«قطار الصُدفة»
الثلاثاء / 22 / جمادى الآخرة / 1446 هـ - 21:47 - الثلاثاء 24 ديسمبر 2024 21:47
بصمت كبير، وبعيدا عن أي ضجة، رحل الشاعر اللبناني جاد الحاج (1946 ــ 2024)، الأسبوع الماضي، فـي مهجره الأسترالي. رحل بعيدا عن وطنه، الذي غادره للمرة الأولى مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، ليتنقل فـي مدن كثيرة قبل أن يختار أستراليا «وطنا بديلا»، فـيما لو جاز القول. من قبرص إلى اليونان، ومن باريس إلى لندن، حطّ به الرحال منذ عقود فـي سيدني، الذي كان وصل إليها لمرة أولى، قبل أن يعود منها، ليتابع رحلته فـي بعض أرجاء العالم، ليقرر فـي النهاية العودة إلى استراليا. إنه فعلا «قطار الصدفة»، فـيما لو استعرنا عنوان إحدى مجموعاته الشعرية. هذا القطار الذي لا يتوقف فـي محطة، إلا لأنه سينطلق إلى مكان آخر وأبعد.
لو نظرنا إلى هذه الرحلة التي قطعها، لوجدنا كم كانت متشعبة فـي مساراتها، أولا من حيث مساراتها الجغرافـية، إذ أقام متنقلا بين العديد من العواصم فـي العالم، من دون أن ينسى لبنان، الذي كان يعود إليه بين الحين والآخر، كلما تسنى له ذلك. وثانيًا، من حيث النوع الأدبي، إذ «بدأ» شاعرا، قبل أن ينتقل إلى الرواية والقصة والحكاية، وثالثا من حيث اللغة، إذ كتب باللغتين العربية والإنجليزية. وإن دلّ هذا التنقل الدائم على شيء، فهو يدل على أن جاد الحاج لم يختر فـي الواقع أي وطن سوى الكتابة. كل هذه الأمكنة كانت حجة للكلمة، التي لم يتوقف عن التفكير فـيها، لغاية لحظاته الأخيرة. كانت الكتابة هي التي تعنيه فـي هذه الحياة بأسرها. يمكن القول إنه صرف عمرا كاملا، لا بحثا عن مكان يأوي إليه، بل عن كلمة تكون هي هذه الحياة التي بحث عنها، فـي العمق.
متشعب أيضا هذا الخيار، خيار جاد الحاج، فهو الذي عمل مع يوسف الخال، فـي فترة الإصدار الثانية لمجلة «شعر»، قبل أن يطوي رحاله، ويغادر من دون أن يلتفت إلى الوراء كثيرا. لكنها فترة، عمقت صداقته بالخال، كما عمقت صداقته الطويلة بـ«سركون بولص»، حيث عرفا حياة بوهيمية حقيقية، انتقلا فـيها من مكان إلى آخر، وخاصة الفترة اليونانية من حياتيهما التي كانت الأعمق، إذ أن المنشورات التي أسساها (منشورات «سارق النار») شهدت صدور المجموعة الشعرية الأولى لسركون بولص فـي ثمانينيات القرن الماضي. ففـي اليونان لم يفعلا شيئا سوى الكتابة، والتنقل من جزيرة إلى أخرى، بحثا عن «إيثاكا»، وكأنهما عوليس الزمن المعاصر.
هذه الفترة، التي جمعته مع الشاعر العراقي، كان يصفها الحاج بالمضحكة. إذ كان سركون يكتب وينسى نصوصه أحيانا تحت السرير فـي بيته وأحيانا فـي جيوبه الراحلة إلى المصبغة. فقام الحاج بجمع تلك النصوص واحدا واحدا خلال سنة ليقول له إنه ذاهب إلى بيروت ليطبع له ديوانا وسأله «ماذا تسميه»؟ فأجاب سركون «إلى أين»؟ ... كانت بيروت تحترق يومها، فأجابه قلت إلى بيروت. قال سمه «الوصول إلى مدينة أين»؟ لم يكن سركون مهتما بالنشر على الإطلاق. لكن حين رأى كتابه الأول محمولا ستة طوابق على كتف الحاج فـي علبة تحتوي 500 نسخة أصيب بنوع من الانهيار السعيد. جلس وفتح كلّ نسخة كأنها كتاب جديد. مذ ذاك بدأ يفكر بنشر مجموعاته لكن لم يكن الأمر سهلا حتى أواخر سنواته حين بدأ يشعر بالتعب.
