الفرص البديلة.. استحقاقات الوفرة والندرة
الاحد / 28 / جمادى الأولى / 1446 هـ - 21:55 - الاحد 1 ديسمبر 2024 21:55
يبدو أن المعادلة ليست سهلة على الإطلاق؛ فما بين البحث عن فرص بديلة لما نحن عليه -وهو الكفة الأولى من المعادلة- وبين ما هو متاح ومعروض على طاولة الحياة أمام كل فرد فينا -وهو الكفة الثانية للمعادلة- حيث تبدأ عندها مرحلة حرجة، فتدخلنا في متون صراعات فكرية قبل كل شيء، ثم مادية؛ حيث محصلة أو نتيجة المعادلة، مع أن التفكير لوحده له استحقاقات ليست يسيرة، وفي مقدمتها الهدف الذي يسعى إليه كل منا لتحقيقه، وهل هذا الهدف أو ذاك يدخل في مفهوم آخر وهو الحتمي، أو يتصادم معها، لأن التفكير في حد ذاته مرتبط بحياة الإنسان ارتباطا غير منكور، وقد يكون حتميا بالضرورة، ولأنه كذلك فهو الذي يقلّب الأنفس يمنة ويسرة، صعودا وانخفاضا، فيذهب بهذه الأنفس إلى أن كل شيء يمكن تحقيقه، فيتموضع بها إلى حيث الوفرة، وقد يوقعها مأزق الندرة؛ حيث استحالة تحقيق أي شيء في الحياة، وأن هذه الحياة عبارة عن لوحة سوداء لا تستحق منا، أي بذل، إلا إذا ارتبط هذا البذل بمقابل مادي، نلمسه بين أيدينا، وتقر به أنفسنا؛ حيث المفهوم السائد عند الماديين، على وجه الخصوص والقائم على مفهوم السوق (الربح/ الخسارة) وعلى الرغم من هذا الالتحام بين الأنفس وتفكيرها، فإن هناك من يحاول أن يهرب من هذا التفكير، على أنه مضيعة للوقت، وأن على الإنسان -وفق هذا الفهم- أن يعيش ما هو ملموس؛ وهذه إشكالية موضوعية في علاقتنا مع مختلف الظروف التي نمر بها، يقول إنشتاين: «2% من البشر يفكرون، و3% من البشر يظنون أنهم يفكرون، و95% من البشر يفضلون الموت على أن يفكروا» ويقول: «حياة هادئة ومتواضعة تجلب قدرا من السعادة، أكبر من السعي للنجاح المصحوب بالتعب المستمر» -وفق المصدر- ونسبة (95%) هي النسبة الحاكمة في نتائج تصرفاتنا في الحياة، ولذلك لن يستطيع الإنسان أن يتحرر من أخطائه، ولن يستطيع أن يدفع بحياته نحو ما يتوقع منه، وما تسلسل الأخطاء في حياتنا الخاصة والعامة، إلا انعكاس لهذه النسبة المرتقعة لحقيقة نظرتنا إلى الحياة، ومما يؤسف له أن هذه النسبة تعلي من سهمها الثقافة الاجتماعية، فتكرسها على أنها حقيقة، وحتى لا تتداخل المفاهيم على بعضها، فهذه النسبة؛ يقينا؛ أنها لا تتعلق بإيماننا -كمسلمين- بالاستسلام للقضاء والقدر الذي يتسرب مفهومه المغلوط إلى ذاكرتنا؛ إطلاقا؛ فالإسلام دين الجهد، والاجتهاد، والتفكير الواعي الرفيع، وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تشجع على التفكير في الكون، وفي السعي إلى ضرورة تغيير وجه الحياة إلى الأفضل، ولا تستسلم لواقع يميت النفوس، ويهلك العقول، فالوعي الإسلامي وعي يحفز الإنسان، ويسمو بتفكيره، وله في ذلك الأجر الكثير «من بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له».
ومن يوجد الفرص البديلة؛ إلا التفكير؟ ومن ينقلنا من حالة الندرة إلى حالة الوفرة إلا التفكير؟ ومن يغير مسارات حياتنا اليومية نحو الأفضل؛ وأحيانا؛ نحو الأسوأ عندما تخوننا الحكمة؟ ومع أن التفكير سلاح ذو حدين، إلا أن حده الآمن أكثر اتساعا؛ حيث عوائد الوفرة، ولذلك فهناك من يرى أن الوفرة واقع غير متحقق للجميع، حيث يحتاج إلى مكابدة، وجهد مضنٍ، كما يحتاج إلى تنمية فكرة ما، لتنقل صاحبها من حالة الندرة إلى حالة الوفرة، ولذلك فهناك من يبدأ بفكرة تنميته مشروعه الصغير، ويصبر عليه سنوات كثيرة يقلم من خلال هذه السنوات مجموعة النتوءات التي تخرج عن مسارها الصحيح، حتى يصل بهذا الفكرة «المشروع» إلى مستويات متقدمة من العوائد، وهذا النوع من الناس هو ما يعنيهم إنشتاين بـ (2%) من المفكرين، وهؤلاء هم الملتحمون بمفاهيم الوفرة، لأن العبرة؛ في خاتمة الأمر؛ بالنتائج المتحققة، أما المتململون، والقلقون، والمهرولون هم من فئة (95%) وفق تقييم إنشتاين، وهم المتجمعون في خاتمة المطاف في ميدان الندرة، حسب مفهوم «ثقافة التبرير» وهذه الصورة مرتبطة كثيرا بمحددين أساسيين: فيزيائي، وفلسفي، ولا غنى للإنسان عن كليهما لكي تصل المعادلة إلى توازن الكفتين، هذا على أقل تقدير؛ حيث «لا ضَرر ولا ضِرار» بينما الطموح يذهب إلى الأبعد من ذلك، وهو شيوع الوفرة، حتى يتحقق الوجه المشرق للحياة، ويبتهج الناس، وتقرأ على وجوههم الصور الاحتفالية، والتي عادة ما تكون زاهية، ومشرقة، فالندرة كئيبة، ومزعجة في كل اتجاهات الحياة، ما عدا في حالات الخصومة والعداء، حيث يجب أن تسود الندرة، ويعلو صوتها، ويشتد عودها وفق مفهوم «تجفيف منابع الخلاف» أما فيما ينفع الناس، ويعلي من قدر مكانتهم، وجهدهم، ونشاطهم، فلا يجب أن تحل الندرة دارهم، وإلا أماتوا أنفسهم قبل أن تبدأ خطوتها الأولى.
