أفكار وآراء

ربع قرن من التغيرات الإعلامية السريعة

مع إطلالة العام الجديد، يكون العالم قد أسدل الستار على الربع الأول، ودخل الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين. في وادع الربع الأول واستقبال الربع الثاني غالبا ما تثار الأسئلة حول ما شهده الربع الأول وما يمكن أن يشهده الربع الثاني من تغيرات على جميع المستويات العالمية والإقليمية والوطنية.

وبعيدًا عن الأحداث والقضايا التي مرّ بها العالم خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، فإن الأمر المدهش حقًا والإعجاز الذي حار الناس في فهمه، يتمثل في تلك التحولات الإعلامية الجذرية التي عصفت بوسائل إعلام اعتاد البشر لمئات السنين على الإقبال عليها واستهلاكها، وقامت عليها وحولها صناعات ضخمة ومربحة، لتحل محلها وسائل اتصالية جديدة، لم يكن أحد يحلم أن تصبح حقيقة واقعة، ويجتمع حولها الناس من كل أنحاء الكرة الأرضية.

مع بداية القرن الحالي كان مشهد قراءة الصحف والمجلات والكتب الورقية يبدو مألوفا في المنازل وأماكن العمل ووسائل المواصلات العامة، تمامًا مثل مشهد اجتماع الأسرة حول جهاز التلفزيون أو جهاز الراديو، ومشهد الأسر وهي تذهب إلى دور العرض السينمائي. مع نهاية الربع الأول من القرن الحالي اختفت هذه المشاهد أو كادت، وحلت محلها مشاهد جديدة للبشر وهم يطالعون شاشات هواتفهم الذكية أو الأجهزة اللوحية لساعات، يقرؤون من خلالها الأخبار ويستمدون منها المعارف، ويشاهدون من خلالها المقاطع المصورة والمسموعة دون أن يتحدث أحد منهم مع الآخر حتى داخل المنزل الواحد والمكتب الواحد.

التكنولوجيا التي غيرت تعاملنا مع وسائل الإعلام في السنوات الماضية قادرة مع نهاية الربع الثاني من القرن أن تغير كل المشاهد الحالية وتستبدلها بمشاهد جديدة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بها. في تاريخ التلفزيون على سبيل المثال يذكر المؤرخون أن كلمة التلفزيون ظهرت لأول مرة في عام 1907 في مجلة أمريكية علمية. وقبل ذلك وفي عام 1879 نشرت مجلة بريطانية ساخرة رسما لزوجين يشاهدان مباراة في التنس على شاشة وضعت أعلى المدفأة. وبعد ذلك بثلاث سنوات رسم فنان فرنسي عائلة المستقبل وهي تشاهد الحرب على شاشة منزلية، ومع ذلك لم يتحول التلفزيون إلى وسيلة إعلام جماهيرية سوى في نهاية أربعينيات القرن الماضي. لو قدر لنا أن نتوقع ما سيكون عليه مستقبل وسائل الإعلام في الخمس والعشرين سنة القادمة، وبعد كل ما عايشناه من تطور في شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي والشاشات الصغيرة والذكاء الاصطناعي.. ماذا يمكن أن نتوقع؟

إن القراءة الدقيقة للواقع الحالي تؤكد أن إرهاصات المستقبل الإعلامي قد بدأت بالفعل في السنوات الخمسة الأخيرة، ويكفي أن نشير هنا إلى عدد من التقنيات الجديدة التي بدأ استخدامها بالفعل في الإعلام وحققت نجاحا ملحوظا، ومن المتوقع أن يتعزز هذا النجاح خلال السنوات القادمة، وهو ما يفرض على وسائل إعلامنا العربية المبادرة باستخدامها وتوظيفها لخدمة جمهورها، حتى لا تبقى طويلا خارج السياق الإعلامي العالمي. يأتي على رأس هذه التقنيات -من وجهة نظري- تقنيات الواقع المعزز والافتراضي التي تمثل ثورة في طريقة إنتاج ونقل وعرض الأخبار والمحتوى الإعلامي.

وتتيح تقنيات الواقع المعزز للمستخدم رؤية الأخبار والمعلومات الإضافية عبر هاتفه الذكي أو باستخدام نظارات خاصة، والتفاعل المباشر مع عناصر القصة الإخبارية. أما تقنية الواقع الافتراضي فإنها تنقل المشاهد إلى موقع الحدث بشكل افتراضي كامل، وتوفر له رؤية بانورامية للحدث بزاوية 360 درجة، وتمنحه القدرة على التجول في مواقع الأحداث بحرية، وتخلق لديه الشعور بالوجود الفعلي في مكان الحدث، مع إمكانية مشاهدة الأحداث من زوايا مختلفة.

