جوزيه مانويل: عودة ترامب علاج بالصدمة لأزمات أوروبا الثلاثية
الثلاثاء / 8 / جمادى الآخرة / 1446 هـ - 20:27 - الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 20:27
لندن 'د. ب. أ': تواجه أوروبا حاليا ثلاث أزمات كبرى هي التدخل الروسي في أوكرانيا وصعود اليمين الشعبوي المتطرف وتزايد الصعوبات الاقتصادية. ثم يأتي إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لفترة رئاسية ثانية فيضيف أزمة رابعة متعددة الأبعاد للقارة. ورغم أن فوزه لم يكن مستبعدا فقد جاء بمثابة صدمة للكثيرين من قادة أوروبا، خاصة وهو يرفع أجندة تفاقم أزمات أوروبا الثلاث بتعهده بإنهاء الحرب في أوكرانيا 'خلال يوم واحد' دون الكشف عن كيفية تحقيق ذلك، ثم تهديده بفرض رسوم جمركية إضافية على كل الواردات الأمريكية وإشادته بالقادة الشعبويين في أوروبا.
وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني قال جوزيه مانويل باروسو الرئيس الأسبق للوزراء في البرتغال والمفوضية الأوروبية إن الفوز الكبير الذي حققه ترامب في الانتخابات الرئاسية وسيطرة حزبه الجمهوري على الأغلبية في الكونجرس الأمريكي سيسمح بتغييرات سياسية سريعة تتماشى مع نهجه القومي والعملي في السياسة والتجارة والعلاقات الدولية. لذلك فإن ولاية ترامب الثانية يمكن أن تفجر أزمة عميقة في العلاقات عبر المحيط الأطلسي.
ورغم ذلك يرى باروسو الذي تولى رئاسة المفوضية الأوروبية خلال الفترة من 2004 إلى 2014 أن التحديات التي سيفرضها ترامب على أوروبا، يمكن أن تكون فرصة لكي تتغلب القارة على أزماتها الثلاثية، كما تنبأ بذلك جان مونيه مهندس إنشاء الاتحاد الأوروبي عندما قال إن 'أوروبا ستتشكل في الأزمات وستكون هي نفسها مجموع الحلول اللازمة لهذه الأزمات'.
ويشير باروسو، المستشار البارز في تشاتام هاوس إلى أنه اثناء رئاسته للمفوضية الأوروبية تعرضت منطقة اليورو لأزمة مالية طاحنة على خلفية إفلاس اليونان عضو المنطقة، ودعا إلى اجتماع مع كبار الخبراء الاقتصاديين في البنوك الأوروبية الكبرى، لمناقشة الأزمة وأصر جميع الخبراء تقريبا على ضرورة خروج اليونان من منطقة اليورو، في حين كان نصفهم يعتقد أن العملة الأوروبية الموحدة لن تستمر لمدة عام. ولكن الآن وبعد مرور عقد من الزمن على الاجتماع خرجت اليونان من أزمتها الاقتصادية ومازالت عضوا في منطقة العملة الأوروبية الموحدة التي أصبحت ثاني أقوى عملة في العالم بعد الدولار. كما أثبت الاتحاد الأوروبي قوته ومرونته مرتين، الأولى في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد والثانية في مواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا.
لذلك يمكن أن تصبح رئاسة ترامب الجديدة محفزا لأوروبا لكي تواجه أصعب تحدياتها. وإذا تعامل الاتحاد الأوروبي مع تحديات رئاسة ترامب بشكل استراتيجي فستكون لديه الفرصة لتجاوز النواقص الجيوسياسية ويؤكد حضوره الدولي إلى جانب الولايات المتحدة والصين.
ويعتبر ملف الأمن هو الملف الأشد إلحاحا بالنسبة لأوروبا، أي الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وغيرها من الشركاء الأوروبيين الآخرين من غير الأعضاء في الاتحاد. ومن بين تعهدات ترامب إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا بسرعة وهو أمر غير ممكن من الناحية العملية. وأقصى ما يمكن أن يتحقق هو 'الفصل بين القوات' أو 'وقف إطلاق النار' وهو ما لن يكون مصالحة حقيقية بين البلدين المتحاربين.