ربما تكون صداقة سركون هي المحطة الثانية فـي حياة جاد الحاج. المحطة الأولى كانت صداقته مع يوسف الخال (مؤسس مجلة «شعر»)، إذ اعتبر الخال أن قصائد الحاج هي بمثابة قامة فريدة فـي الشعر العربي المعاصر. قد لا يكون يوسف الخال مخطئا فـي حكمه هذا، بيد أن الحاج لم يركن إلى ذلك، بل بقي يبحث عن لغته الخاصة، بقي يبحث عن تمايزه مع قصيدة الستينيات مثلما قدمتها مجلة شعر. ما ميّز قصيدته ميله الكبير وحبّه الكبير للغنائية فـي الشعر والتي مال إليها أكثر ممّا مال إلى التجارب التي تؤسس المغامرة على الارتباط بسيرورة ما. قد يكون هذا الموقف عائدا إلى نضج أو إلى شيخوخة (قبل الأوان). المهم أن ذائقته الأدبية تطورت من مدار التمرد المطلق إلى فسحة التأمل والتبحر فـي انتمائه إلى لغة وتراث وثقافة لها تاريخ طويل وعريق. بهذا المعنى، جاءت كتاباته اللاحقة وكأنها تحاول أن تصحح هذه الالتواءات فـي مساره الشعري عبر كتاباته القصصية.
غالبا ما اعتبر جاد الحاج أن الكتابة القصصية عنده هي نتاج الحكاية. كان يقول إنهم منذ الصغر يروون لنا حكايات والحكاية تختلف عن القصة فـي الأسلوب وفـي البناء وفـي التوجه نحو المتلقي كما فـي «ألف ليلة وليلة». حكايات متواصلة من دون رابط منطقي ولا بنيوية درامية كما فـي النص الغربي والحكاية تروي نفسها لا أبطالها ولا حالاتها النفسية ولا سيكولوجية حبكتها الدرامية بل تروي حادثة كل عناصرها مشتركة فـي عملية تبليغ السامع أو القارئ ما وضع فـي مكان معين وزمان معين. المهم أن الحكاية تترك فسحة لدى المتلقي كي يتخيل الكثير من لم يقل بينما القصة بالمعنى الغربي تبنى على أسس مختلفة تتعامل مع السيكولوجية والإطار الروائي وتعمق إما الحدث أو الشخصيات بشكل محدد ودقيق. الحكاية لا تهتم لهذه الناحية، بل تأخذك إلى مناخ وشخصياتها مجرد أجزاء فـي عملية القص. طبعا هناك حكايات غربية مشابهة لهذا التوصيف لكنها إما للأطفال أو للمسرح.
ثمة صفحة فعلية، من الذاكرة والشعر تطوى مع رحيل جاد الحاج، الذي بقي واقفا بالفعل بين ضفتين: ضفتي الكتابة والمكان. فمن بين هذه الهجرات العديدة والمتنوعة، كان لبنان هو المكان الذي حلم فـيه كثيرا، وكتب عنه، حتى أنه عاد فـي أقاصيصه الأخيرة، ليكتب عن القرية والريف والضيعة، وكأنها حكايات أشبه بتلك التي كتبها رواد القصة اللبنانية فـي نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. وما انقياده إلى ذلك، إلا محاولة ليعيد صوغ الذاكرة، ذاكرة بلد، لم يتوقف عن إنتاج حروب متناسلة لا أحد يعرف متى تنتهي.
لو نظرنا إلى هذه الرحلة التي قطعها، لوجدنا كم كانت متشعبة فـي مساراتها، أولا من حيث مساراتها الجغرافـية، إذ أقام متنقلا بين العديد من العواصم فـي العالم، من دون أن ينسى لبنان، الذي كان يعود إليه بين الحين والآخر، كلما تسنى له ذلك. وثانيًا، من حيث النوع الأدبي، إذ «بدأ» شاعرا، قبل أن ينتقل إلى الرواية والقصة والحكاية، وثالثا من حيث اللغة، إذ كتب باللغتين العربية والإنجليزية. وإن دلّ هذا التنقل الدائم على شيء، فهو يدل على أن جاد الحاج لم يختر فـي الواقع أي وطن سوى الكتابة. كل هذه الأمكنة كانت حجة للكلمة، التي لم يتوقف عن التفكير فـيها، لغاية لحظاته الأخيرة. كانت الكتابة هي التي تعنيه فـي هذه الحياة بأسرها. يمكن القول إنه صرف عمرا كاملا، لا بحثا عن مكان يأوي إليه، بل عن كلمة تكون هي هذه الحياة التي بحث عنها، فـي العمق.
متشعب أيضا هذا الخيار، خيار جاد الحاج، فهو الذي عمل مع يوسف الخال، فـي فترة الإصدار الثانية لمجلة «شعر»، قبل أن يطوي رحاله، ويغادر من دون أن يلتفت إلى الوراء كثيرا. لكنها فترة، عمقت صداقته بالخال، كما عمقت صداقته الطويلة بـ«سركون بولص»، حيث عرفا حياة بوهيمية حقيقية، انتقلا فـيها من مكان إلى آخر، وخاصة الفترة اليونانية من حياتيهما التي كانت الأعمق، إذ أن المنشورات التي أسساها (منشورات «سارق النار») شهدت صدور المجموعة الشعرية الأولى لسركون بولص فـي ثمانينيات القرن الماضي. ففـي اليونان لم يفعلا شيئا سوى الكتابة، والتنقل من جزيرة إلى أخرى، بحثا عن «إيثاكا»، وكأنهما عوليس الزمن المعاصر.
