الذات الدقيقة في مواجهة التهميش.. قراءة في مجموعة "نافذة للصمت" لهشام ازكيض
الأربعاء / 23 / جمادى الآخرة / 1446 هـ - 19:27 - الأربعاء 25 ديسمبر 2024 19:27
في كتابه 'منابع الذات وتكوّن الهوية الحديثة' تحدث تشارلز تايلر عن مجموعة من طرائق البحث عن المنهجية التي تساعد الإنسان في فهم صفاته ورغباته وميوله وعاداته الفكرية والشعورية التي تمكنه من بناء المواقف وردود الأفعال تجاه محيطه والتفاعل معه. وقد أطلق عليها (البحث عن الذات الدقيقة) التي تشكل ماهية العوالم الداخلية لإنسانية الفرد. ومن النصوص التي تتناول حداثة الشخصية وألفتها وسط صخب من الأفكار والحوادث والأزمات الفردية والجمعية المجموعة القصصية للكاتب والأديب المغربي هشام أزكيض المعنونة باسم 'نافذة للصمت' والتي تتكون من عشرين قصة مختلفة لكن رابطا دقيقا وشفافا يكاد يجمعها داخل حزمة غير مرئية من حيث اختلاف التناول والمضمون لكنها متشابكة تماما إلى حد اللاانفكاك من حيث الشعور وتدفق الفكرة الإنسانية متقاسمة الوقوف بإخلاص وثبات على نافذة للصمت. وكما أن الكلام له القدرة الأعظم على تفسيرالإنسان والتوغل في أعماقه فإن للصمت في حياتنا المعاصرة وزنه الراجح في كفتي الميزان بل ربما أطاح بالكفة الأخرى أرضا في كثير من المواقف حتى وإن 'لم يكن في الغرفة المظلمة المغلقة الإحكام سوى نافذة صغيرة جدا خلفها جدار أكثر إعتاما من محاولات النافذة للإمساك بخيوط الشمس'.
يبدو هشام أزكيض في مجموعته القصصية 'نافذة للصمت' كأنه يمارس أسلوب التعلم الذاتي الذي تحدث عنه أحمد خالد توفيق في كتابه (اللغز وراء السطور) مبينا حقيقة الكتابة والكاتب الذي يجد نفسه منغمسا بلا إرادة أو وعي في حاضنته الاجتماعية المتشابكة التي تضخ ألاف الأفكار الملاحقة للفرد بلا رحمة حتى تلجئه قسرا إلى ذلك الجدار وتلك النافذة .
عشرون قصة تقترف خطيئة البحث عن الذات الدقيقة ، تلك الإنسانية الصافية المتمردة بطبعها جنوحا لحرية منحها لها الخالق - سبحانه - عند أول صرخة في هذه الحياة ، ولكن هشام أزكيض يضعنا منذ العتبة الأولى لمجموعته في مواجهة صادقة مع الذات مقرا أن كتابه مثقل بالحزن الذي يستوجب من قارئه ان يحتمي احترازا بالبكاء بين الحين والأخر. وهذا يحيلنا إلى سؤال مكرور لماذا يلجأ الكاتب إلى صبغ عتبته الأولى لكتابه بصبغة الضياع والألم غير أبه لقارئ يبحث عن بصيص أمل أو خيط نجاة بين دفتي كتاب أو في متن قصصي مختزل.