ويبدو أن ترامب يعتقد أن التنازل عن الأراضي الأوكرانية يحقق السلام. ولكن حتى إذا قبلت أوكرانيا هذا الطرح، فلن يكون مرضيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهذه الحرب هي حرب وجود بالنسبة للزعيم الروسي، الذي لن يقبل بأقل من عودة أوكرانيا للدوران في الفلك الروسي وعدم التفكير في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (ناتو). لذلك فهو أبعد ما يكون عن الانخراط في أي عملية سلام بناءة، بحسب باروسو.
لذلك على أوروبا مواصلة دعم أوكرانيا، رغم أن انضمامها إلى حلف الناتو في الوقت الراهن يبدو مستحيلا كما أن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي مازال بعيدا. وإذا فشل ترامب في التوصل إلى اتفاق أو قرر وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، فلن يكون في مقدور بريطانيا وفرنسا وألمانيا تقديم ضمانات أمنية ذات مصداقية لكييف. ومع ذلك على الحلفاء الأوروبيين استمرار تعزيز دعمهم لأوكرانيا، لآن البديل هو قبول هزيمة كييف وهو ما لن يؤثر فقط على الاتحاد الأوروبي كله وإنما على الناتو والولايات المتحدة أيضا.
في الوقت نفسه فإن العالم كله من الصين إلى أفريقيا سيتابع ما إذا كانت أمريكا وأوروبا ستدافعان عن النظام الليبرالي العالمي، بالدفاع عن أوكرانيا في مواجهة التدخل الروسي. لذلك وكما فعل الاتحاد الأوروبي في مواجهة جائحة كورونا عندما رصد 800 مليار يورو لاحتواء الجائحة وتداعياتها الاقتصادية، عليه الآن حشد قدراته المالية والتكنولوجية لتعزيز قدراته الدفاعية في مواجهة التهديدات الروسية، واحتمالات تراجع الدعم الأمريكي للنظام الدفاعي في أوروبا.
أما الأزمة الثانية التي تواجه أوروبا فتتمثل في صعود الشعبوية القومية. وإذا كان انتصار ترامب الكبير يشجع صعود الشعبوية، فإن أوروبا تعلمت دروسا مهمة للتصدي لها. في الوقت الذي يشجع فيه انتصار ترامب هذه التوجهات.
والحقيقة أن نجاح ترامب المثير للإعجاب كان راجعا إلى حد كبير إلى قدرته على مخاطبة المخاوف الحقيقية للأمريكيين، وبخاصة القضايا المتعلقة بالقوة الشرائية للأسر المتوسطة والمنخفضة الدخل ومسائل الأمن العام، وارتفاع معدلات الجريمة والهجرة غير الشرعية، في حين أن الأحزاب الرئيسية في أوروبا تتجنب التطرق إلى مثل هذه القضايا لأسباب تتعلق بـ'الصوابية السياسية'، رغم أنها تعكس مخاوف عامة مشروعة لدى الناخبين لذلك على الأحزاب الرئيسية التي تمثل يسار الوسط أو يمين الوسط في أوروبا التعلم من الدرس الأمريكي والتعامل مع القضايا التي تمثل هواجس حقيقية لدى الناخبين، حتى لا تتركهم فريسة لأحزاب اقصى اليمين أو أقصى اليسار.
والحقيقة أن هناك مؤشرات على حدوث هذا التحول المرغوب في أوروبا. ففي العديد من العواصم الأوروبية بدأت أحزاب الوسط تركز على قضايا الأمن الداخلي بما في ذلك موضوعات مثل الهجرة. وإذا لم تتخلى هذه القوى الوسطية عن القيم الديمقراطية التي تقول إنها ملتزمة بها عند التعامل مع هذه القضايا، فستكون في وضع أفضل لإفشال الطموحات الانتخابية لليمين المتطرف.