هذه الفترة، التي جمعته مع الشاعر العراقي، كان يصفها الحاج بالمضحكة. إذ كان سركون يكتب وينسى نصوصه أحيانا تحت السرير فـي بيته وأحيانا فـي جيوبه الراحلة إلى المصبغة. فقام الحاج بجمع تلك النصوص واحدا واحدا خلال سنة ليقول له إنه ذاهب إلى بيروت ليطبع له ديوانا وسأله «ماذا تسميه»؟ فأجاب سركون «إلى أين»؟ ... كانت بيروت تحترق يومها، فأجابه قلت إلى بيروت. قال سمه «الوصول إلى مدينة أين»؟ لم يكن سركون مهتما بالنشر على الإطلاق. لكن حين رأى كتابه الأول محمولا ستة طوابق على كتف الحاج فـي علبة تحتوي 500 نسخة أصيب بنوع من الانهيار السعيد. جلس وفتح كلّ نسخة كأنها كتاب جديد. مذ ذاك بدأ يفكر بنشر مجموعاته لكن لم يكن الأمر سهلا حتى أواخر سنواته حين بدأ يشعر بالتعب.
ربما تكون صداقة سركون هي المحطة الثانية فـي حياة جاد الحاج. المحطة الأولى كانت صداقته مع يوسف الخال (مؤسس مجلة «شعر»)، إذ اعتبر الخال أن قصائد الحاج هي بمثابة قامة فريدة فـي الشعر العربي المعاصر. قد لا يكون يوسف الخال مخطئا فـي حكمه هذا، بيد أن الحاج لم يركن إلى ذلك، بل بقي يبحث عن لغته الخاصة، بقي يبحث عن تمايزه مع قصيدة الستينيات مثلما قدمتها مجلة شعر. ما ميّز قصيدته ميله الكبير وحبّه الكبير للغنائية فـي الشعر والتي مال إليها أكثر ممّا مال إلى التجارب التي تؤسس المغامرة على الارتباط بسيرورة ما. قد يكون هذا الموقف عائدا إلى نضج أو إلى شيخوخة (قبل الأوان). المهم أن ذائقته الأدبية تطورت من مدار التمرد المطلق إلى فسحة التأمل والتبحر فـي انتمائه إلى لغة وتراث وثقافة لها تاريخ طويل وعريق. بهذا المعنى، جاءت كتاباته اللاحقة وكأنها تحاول أن تصحح هذه الالتواءات فـي مساره الشعري عبر كتاباته القصصية.
غالبا ما اعتبر جاد الحاج أن الكتابة القصصية عنده هي نتاج الحكاية. كان يقول إنهم منذ الصغر يروون لنا حكايات والحكاية تختلف عن القصة فـي الأسلوب وفـي البناء وفـي التوجه نحو المتلقي كما فـي «ألف ليلة وليلة». حكايات متواصلة من دون رابط منطقي ولا بنيوية درامية كما فـي النص الغربي والحكاية تروي نفسها لا أبطالها ولا حالاتها النفسية ولا سيكولوجية حبكتها الدرامية بل تروي حادثة كل عناصرها مشتركة فـي عملية تبليغ السامع أو القارئ ما وضع فـي مكان معين وزمان معين. المهم أن الحكاية تترك فسحة لدى المتلقي كي يتخيل الكثير من لم يقل بينما القصة بالمعنى الغربي تبنى على أسس مختلفة تتعامل مع السيكولوجية والإطار الروائي وتعمق إما الحدث أو الشخصيات بشكل محدد ودقيق. الحكاية لا تهتم لهذه الناحية، بل تأخذك إلى مناخ وشخصياتها مجرد أجزاء فـي عملية القص. طبعا هناك حكايات غربية مشابهة لهذا التوصيف لكنها إما للأطفال أو للمسرح.
ثمة صفحة فعلية، من الذاكرة والشعر تطوى مع رحيل جاد الحاج، الذي بقي واقفا بالفعل بين ضفتين: ضفتي الكتابة والمكان. فمن بين هذه الهجرات العديدة والمتنوعة، كان لبنان هو المكان الذي حلم فـيه كثيرا، وكتب عنه، حتى أنه عاد فـي أقاصيصه الأخيرة، ليكتب عن القرية والريف والضيعة، وكأنها حكايات أشبه بتلك التي كتبها رواد القصة اللبنانية فـي نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. وما انقياده إلى ذلك، إلا محاولة ليعيد صوغ الذاكرة، ذاكرة بلد، لم يتوقف عن إنتاج حروب متناسلة لا أحد يعرف متى تنتهي.