أعمدة

أنثربولوجيا القبولي العماني !

زارت صديقة لي وزوجها مسقط قبل أسبوعين. قدما من أمريكا التي يعيشان فـيها منذ عشر سنوات، بعد أن تنقلا فـي مدن عربية وغربية عديدة. لكنها زيارتهما الأولى لمسقط. تحمستُ كعادتي للعب دور المرشدة السياحية، رغم قدراتي المتواضعة، أمام ما تكشفه مسقط من جمال خلاب وأسرار لا نهاية لها، أشاهدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر أختي التي تصغرني بعامين، التي لا تكتفـي بقطع نقاط مسقط المركزية، وتذهبُ لأماكنها الأقل شهرة.

كما أنني لاحظتُ أن مسقط وجهة للكويتيين، وبسبب علاقتي الخاصة بهم لدراستي فـي الكويت، فقد لاحظتُ أن النساء تحديدًا بدأن بالاستثمار فـي الإرشاد السياحي، ومغامرات المشي الجبلية، وتنظيم جلسات رياضة اليوغا على سفوح جبالها الساحرة. وكان من بين المحطات الأساسية هي المطعم العماني.

وعندما طلبت لهم القبولي من بين وجبات أخرى، تفاجآ وقالا لي إنهما جيران فـي ولايتهما الأمريكية لمطعم أفغاني يقدم القبولي، فهل هي وجبة أفغانية؟ لم أسمح لهما -بحس فكاهي طبعا- أن يقولا ذلك بصوت عالٍ، لكن الفكرة ظلت فـي بالي حتى موعد مغادرتهما، ناقشتُ أصدقائي العمانيين حول المسألة، وقد أجابني صديق لي، أن هذا ربما يكون معقولا، وأن القبولي ربما اشتقت عن «كابول» المدينة الأفغانية، وتوسع حديثنا ليشمل علائق المطبخ الخليجي بالمطبخ الآسيوي والاختلافات بينهما.

لكن سؤالًا أكبر كان يلحّ عليّ لمعرفته. وهو فكرة المطبخ القومي أصلًا، أو لماذا بات من المفترض أن يكون هنالك مطاعم ذات هوية وطنية. وهو أمر أثار النقاش بل حتى التعصب فـي أماكن عديدة فـي العالم، فالمطبخ الشامي ربما يكون عثمانيًا أو العكس. أدرك أن دراسات المطعم والطعام هي موقع «بيني» مهم فـي العقود الماضية لدراسة التاريخ والاقتصاد والسياسة، فوصفة طعام واحدة قد تخبرنا كوسيط عن لحظة تاريخية معينة ما لا تقدر يوميات تاريخية مكتوبة مباشرة بغرض التوثيق التاريخي الحديث عنها بالجدارة نفسها.

وجدتُ طيفًا من الإجابة عن هذا السؤال فـي دراسة عن تأميم ممارسات الحياة المنزلية، أو دعوني أقول «قومنتها» ولا أدري مدى صحة هذا الاشتقاق عن القومية، أو إن كان موجودًا بالفعل، نشرت هذه الدراسة فـي هولندا لاريك ستورم وتبدأ بالحديث عن جدة فكرة الدولة القومية، فهي حديثة لم تبدأ إلا قبل نحو مائتي عام، ولم تزدهر كما حدث لها بعد الحرب العالمية الثانية، التي رسخت فكرة «الدولة» و«الأمة».

وكان ذلك بتبني السياسة والإعلام والأكاديميا خطابًا أنتج هوية وطنية جامعة. كانت الثورة الفرنسية والحملة النابليونية من قبلها قد أدخلت فكرة سيادة الأمة للخطاب السياسي. وكان من بين الأدوات التي استخدمت لتكريس فكرة القومية خلال هذه المراحل التاريخية المتقاربة توحيد اللغة الوطنية وتوثيق الحكايات الشعبية للأمة والسعي لجمع الآثار والتحف لتكريس وجود ماضٍ وطني وبطولي خاص. ومع توسيع حق الاقتراع وصعود السياسة الجماهيرية وما صاحبها من ترويج واحتفال وحملات ترشح وما إلى ذلك دخلت القومية منعطفا جديدا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأصبح المشهد الحضري مثلًا مليئًا بالتماثيل والآثار الوطنية.

