نزهة مع نجيب محفوظ لـ«بيرسا كوموتسي».. قناع التخييل خلف وجه السيرة
الاثنين / 5 / رجب / 1438 هـ - 18:24 - الاثنين 3 أبريل 2017 18:24
طارق إمام -
(1)
يبحث قارئ الرواية عن فضيحةٍ كاذبة غير أنها قابلة للتصديق، وهكذا يقف غير بعيد عن قارئ السيرة الذي يبحث عن فضيحةٍ يجب أن تُصدّق، لكن الروائية اليونانية «بيرسا كوموتسي» اختارت أن تُخمد الفضيحتين معاً، عندما كتبت نصاً روائياً يتسند على عكاز السيرة، مفتتاً «الحكاية الكبرى» إلى محكيات متجاورة، لتصطاد بحجرٍ واحد سيرتين معاً: سيرتها وسيرة نجيب محفوظ، أو، على نحوٍ أدق، عندما أرادت أن تجعل من سيرتين متباعدتين سيرةً ثالثة. اختارت كوموتسي أن تكتب سيرةً للذاكرة، ذاكرتها الشخصية في تقاطعها مع السيرة الجمعية لمصر في محطات مفصلية، وكثير منا يعرف أن من يلوذ بذاكرته كثيراً ما يصنع تأريخاً للنسيان، من حيث أراد أن يقاومه. ثم، هناك تشابك الاثنتين مع الذاكرة المحفوظية، التي يمثلها ببساطة نصه التخييلي حيث لا وجود لشخص يمكن أن ندعوه «نجيب محفوظ»، حسب هذه الرواية، إلا في كذباته/ نصوصه، وبالتالي، فإن نجيب محفوظ هو شخصية روائية من قبل أن يصبح كذلك في رواية كوموتسي.
يدين القارئ اليوناني بالفضل في تعرّفه بأدب «نجيب محفوظ» لــ«كوموتسي»، التي كرَّست جل حياتها العملية لترجمة مشروع «المعلم الكبير»، كما يحلو لها أن تسميه، إلى لغة كازنتزاكيس. لكن القارئ العربي، بالمقابل، لم يعرف نجيب محفوظ كما كتبته كوموتسي نفسها إلا مؤخراً جداً، وبالتحديد قبل أيام قليلة، عندما أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب روايتها «نزهة مع نجيب محفوظ» ضمن سلسلة «الجوائز»، بترجمة رفيعة عن اليونانية مباشرةً اطلع بها المترجم والأكاديمي المصري خالد رؤوف، والذي قدّم للعربية عديد الترجمات من اليونانية، مثلما فعل العكس.
ربما أول ما يلفت نظر القارئ العربي في «نزهة مع نجيب محفوظ» أنها ليست بالرواية المكتوبة بعين السائح أو باستغراب المستشرق، فكوموتسي مولودة في القاهرة، قضت فيها طفولتها ومراهقتها ومطلع شبابها وتخرجت من جامعتها، أي أننا في الحقيقة أمام كتابة «مصرية» كتبت بلغة غير العربية. وهي الحالة التي تجسدت من قبل في نماذج ليست بالكثيرة مثل ألبير قصيري مصري المولد والنشأة الذي كتب بالفرنسية، وأهداف سويف المصرية التي تكتب بالإنجليزية. ربما لهذا وصف المترجم «كوموتسي» بذكاء بأنها من «اليونانيين المصريين»، ذلك التوصيف الشائع في مصر كون الجالية اليونانية في القاهرة والإسكندرية ظلت لسنوات طويلة جزءاً من النسيج المجتمعي والثقافي للمصريين.
(2)
السؤال الأول، الذي يسأل عنه قراء الروايات «العموميون» هو: عمّ تحكي الرواية؟ ما حبكتها المركزية؟ وهو السؤال الذي يصعب أن تقدم هذه الرواية إجابةً سهلة عنه. «التداعي» هو قانون نص كوموتسي ومحدِّدُه الجمالي، عبر استعادات لاهثة تمنح الرواية إيقاعها السريع.
ليس ثمة من حبكة مركزية في هذه الرواية سوى علاقة الساردة بمحفوظ، كأفق وليس كمحض شخص. بالمقابل، تحتفي الرواية بالمحكيات الصغيرة، التي تلتم في جدارية فسيفسائية «تتجاور» فيها المحكيات بأكثر مما «تتعاقب» لتمنحها ذلك الأفق الشعري على مستوى بنيتها الكلية ومعطيات قراءتها.