كما يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي بجد ليكون 'كنيسة واسعة تستوعب مختلف وجهات النظر، على حد وصف باروسو. وفي حين يجب على الدول الأعضاء احترام سيادة القانون والقيم الأساسية للاتحاد، كما هو منصوص عليه في المادة الثانية من معاهدة لشبونة، فلا ينبغي النظر إلى هذا باعتباره تقييدا للأحزاب السياسية الموجودة خارج مركز الطيف السياسي.
وفي الوقت نفسه، تحاول الأحزاب المتطرفة أن تبدو أكثر ميلا إلى التيار الرئيسي. على سبيل المثال، حزب 'إخوان إيطاليا' الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، والذي كان يقدم ذات يوم باعتباره 'فاشيا جديدا'، يضع نفسه في موقع يمين الوسط، وهو ما حدث مع حزب سيريزا اليساري المتطرف في اليونان أثناء أزمة منطقة اليورو.
أخير يصل الحديث إلى الأزمة الثالثة التي تواجه الاتحاد الأوروبي وهي تراجعه الاقتصادي. فبدون مبالغة يمكن القول إن أوروبا تعاني من التدهور الاقتصادي منذ 10 سنوات على الأقل. كما فقد الاتحاد قدرته التنافسية في مواجهة الولايات المتحدة والصين والدول الأخرى. وعلى الصعيد الداخلي أدى إعطاء الدول الأعضاء الأوروبية الأولوية لمصالحها الفردية إلى منع المزيد من التكامل الاقتصادي الأوروبي. على سبيل المثال فإن عرقلة صفقات الاندماج المصرفي العابرة للحدود في الاتحاد الأوروبي تنطلق من حسابات وطنية داخلية وليس من سياسة حماية المنافسة للاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه ولآن الأزمة الاقتصادية في أوروبا تتحرك ببطء، لم يجد قادة أوروبا مبررا لاتخاذ القرارات الشجاعة المطلوبة لمواجهتها، وفضلوا استمرار التسويف في التعامل مع الملف الاقتصادي.
ولكن يمكن أن تكون ولاية ترامب الثانية جرس إنذار لإيقاظ قادة أوروبا خاصة إذا نفذ تهديداته بفرض رسوم على السلع الأوروبية. والاتحاد الأوروبي يعاني من نقاط ضعف واضحة في هذا السياق بدءا من تراجع أعداد السكان وحتى الاعتماد على استيراد مصادر الطاقة. لذلك سيعاني الاتحاد الأوروبي بشدة من أجل المحافظة على مكانته في ترتيب القوى العالمية والدفاع عن مصالحه الاستراتيجية إذا لم يتحلى بقدر كبير من التصميم والعزم في التعامل مع التحديات التي تمثلها ولاية ترامب الثانية.
وفيما يتعلق بالتهديد قريب الأجل المتمثل في الرسوم الجمركية، يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي لاستخدام موقعه القيادي في التواصل استراتيجيا مع الولايات المتحدة، وتأكيد أن الطرفين سيخسران بشكل كبير في حالة اندلاع صراع تجاري بينهما، من خلال التأكيد على الترابط الاقتصادي المتبادل. وفي الوقت نفسه، على الاتحاد أن يظل مستعدا للرد على الرسوم الأمريكية إذا لزم الأمر، مع ضمان أن يكون الرد مدروسا ومنسقا ومتوافقا مع مصالحه الاقتصادية على المدى البعيد.
وللتعامل مع مشكلتي ضعف النمو الاقتصادي والتنافسية، ستحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى الاقتراض المشترك لتوفير التمويل المطلوب للتعامل مع المشكلتين بتكلفة محتملة. وسيكون موقف ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا حاسما في هذا الأمر خاصة وأنها تعارض باستمرار فكرة الاقتراض المشترك، بسبب القلق من تساهل بعض الدول في الالتزام بقواعد الانضباط المالي. ولكن باروسو أستاذ القانون والسياسي البرتغالي يرى أن ألمانيا تدرك حقيقة أنها لن تكون قوية دون أن يكون الاتحاد الأوروبي قويا. لذلك على ألمانيا أن تكون مستعدة للقيام بما يلزم سواء على صعيد الريادة السياسية أو الالتزام المالي لقيادة عملية تعزيز النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي ككل.