مع ذلك لم تدرس البحوث والكتب التمظهرات القومية بعيدًا عن الحقل الثقافـي والسياسي والحضري، فلم تذهب حتى وقت قريب للحيز الخاص، وإلى مساهمة الأفراد بمجالهم «الخاص» أو «الشخصي» كـ«المجال المنزلي» ودوره فـي تكريس القومية والهوية الوطنية.

وعلى ما يقوم به الأفراد بمساهماتهم التي قد لا تكون واعية أو مدروسة بالضرورة فـي رسم «تقاليد وطنية» تصبح راسخةً ومسلمًا بها مع مرور الوقت كشأن وطني فعلًا.

تنتبه الدراسة إلى دور المبادرة الفردية فـي العمارة المنزلية من قبل المعماريين المتخصصين فـي تأسيس ما سيعرف بعمارة الدولة الفلانية، أو المقاطعة العلانية، وكذلك الحال بالنسبة للمطبخ الوطني.

الروائية أميليا باردو بازان دعت صراحة لتأميم ممارسات الحياة المنزلية فـي مدرسة العلوم المنزلية التي أنشئت أثناء الحرب العالمية الأولى فـي مدريد، زعمت بازان أن الوطن كان حقيقة كبيرة وواضحة «شيئًا طبيعيًا مثل الدورة الدموية» وبالتالي فإن النساء ومن منازلهن آنذاك كن مسؤولات عن تحفـيز مظهر الأمة ورفاهها، وكانت ترى فـي ذلك حفاظًا على الوطن وتجنبًا لانحطاط العرق! لقد دعت لأن تلتزم النساء حتى فـي واجباتهن المنزلية بخدمة الوطن لا عبر خدمة رجاله المقاتلين وتربية الأطفال المقاتلين فحسب بل من خلال كل شيء يتعلق بالحياة فـي المنزل وخصوصيتها بداية من طبخ الأطباق الأسبانية وصولا لأنشطة التدبير المنزلي الأخرى.

لاحظ معي عزيزي القارئ، كيف أن المطبخ يصبح هو أيضًا حيزًا للتعبئة الداخلية الشاملة.

تتطرق الدراسة فـي هذا السياق لدراسة أجرتها نانسي ريجين حول تأميم أعمال التدبير المنزلي فـي ألمانيا أعقاب مطلع القرن العشرين، عندما رُوجَ لأساليب «سليمة» للتدبير المنزلي، وجهت للنساء عموما كن بروتستانتيات أو كاثوليكيات أو يهوديات ليصبح هنالك معايير منزلية «ألمانية».

وبغض النظر على مسألة الحكم على «القومية» والنكوص إليها، فـيما إذا كان رجعيا أو تقدميا، وهو أمر أرى أنه ينبغي التفكير فـيه باستمرار، أو على الأقل التفكير فـي «المحلية» فـي كونها «عالمية» فـي جوهرها، لكونها نتاج تفاعل عالمي تاريخي، إلا أن كل هذا مثير للاهتمام حقًا، لقد سرحتُ بتفكيري بالشباب العمانيين الذين أحب متابعتهم جدًا على وسائل التواصل الاجتماعي، المؤثرين تحديدًا فـي مجال الطهي، وبعضهم متابع من الخارج مثل معاذ البادي، أو الشيف الفلسطيني الذي يعيش ويبث وصفاته من سلطنة عمان محمد موسى واللذين يوثقان طرق طبخ وجبات «عمانية» بعضها شهير والآخر ليس كذلك. وكيف يقومان بدورهما برسم حدود وطنية واضحة، «تقومن» الطهي وتنسب وصفات دون غيرها لهوية واحدة.

ألهمني هذا السؤال للتفكير فـي القومية -وهو ليس طارئا مع تصاعد «الشعبوية» فـي العالم كله- بطريقة مختلفة، أرغب أكثر من أي وقت سابق فـي قراءة واحدة من أهم الأطروحات النظرية حول القومية فـي التاريخ وهو كتاب «الجماعات المتخيلة: تأملات فـي أصل القومية وانتشارها» لبندكت أندرسن، والنظر فـي المساهمات القادمة من «الأسفل» لصياغة الهوية الوطنية. كم أنا ممتنة للقبولي العماني لأسباب عديدة كما تتخيلون، إحداها إشعال هذا الفضول بالقومية!.