وعلى مستوى العمل الإعلامي، فإن هذه التقنيات تتيح للصحفيين الذين يعملون في مجال التغطية الإخبارية، النقل المباشر للأحداث مع إمكانية التجول في موقع الحدث، وتقديم معلومات إضافية عن الشخصيات والأماكن، وخلفيات وسياقات تفاعلية للأحداث، ودمج الرسوم البيانية والإحصاءات بشكل مباشر مع المشهد الحقيقي. ويستفيد الصحفيون العاملون في الصحافة الاقتصادية منها في تقديم البيانات والإحصاءات بشكل ثلاثي الأبعاد، وعرض تطور الأسواق المالية بصورة تفاعلية، وتقديم تحليلات مرئية معقدة بطريقة سهلة الفهم. أما في التغطية الرياضية فيمكن من خلالها متابعة المباريات من زوايا متعددة، وعرض إحصاءات اللاعبين بشكل فوري ومباشر، وتقديم تحليل ثلاثي الأبعاد للمباريات، وتوفير تجربة أجواء الملعب للمشاهدين حتى يشاهدوا المباريات من منازلهم وكأنهم في الملاعب.

ومن التقنيات التي سيكون لها دور كبير في مستقبل الإعلام، تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تدعم الصحافة الآلية أو المؤتمتة التي من الممكن أن تزيد من كفاءة العمل الصحفي، وتحسن دقة التقارير الإخبارية، وتخصص المحتوى للجمهور وفقا لاهتماماته، مع تقديم تغطية أوسع للأحداث والقضايا. وباستخدام هذه التقنيات يمكن للصحفيين معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة فائقة، واكتشاف الاتجاهات في الأخبار والأحداث، والتنبؤ بالقصص الإخبارية المحتملة، وتحديد اهتمامات الجمهور بدقة عالية. ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي في العمل الإعلامي على ذلك فقط، إذ أصبح بالإمكان استخدامه في إنتاج المحتوى الإعلامي، مثل كتابة التقارير الإخبارية الأساسية، وتحويل البيانات إلى قصص صحفية، وتلخيص المقالات والتقارير الطويلة، وترجمة المحتوى إلى لغات متعددة بشكل فوري، بالإضافة إلى التحقق من صحة ودقة المعلومات، وكشف الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة، والتحقق من صحة الصور ومقاطع الفيديو، وتتبع مصادر المعلومات.

أما التقنية الأخيرة التي من المتوقع أن يكون لها تأثير كبير في مستقبل الإعلام فهي تقنية «الميتافرس» التي تعني في اللغة العربية «العالم الافتراضي المجسد»، و«الكون الرقمي التفاعلي»، و«الفضاء التخيلي المتكامل»، و«البيئة الرقمية المجسمة»، و«العالم الرقمي الموازي». ويشير المصطلح إلى عالم افتراضي متكامل يجمع بين الواقع المعزز والواقع الافتراضي والإنترنت، حيث يمكن للمستخدمين التفاعل مع بعضهم البعض عبر شخصيات افتراضية في بيئة رقمية ثلاثية الأبعاد. ويمكن لوسائل الإعلام أن توظف «الميتافرس» في إنشاء وإدارة غرف أخبار افتراضية تفاعلية، وتقديم تغطية مباشرة للأحداث من خلال الحضور الافتراضي للصحفيين، وحضور المؤتمرات الصحفية في الفضاء الافتراضي.

إن استقراء تاريخ تطور وسائل الإعلام، وبالنظر إلى التحولات الجذرية التي حدثت في السنوات الأخيرة في طرق الاتصال البشري، نستطيع أن نؤكد أننا أمام تحولات أعمق في السنوات القادمة، وأن الاستعداد لها والتعامل مع التحديات والتأثيرات السلبية التي يمكن أن تتركه على المهن الإعلامية وتغير أدوار الصحفيين، يجب أن يبدأ من الآن وليس غدا. من المؤكد أن هذه التقنيات وغيرها ستغير وجه الإعلام بشكل جذري، لكن نجاحها سيعتمد على قدرة المؤسسات الإعلامية على تطوير نماذج اقتصادية ومهنية مستدامة لاستخدامها، وتدريب كوادرها على توظيفها بالشكل الأمثل، مع الحفاظ على المعايير المهنية والأخلاقية للعمل الإعلامي.