أخيرا، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى التحرك الموحد على كافة الأصعدة من السوق الموحدة إلى توحيد أسواق المال، ومن الدفاع الأوروبي إلى السياسة الخارجية للحفاظ على قدرته التنافسية على الساحة العالمية. والآن هو الوقت المناسب للاتحاد لكي يغتنم الفرصة لتطوير سياسة اقتصادية خارجية موحدة يفتقر إليها بشدة.
وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني قال جوزيه مانويل باروسو الرئيس الأسبق للوزراء في البرتغال والمفوضية الأوروبية إن الفوز الكبير الذي حققه ترامب في الانتخابات الرئاسية وسيطرة حزبه الجمهوري على الأغلبية في الكونجرس الأمريكي سيسمح بتغييرات سياسية سريعة تتماشى مع نهجه القومي والعملي في السياسة والتجارة والعلاقات الدولية. لذلك فإن ولاية ترامب الثانية يمكن أن تفجر أزمة عميقة في العلاقات عبر المحيط الأطلسي.
ورغم ذلك يرى باروسو الذي تولى رئاسة المفوضية الأوروبية خلال الفترة من 2004 إلى 2014 أن التحديات التي سيفرضها ترامب على أوروبا، يمكن أن تكون فرصة لكي تتغلب القارة على أزماتها الثلاثية، كما تنبأ بذلك جان مونيه مهندس إنشاء الاتحاد الأوروبي عندما قال إن 'أوروبا ستتشكل في الأزمات وستكون هي نفسها مجموع الحلول اللازمة لهذه الأزمات'.
ويشير باروسو، المستشار البارز في تشاتام هاوس إلى أنه اثناء رئاسته للمفوضية الأوروبية تعرضت منطقة اليورو لأزمة مالية طاحنة على خلفية إفلاس اليونان عضو المنطقة، ودعا إلى اجتماع مع كبار الخبراء الاقتصاديين في البنوك الأوروبية الكبرى، لمناقشة الأزمة وأصر جميع الخبراء تقريبا على ضرورة خروج اليونان من منطقة اليورو، في حين كان نصفهم يعتقد أن العملة الأوروبية الموحدة لن تستمر لمدة عام. ولكن الآن وبعد مرور عقد من الزمن على الاجتماع خرجت اليونان من أزمتها الاقتصادية ومازالت عضوا في منطقة العملة الأوروبية الموحدة التي أصبحت ثاني أقوى عملة في العالم بعد الدولار. كما أثبت الاتحاد الأوروبي قوته ومرونته مرتين، الأولى في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد والثانية في مواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا.
لذلك يمكن أن تصبح رئاسة ترامب الجديدة محفزا لأوروبا لكي تواجه أصعب تحدياتها. وإذا تعامل الاتحاد الأوروبي مع تحديات رئاسة ترامب بشكل استراتيجي فستكون لديه الفرصة لتجاوز النواقص الجيوسياسية ويؤكد حضوره الدولي إلى جانب الولايات المتحدة والصين.
ويعتبر ملف الأمن هو الملف الأشد إلحاحا بالنسبة لأوروبا، أي الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وغيرها من الشركاء الأوروبيين الآخرين من غير الأعضاء في الاتحاد. ومن بين تعهدات ترامب إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا بسرعة وهو أمر غير ممكن من الناحية العملية. وأقصى ما يمكن أن يتحقق هو 'الفصل بين القوات' أو 'وقف إطلاق النار' وهو ما لن يكون مصالحة حقيقية بين البلدين المتحاربين.
ويبدو أن ترامب يعتقد أن التنازل عن الأراضي الأوكرانية يحقق السلام. ولكن حتى إذا قبلت أوكرانيا هذا الطرح، فلن يكون مرضيا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهذه الحرب هي حرب وجود بالنسبة للزعيم الروسي، الذي لن يقبل بأقل من عودة أوكرانيا للدوران في الفلك الروسي وعدم التفكير في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (ناتو). لذلك فهو أبعد ما يكون عن الانخراط في أي عملية سلام بناءة، بحسب باروسو.