تبدأ المجموعة بقصة 'تحت المجهر' التي تأخذنا منذ الجملة الأولى إلى مجهر من نوع مختلف ، إنه مجهر الذات التي تترنح على شعرة فاصلة بين العقل والجنون في مستشفى للطب النفسي حيث يبدو أعقلهم ذلك المنكمش على نفسه يراقب بصمت ما يحاوله الأطباء من استجداء بارقة وعي وإدراك ما مع مرضاهم .لتخلص بنا القصة إلى أن الصمت أكبر دلائل العقلانية والتعقل في كثير من دروب الحياة .وفي قصة ' نافذة للصمت ' التي سميت المجموعة باسمها نجد منصورا الذي اغتال السجن زمانه الماضي ويلتهم زمانه الحاضر ممعنا في التغول على مستقبله أيضا ، هكذا يقبع الجسد المقهور في الزنزانة وكأن الروح انفصلت عنه لتعذب تعذيبا خاصا يليق بها بعد أن استبدلوا خلاياه الحية النابضة بأخرى مصنّعة ، مادتها الأولى الصمت . إن التحليق الذي يحاوله الكاتب أزكيض في فضاءات نصوصه محاولة جيدة للاقتراب من الداخل الإنساني الذي مهما ظننا أننا كشفناه تماما وعريناه بالكلية يبقى قابلا للبحث والحفر في العمق هناك حيث تقبع الذات الدقيقة للفرد التي ترسمأناه وهويته النفسية والروحية والفكرية.وفي قصة ' على الهامش ' نجد مفهوم التهميش الدقيق متجسدا في شخصية الموظف البائس الذي تصفعه الحياة من كل جانب بالمطالبات والاستحقاقات التي لا تنتهي ، ويكفي أن نقول موظفا في عامنا العربي لنتخيل كمية 'الحزن الثقيل الذي نشعرأنه يمتلك موهبة العدوى ' فحن جميعا على حد اعتراف الكاتب في قصته ' نستطيع أن نحزن سريعا لأن الأوطان قامت بتوريث هذه الجينات لنا منذ الصغر'.
تبدو الهوية الذاتية في مجموعة هشام أزكيض في مهب (التشييء) الذي يطمس تفردها بذلك الوميض الروحي النابع من حقيقة الكينونة الإنسانية الأولى قبل أن تمتد أياد كثيرة للنيل من تلك الحقيقة لصالح عولمة مزعومة أحيانا أو حداثة وما قبلها وبعدها جعلت الإنسان في مهب الاختبار المتواصل وانعدام الثبات في ظل دعاوى كثيرة للتخلص من ذلك الذي يسمونه عبئا قيميا وإرثا فكريا ودينيا يقاوم تجدد الأفكار، غير أن الإنسان انغمس في تشتته وضياعه حتى بات يبحث عن ذاته الدقيقة وأناه المتفردة في كومة من الفلسفات والنظريات وعبثا يفعل.
وبين قصص 'الهاتف الأخير ' و ' أحلام منهوبة' و ' ذاكرة غيمة صيفية ' يظل السرد عالقا في فخ الوصف المكثف الذي يحمّل الكلمات القليلة معان عظيمة تماما مثلما قال ستيفن كينغ عن احتفائه باستدعاءات الزمان والمكان قبل شروعه في الكتابة وهو بذلك يوقظ قدرة حواس الكاتب على تصيد المعنى بلغة طازجة ومشبعة بالشعور والمعنى .
لقد أثبت الكاتب المغاربي هشام أزكيض وهو الموغل عميقا في عالم الكتابة على اتساع مستوياتها أن القاص يمكنه أن يتحول إلى أكثر من سارد داخل نصه سيما إذا كان النص من النوع الذي يستدعي انثيالات نفسية واجتماعية عميقة تلامس وجدان الإنسان إلى أعمق نقطة حيث تتجلى ذاته الدقيقة في إشارة سيمائية إلى معنى الهوية والأنا والذات في تناولاتنا الأدبية والفكرية ووعينا الجمعي.
• زينب المسعود الروائية والناقدة من الأردن
يبدو هشام أزكيض في مجموعته القصصية 'نافذة للصمت' كأنه يمارس أسلوب التعلم الذاتي الذي تحدث عنه أحمد خالد توفيق في كتابه (اللغز وراء السطور) مبينا حقيقة الكتابة والكاتب الذي يجد نفسه منغمسا بلا إرادة أو وعي في حاضنته الاجتماعية المتشابكة التي تضخ ألاف الأفكار الملاحقة للفرد بلا رحمة حتى تلجئه قسرا إلى ذلك الجدار وتلك النافذة .
عشرون قصة تقترف خطيئة البحث عن الذات الدقيقة ، تلك الإنسانية الصافية المتمردة بطبعها جنوحا لحرية منحها لها الخالق - سبحانه - عند أول صرخة في هذه الحياة ، ولكن هشام أزكيض يضعنا منذ العتبة الأولى لمجموعته في مواجهة صادقة مع الذات مقرا أن كتابه مثقل بالحزن الذي يستوجب من قارئه ان يحتمي احترازا بالبكاء بين الحين والأخر. وهذا يحيلنا إلى سؤال مكرور لماذا يلجأ الكاتب إلى صبغ عتبته الأولى لكتابه بصبغة الضياع والألم غير أبه لقارئ يبحث عن بصيص أمل أو خيط نجاة بين دفتي كتاب أو في متن قصصي مختزل.
