أفكار وآراء

الاحتراق الوظيفي والاستقالة الصامتة

بين التزام الموظف بعمله المطلوب منه في أقل مستوياته وسعيه لتحقيق أعلى إنتاجية ممكنة بون شاسع، وضمن هذه المساحة بين الحالتين ظهرت مصطلحات جديدة عرفها القرن الماضي لم تكن مُعرّفة من قبل رغم وجودها كمفاهيم وممارسات قبل ذلك بكثير، بل لن تكون مبالغة إن قيل بأنها مرتبطة بالمنظومة الوظيفية في كل مكان، لكن بنسب متفاوتة وفقا لعوامل الظاهرة وتداعياتها، وبين تلك المصطلحات يأتي الاحتراق الوظيفي والاستقالة الصامتة، وما ارتباطهما هنا إلا مؤشر مقصود لارتباطهما الفعلي سببيا أو دلاليا، فما الاحتراق الوظيفي؟ وما الاستقالة الصامتة؟

الاحتراق الوظيفي أو الإرهاق الوظيفي (بالإنجليزية Job Burnout) هو حالة نفسية تُصيب الموظفين في بيئة العمل، يفقدون على إثرها الرغبة والشغف في ممارسة العمل لتقل إنتاجيتهم في الأداء الوظيفي، وعادة تُصيب هذه الحالة الأفراد العاملين مدة طويلة في الوظيفة نفسها دون تغيير، ظهر هذا المصطلح على يد عالم النفس الأمريكي هربرت فرودنبرجر في سبعينيات القرن الماضي، إذ كان استخدامه في البداية لوصف آثار الإرهاق والإجهاد النفسي على العاملين في المهن المساعدة، مثل الأطباء والممرضين، للضغط النفسي الشديد الذي يمرون به، بعدها أصبح يُستخدم لوصف حالة الإرهاق والتشبع في المهن والوظائف الأٌخرى على اختلاف مجالاتها.

وهنالك مؤشرات وأعراض وضعها الباحثون ومنظرو الحالات الصحية لحالة «الاحتراق الوظيفي» من بينها: الإرهاق الشديد والتعب ونفاد الطاقة، السخرية من العمل وانخفاض الإنتاجية، صعوبة التركيز والبدء في العمل، عدم الرضا عن الذات وضعف الثقة بالنفس، نفاد الصبر والطاقة اللازمة لإكمال العمل، كثرة الخلافات مع الزملاء في العمل، الصمت وعدم المشاركة في الاجتماعات، وتجنب المناسبات الاجتماعية، ولهذه الأعراض آثارها المباشرة وغير المباشرة على بيئة العمل، التي نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- تفشي الحالة بين العاملين إن لم تكن على شكل احتراق وظيفي مباشر فعلى أشكال إحباط وسلبية ونفاد الرغبة في الإبداع والتحدي، عدم القدرة على إدارة الوقت وتراكم المهام على الأفراد وعلى المؤسسة ذاتها كنتيجة طبيعية، زيادة تكلفة التدريب والتعويض إذ تضطر المؤسسة إلى تعيينات جديدة تكلفها مبالغ مالية إضافة إلى تكلفة التأهيل والتدريب، معاناة الموظفين من الشعور بالذنب لعدم القدرة على الموازنة بين مسؤولياتهم الاجتماعية ومهامهم الوظيفية، إضافة إلى إحباطهم الناتج عن شعورهم بعدم التقدير وانعدام الحوافز مما تنتج عنه أمراض عصبية وأخرى عاطفية، وليست هذه نتيجة تقديرية ذاتية فقد أدرجت منظمة الصحة العالمية (الإجهاد النفسي الوظيفي) أو (الاحتراق النفسي المهني) Occupational Burnout ضمن قائمة التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض، حيث تم الاعتراف بهذه المتلازمة عالميا في عام 2022 «منظمة الصحة العالمية، 2022» ورغم أن هذا المفهوم عرض ونوقش مع سبعينيات القرن العشرين فإنه لاقى شيوعا وتداولا مع جائحة كورونا وبعدها، حيث تزايدت أعداد المتقدمين باستقالات وظيفية بشكل ملحوظ مع إدراك هؤلاء عدم جدوى الاستنزاف الوظيفي لجهد الأفراد دون حوافز وأشكال تقدير ذاتي مقابل التضحية بوقت العائلة والأهل وحتى الاستجمام النفسي المحفز على العطاء المجدد للطاقة، ثم صدمتهم في جهات عملهم التي لا تراعي تضحياتهم ولا تقدر كفاءاتهم.

وقد قاد الاحتراق الوظيفي مصطلحا ومفهوما إلى «Quiet quitting الاستقالة الصامتة» وهو مصطلح ظهر في أمريكا، لكن الظاهرة -التي تعني قيام الموظفين بالحد الأدنى من العمل- أصبحت عالمية، إذ يستقيل الموظف أو العامل ذهنيا فقط أو في صمت دون إعلان، ويتحول دوره إلى تقاضي راتبه بتنفيذ ما يطلب منه فقط، وقد ربطها الكثيرون بتداعيات جائحة كورونا كذلك، لكن الحقيقة أنها موجودة قبل الجائحة بكثير، وإنما أظهرتها الجائحة كنتيجة طبيعية إما للاحتراق الوظيفي أو للترف الاجتماعي الذي يريد أصحابه من الوظيفة مجرد الراتب الدوري، مع التمتع بكافة جوانب الحياة بعيدا عن تحديات بيئة العمل من تنافس وطموح وسعي لإنتاجية أعلى، وليس من الضرورة أن تكون الإقالة الصامتة ناتجة عن سوء نية أو تكاسل الموظف، بل تأتي نتيجة طبيعية للعمل المضني لسنوات دون شعور بالتقدير أو المكافأة، أو استشعار مهام تكليف دون مستوى كفاءة ومهارة الموظف، مع غياب التفاعل الشخصي المفضي إلى تعرّض الموظفين للتهميش والإهمال وعدم التقدير نتيجة لإدارة سيئة منشغلة بأمور تتعلق بمنافعها مع تجاهل مهام إدارة الفريق لتنتج عن ذلك حالة من الإحباط العام وعدم إنتاجية مع الانفصال عن الانتماء للمكان، وقد يتوهم بعض المديرين أن الإقالة الصامتة خيار أفضل من إقالة الموظف التي تكلف جهة العمل تعويضات ومكافأة نهاية الخدمة، غافلين عن تكلفة الاستقالة الصامتة التي قد تكلفهم أضعاف ذلك على المدى الطويل كسمعة المؤسسة، وقدرتها على استقطاب وجذب الكفاءات والمواهب.

ختاما؛ يمكن تجنب الظاهرتين عبر التعود على الموازنة بين الحياة الشخصية والحياة الوظيفية، إضافة إلى اعتماد الاجتماعات الدورية التي تتيح الحوار بين أطراف العمل بشفافية ووضوح فإما الوصول إلى حلول توافقية ترضي الجميع أو السعي للتدوير أو الانتقال إلى وظائف أكثر مرونة وأكثر قدرة على تحقيق الرضا الوظيفي مع معدل أفضل للإنتاجية، كما ينبغي السعي لتحديد الأدوار والصلاحيات بوضوح مع ضرورة الاستثمار في تدريب وتحفيز الموظفين بالممكن من التعزيز ماديا ومعنويا حرصا على تنمية وتطوير مهارات المؤسسة عبر تطوير مهارات منتسبيها ورعاية لإنسانيتهم وفضاء طموحهم المرتبط بالعمل.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية