقوشة في أعلى شاهدة قبره تذكاراً بالقصيدة، وكذلك تذكاراً بتلك الروح المعذَّبة التي يصعب تصور مدى خرابها الداخلي العميق). في واشنطن دي سي زرنا الكثير من الجالريهات الفنيَّة حيث «مواهب كثيرة وفن قليل» حسب زاهي. تمكنت من انتزاع بعض الوقت طوال الزيارة لقراءات أكاديمية تخص موضوع أطروحتي: عدد من البحوث حول صورة اليهودي في السينما الأمريكية الكلاسيكية. صرت متيقناً أكثر ان العربي قد حلَّ محل اليهودي باعتباره «الآخر» المُفَضَّل للسينما الأمريكية في مفارقة تكمن في ان صورة العربي الراهنة قد غَذَّاها رأس المال اليهودي بعد نكبة 48، بينما رأس المال العربي يُنفق على الحسناوات الشقراوات، والسيارات الباذخة، والخيانات المهيبة، وبشر وأشياء آخرى. على الصعيد الأدبي كان من ضمن القراءات رواية «أطياف» لرضوى عاشور. كانت [...] معجبة بالرواية أكثر مني، هذا على الرغم من اني لم أنفِ لها انها من وجهة نظري رواية متماسكة ومقنعة، غير ان لدي بعض الملاحظات حول نصفها الثاني، وانها أكثر قناعاً من رواية «وردة» لصنع الله إبراهيم التي تنتهج استراتيجية سردية مشابهة. من الواضح أن التاريخ الشخصي وإسقاطه على التاريخ السياسي أصبح من الهموم الواضحة للرواية العربية؛ إذ صار السرد ينقب في الماضي، وفي الكاتب نفسه بيوغرافياً وتخيلاً، غالباً لفرط الخذلان في الحاضر وانعدام المستقبل. في المطار، عند العودة، لوّحت لنا من السيارة أحلام وبيسان وزاهي بإشارة النصر من السيارة. رفعنا نحن أيضاً أصابعنا بإشارة النصر والدموع تترقرق في دمائنا. حسن جداً يا أخي العزيز زاهي: سنلتقي في العام القادم إن ظللنا أصدقاء، وإن لم نظل أصدقاء فإننا سنلتقي دوماً.