تبدأ المجموعة بقصة 'تحت المجهر' التي تأخذنا منذ الجملة الأولى إلى مجهر من نوع مختلف ، إنه مجهر الذات التي تترنح على شعرة فاصلة بين العقل والجنون في مستشفى للطب النفسي حيث يبدو أعقلهم ذلك المنكمش على نفسه يراقب بصمت ما يحاوله الأطباء من استجداء بارقة وعي وإدراك ما مع مرضاهم .لتخلص بنا القصة إلى أن الصمت أكبر دلائل العقلانية والتعقل في كثير من دروب الحياة .وفي قصة ' نافذة للصمت ' التي سميت المجموعة باسمها نجد منصورا الذي اغتال السجن زمانه الماضي ويلتهم زمانه الحاضر ممعنا في التغول على مستقبله أيضا ، هكذا يقبع الجسد المقهور في الزنزانة وكأن الروح انفصلت عنه لتعذب تعذيبا خاصا يليق بها بعد أن استبدلوا خلاياه الحية النابضة بأخرى مصنّعة ، مادتها الأولى الصمت . إن التحليق الذي يحاوله الكاتب أزكيض في فضاءات نصوصه محاولة جيدة للاقتراب من الداخل الإنساني الذي مهما ظننا أننا كشفناه تماما وعريناه بالكلية يبقى قابلا للبحث والحفر في العمق هناك حيث تقبع الذات الدقيقة للفرد التي ترسمأناه وهويته النفسية والروحية والفكرية.وفي قصة ' على الهامش ' نجد مفهوم التهميش الدقيق متجسدا في شخصية الموظف البائس الذي تصفعه الحياة من كل جانب بالمطالبات والاستحقاقات التي لا تنتهي ، ويكفي أن نقول موظفا في عامنا العربي لنتخيل كمية 'الحزن الثقيل الذي نشعرأنه يمتلك موهبة العدوى ' فحن جميعا على حد اعتراف الكاتب في قصته ' نستطيع أن نحزن سريعا لأن الأوطان قامت بتوريث هذه الجينات لنا منذ الصغر'.
تبدو الهوية الذاتية في مجموعة هشام أزكيض في مهب (التشييء) الذي يطمس تفردها بذلك الوميض الروحي النابع من حقيقة الكينونة الإنسانية الأولى قبل أن تمتد أياد كثيرة للنيل من تلك الحقيقة لصالح عولمة مزعومة أحيانا أو حداثة وما قبلها وبعدها جعلت الإنسان في مهب الاختبار المتواصل وانعدام الثبات في ظل دعاوى كثيرة للتخلص من ذلك الذي يسمونه عبئا قيميا وإرثا فكريا ودينيا يقاوم تجدد الأفكار، غير أن الإنسان انغمس في تشتته وضياعه حتى بات يبحث عن ذاته الدقيقة وأناه المتفردة في كومة من الفلسفات والنظريات وعبثا يفعل.
وبين قصص 'الهاتف الأخير ' و ' أحلام منهوبة' و ' ذاكرة غيمة صيفية ' يظل السرد عالقا في فخ الوصف المكثف الذي يحمّل الكلمات القليلة معان عظيمة تماما مثلما قال ستيفن كينغ عن احتفائه باستدعاءات الزمان والمكان قبل شروعه في الكتابة وهو بذلك يوقظ قدرة حواس الكاتب على تصيد المعنى بلغة طازجة ومشبعة بالشعور والمعنى .
لقد أثبت الكاتب المغاربي هشام أزكيض وهو الموغل عميقا في عالم الكتابة على اتساع مستوياتها أن القاص يمكنه أن يتحول إلى أكثر من سارد داخل نصه سيما إذا كان النص من النوع الذي يستدعي انثيالات نفسية واجتماعية عميقة تلامس وجدان الإنسان إلى أعمق نقطة حيث تتجلى ذاته الدقيقة في إشارة سيمائية إلى معنى الهوية والأنا والذات في تناولاتنا الأدبية والفكرية ووعينا الجمعي.
• زينب المسعود الروائية والناقدة من الأردن