لذلك على أوروبا مواصلة دعم أوكرانيا، رغم أن انضمامها إلى حلف الناتو في الوقت الراهن يبدو مستحيلا كما أن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي مازال بعيدا. وإذا فشل ترامب في التوصل إلى اتفاق أو قرر وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، فلن يكون في مقدور بريطانيا وفرنسا وألمانيا تقديم ضمانات أمنية ذات مصداقية لكييف. ومع ذلك على الحلفاء الأوروبيين استمرار تعزيز دعمهم لأوكرانيا، لآن البديل هو قبول هزيمة كييف وهو ما لن يؤثر فقط على الاتحاد الأوروبي كله وإنما على الناتو والولايات المتحدة أيضا.
في الوقت نفسه فإن العالم كله من الصين إلى أفريقيا سيتابع ما إذا كانت أمريكا وأوروبا ستدافعان عن النظام الليبرالي العالمي، بالدفاع عن أوكرانيا في مواجهة التدخل الروسي. لذلك وكما فعل الاتحاد الأوروبي في مواجهة جائحة كورونا عندما رصد 800 مليار يورو لاحتواء الجائحة وتداعياتها الاقتصادية، عليه الآن حشد قدراته المالية والتكنولوجية لتعزيز قدراته الدفاعية في مواجهة التهديدات الروسية، واحتمالات تراجع الدعم الأمريكي للنظام الدفاعي في أوروبا.
أما الأزمة الثانية التي تواجه أوروبا فتتمثل في صعود الشعبوية القومية. وإذا كان انتصار ترامب الكبير يشجع صعود الشعبوية، فإن أوروبا تعلمت دروسا مهمة للتصدي لها. في الوقت الذي يشجع فيه انتصار ترامب هذه التوجهات.
والحقيقة أن نجاح ترامب المثير للإعجاب كان راجعا إلى حد كبير إلى قدرته على مخاطبة المخاوف الحقيقية للأمريكيين، وبخاصة القضايا المتعلقة بالقوة الشرائية للأسر المتوسطة والمنخفضة الدخل ومسائل الأمن العام، وارتفاع معدلات الجريمة والهجرة غير الشرعية، في حين أن الأحزاب الرئيسية في أوروبا تتجنب التطرق إلى مثل هذه القضايا لأسباب تتعلق بـ'الصوابية السياسية'، رغم أنها تعكس مخاوف عامة مشروعة لدى الناخبين لذلك على الأحزاب الرئيسية التي تمثل يسار الوسط أو يمين الوسط في أوروبا التعلم من الدرس الأمريكي والتعامل مع القضايا التي تمثل هواجس حقيقية لدى الناخبين، حتى لا تتركهم فريسة لأحزاب اقصى اليمين أو أقصى اليسار.
والحقيقة أن هناك مؤشرات على حدوث هذا التحول المرغوب في أوروبا. ففي العديد من العواصم الأوروبية بدأت أحزاب الوسط تركز على قضايا الأمن الداخلي بما في ذلك موضوعات مثل الهجرة. وإذا لم تتخلى هذه القوى الوسطية عن القيم الديمقراطية التي تقول إنها ملتزمة بها عند التعامل مع هذه القضايا، فستكون في وضع أفضل لإفشال الطموحات الانتخابية لليمين المتطرف.
كما يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي بجد ليكون 'كنيسة واسعة تستوعب مختلف وجهات النظر، على حد وصف باروسو. وفي حين يجب على الدول الأعضاء احترام سيادة القانون والقيم الأساسية للاتحاد، كما هو منصوص عليه في المادة الثانية من معاهدة لشبونة، فلا ينبغي النظر إلى هذا باعتباره تقييدا للأحزاب السياسية الموجودة خارج مركز الطيف السياسي.