بدا لي هذا النص معارضة سيرية/ روائية لنص محفوظ المتأخر «أصداء السيرة الذاتية» الذي يمثل في ظني، مثله مثل نص كوموتسي، نصاً يتأرجح بين السيرة والتخييل. نص «كومتسي» كنص محفوظ ينهل من بئر السيرة لا ليسرد أفقياً بل ليتأمّل و»يستخلص» دلالات وامضة من ركام العابر. من ناحية أخرى، خلق محفوظ في نصه قريناً هو «الشيخ عبد ربه التائه» نهضت عليه السيرة كمونولوج ثنائي بين صوتين: صوت السارد المتسائل وصوت المحاور المُجيب، والذي يبدو كما لو كان صوتاً معرفياً مجرداً وليس تشخيصاً روائياً يوهم بالتجسد المحاكاتي. في نص «كوموتسي» أيضاً هناك المونولوج نفسه بين الصوتين: صوت الساردة وصوت «محفوظ» نفسه، الذي انتقل ليصبح هو نفسه «الشيخ عبد ربه التائه» في نص كوموتسي. لم لا، وجميع فصول الرواية تنهض على الصوت المحفوظي كتوطئات، عبر مقاطع منتقاة من نصه السردي الشاسع، بل إن المجتزآت التي انتقتها كوموتسي، بما فيها من صيغٍ حِكَمية تأملية مجردة، تكاد تشبه إلى حد بعيد المقاطع التي وضعها «محفوظ» المتسائل في «أصداء السيرة الذاتية» على لسان «الشيخ عبد ربه» المجيب في ذات نص. وفق هذه المقاربة فإن كوموتسي تغور مباشرةً في «الوعي المحفوظي» عوضاً عن استلهام «الذات المحفوظية».
نحن إذن، ومن اللحظة الأولى، أمام معارضة أدبية تمثل حوارية بين صوتين، ما يفسر، بالنسبة لي، اعتراف «كوموتسي» في مقدمتها للرواية بارتباكها عندما يتعلق الأمر بطبيعة علاقتها «الشخصية» بمحفوظ: «الجميع كان يسألني إن كنت قد تعرفت عليه، وأنا كنت أجيب بعمومية طريفة: نعم تقابلنا مرة.. ذات مرة... عندما كنت طفلة... عندما كنتُ طالبة. لكن في الحقيقة، ماذا كنتُ سأقول لهم؟ إنني كنت أقابله مراراً وتكراراً في مسيرة حياتي بشكل عجيب، بشكل روائي تقريباً؟ كيف أفسر لهم أنني عرفته دون أن أعرفه؟»
هل حقاً تختبئ «كوموتسي»، أم أنها تناور عن عمد، لائذةً بفردوس الغموض الذي يجعل من لعبة الاحتمالات سؤالاً تفسده الإجابة؟ هي التي تعترف أن «الغموض يحدد مدى نجاح أي علاقة بين المرسل والمتلقي، وهذا لأن الإنسان في حد ذاته، لغز أو سر غامض، يفقد جاذبيته والتطلع لمعرفته عندما ينكشف».
(3)
من ناحيةٍ أخرى نحن أمام رواية تنهض بوضوح على السيرة الذاتية لصاحبتها، لا تكتسب بعدها التخييلي من «التأليف» بل تستند إلى الخيانات الملهمة للذاكرة، والتي تمنح هذا النص فجواته ومساحات غيابه، الحاضرة بنفس قوة مساحات التجسد الحدثية فيه، والتي تبدو أشبه بخبطات فرشاة سريعة، تحاكي ومضات الذاكرة التي تشتعل وتخبو في اللحظة ذاتها، واضعةً المتذكر أمام الحضور والغياب في اللحظة ذاتها.
رواية «كوموتسي» تتوسّل بالانتقاء المشهدي الدقيق لمحكيات مفعمة بالدلالة، تدعمها لغة سلسة تصيب هدفها من أقصر الطرق. هو سرد يكاد يكون شعرياً في أفقه الكبير، لـ»محطات» هذا النص الثمانية عشرة، والتي تُشكِّل كل منها حلقة يمكن قراءتها منفصلة كنص، غير أنها تظل مبتسرة الدلالة في قراءتها الجزئية.
أيهما «كورال» الآخر؟ محفوظ الذي يبطن صوت «كوموتسي» معلقاً عليه من ظلمة الخلفية؟ أم «كوموتسي» التي توحي بتصدر المشهد لتفاجئ الشيخ العجوز في ركن الخشبة بضوء التعرّي المبهر؟ سؤال يحتمل إجابات عديدة، لكننا في النهاية أمام وجهين، يرى كل منهما نفسه في قناع الآخر.