وفي الوقت نفسه، تحاول الأحزاب المتطرفة أن تبدو أكثر ميلا إلى التيار الرئيسي. على سبيل المثال، حزب 'إخوان إيطاليا' الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، والذي كان يقدم ذات يوم باعتباره 'فاشيا جديدا'، يضع نفسه في موقع يمين الوسط، وهو ما حدث مع حزب سيريزا اليساري المتطرف في اليونان أثناء أزمة منطقة اليورو.
أخير يصل الحديث إلى الأزمة الثالثة التي تواجه الاتحاد الأوروبي وهي تراجعه الاقتصادي. فبدون مبالغة يمكن القول إن أوروبا تعاني من التدهور الاقتصادي منذ 10 سنوات على الأقل. كما فقد الاتحاد قدرته التنافسية في مواجهة الولايات المتحدة والصين والدول الأخرى. وعلى الصعيد الداخلي أدى إعطاء الدول الأعضاء الأوروبية الأولوية لمصالحها الفردية إلى منع المزيد من التكامل الاقتصادي الأوروبي. على سبيل المثال فإن عرقلة صفقات الاندماج المصرفي العابرة للحدود في الاتحاد الأوروبي تنطلق من حسابات وطنية داخلية وليس من سياسة حماية المنافسة للاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه ولآن الأزمة الاقتصادية في أوروبا تتحرك ببطء، لم يجد قادة أوروبا مبررا لاتخاذ القرارات الشجاعة المطلوبة لمواجهتها، وفضلوا استمرار التسويف في التعامل مع الملف الاقتصادي.
ولكن يمكن أن تكون ولاية ترامب الثانية جرس إنذار لإيقاظ قادة أوروبا خاصة إذا نفذ تهديداته بفرض رسوم على السلع الأوروبية. والاتحاد الأوروبي يعاني من نقاط ضعف واضحة في هذا السياق بدءا من تراجع أعداد السكان وحتى الاعتماد على استيراد مصادر الطاقة. لذلك سيعاني الاتحاد الأوروبي بشدة من أجل المحافظة على مكانته في ترتيب القوى العالمية والدفاع عن مصالحه الاستراتيجية إذا لم يتحلى بقدر كبير من التصميم والعزم في التعامل مع التحديات التي تمثلها ولاية ترامب الثانية.
وفيما يتعلق بالتهديد قريب الأجل المتمثل في الرسوم الجمركية، يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي لاستخدام موقعه القيادي في التواصل استراتيجيا مع الولايات المتحدة، وتأكيد أن الطرفين سيخسران بشكل كبير في حالة اندلاع صراع تجاري بينهما، من خلال التأكيد على الترابط الاقتصادي المتبادل. وفي الوقت نفسه، على الاتحاد أن يظل مستعدا للرد على الرسوم الأمريكية إذا لزم الأمر، مع ضمان أن يكون الرد مدروسا ومنسقا ومتوافقا مع مصالحه الاقتصادية على المدى البعيد.
وللتعامل مع مشكلتي ضعف النمو الاقتصادي والتنافسية، ستحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى الاقتراض المشترك لتوفير التمويل المطلوب للتعامل مع المشكلتين بتكلفة محتملة. وسيكون موقف ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا حاسما في هذا الأمر خاصة وأنها تعارض باستمرار فكرة الاقتراض المشترك، بسبب القلق من تساهل بعض الدول في الالتزام بقواعد الانضباط المالي. ولكن باروسو أستاذ القانون والسياسي البرتغالي يرى أن ألمانيا تدرك حقيقة أنها لن تكون قوية دون أن يكون الاتحاد الأوروبي قويا. لذلك على ألمانيا أن تكون مستعدة للقيام بما يلزم سواء على صعيد الريادة السياسية أو الالتزام المالي لقيادة عملية تعزيز النمو الاقتصادي والقدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي ككل.
أخيرا، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى التحرك الموحد على كافة الأصعدة من السوق الموحدة إلى توحيد أسواق المال، ومن الدفاع الأوروبي إلى السياسة الخارجية للحفاظ على قدرته التنافسية على الساحة العالمية. والآن هو الوقت المناسب للاتحاد لكي يغتنم الفرصة لتطوير سياسة اقتصادية خارجية موحدة يفتقر إليها بشدة.