ومسألة الفرصة البديلة، هي مسألة في غاية التعقيد، وتحتاج إلى كثير من الجهد المعنوي «التفكير العميق» فأنت حتى تنتقل إلى فرص متاحة أمامك إلى فرص أخرى لا تدري عنها شيئا؛ هو نوع من المغامرة؛ غير مأمونة العواقب، ومع ذلك فالذين يغامرون، وهم قلة (2%)، هم الأكثر حظا «وفرة» من الذين يتقوقعون، وهم كثرة (95%) على واقعهم «ندرة» وهؤلاء الأخيرون لا يكتفون بتقوقعهم هذا فقط، بل يأتوك يشتكون، ويلعنون الأزمان، ويصدرون أخطاءهم إلى أعناق الآخرين من حولهم، ويمارسون عليهم قناعاتهم، وأن الدهر والظروف تقف ضدهم، وأنهم غير محظوظين، فيضعون أمامهم العراقيل حتى لا يتحرروا من عقدة الندرة، خاصة إذا وجدوا أنفسهم أن لا مصلحة لهم فيما يذهب إليه الآخرون من حولهم من أفكار إبداعية من شأنها أن تعلي من نصيب الوفرة، فيصبحوا أكثر الناس مكاسب، ومكانة، وتميزا في الحياة.
أتصور أنه من المهم طرح الأسئلة التالية في هذه المناقشة؛ ومن هذه الأسئلة: هل متاح لأي منا أن يبحث عن فرص بديلة في أي وقت يشاء؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ وبهذه البساطة أو التلقائية: هل تساعدنا ثقافتنا؛ قناعتنا؛ أعمارنا تجربة حياتنا لأن نبحث عن فرص بديلة؟ هل يمكن أن ننتقل من مجالنا إلى مجالات أخرى، للبحث عن فرص بديلة؟ ثم ما الفرص البديلة في كل محطة من هذه المحطات؟ مع أنني أتصور أن تغيير المجال ليس بالأمر اليسير لأن يتيح لنا فرصة البحث عن فرص بديلة، لأن هذا يتطلب تغييرا بنيويا شاملا قد يتصادم مع الثقافة المتأصلة، أو المتوارثة، وهذا ما لا يمكن تحققه، خاصة بعد مضي عمر مقدر من تجربة الحياة في المجال ذاته، ولذلك يتعثر كثير من الناس عندما يصلون إلى عمر معيّن في أي مشروع قد يتجهون إليه، ولعل تجربة الناس المتقاعدين أقرب الأمثلة إلى تأكيد هذه القناعة، وفي هذه الصورة الأخيرة إن توفرت المادة؛ وهي هنا الوفرة «تحويشة» التقاعد، فلن تتوفر الخبرة؛ وهي هنا الندرة، وبالتالي فالذين يجازفون سرعان ما سقطوا، وخسروا هذه «التحويشة» وهذا لا يتنافى مع ما يطرحه إنشتاين في نسبة الـ (2%).
هناك آخرون غادروا أوطانهم الأصل؛ ولو لفترة مؤقتة؛ للتحرر من عقدة الندرة، ووجدوا في الأوطان البديلة الوفرة في كثير من مجالات الحياة، وعلى ما يبدو أن العلاقة بين الوفرة والندرة؛ علاقة ضدية أو عكسية، يقوم أحدهم على حساب الآخر، ومتى طغا أحدهما على الآخر، كان له فضل السبق للبقاء، والنمو، فالنفوس؛ كعادتها؛ تتموضع على الحالة التي تكون عليها، وحتى تنتقل من حالة إلى أخرى تحتاج إلى محفز كبير، وإذا كنا نؤمن أن الندرة حالة من الضمور في كل شيء، وأن الوفرة هي الانتعاش، فإن علاج هذه الضمور الذي تتموضع عليه الندرة، هو بضرورة وجود هذا الانتعاش الذي تحفزه الوفرة، مع التأكيد أن الندرة والوفرة هما محصلة جهد الإنسان وتفكيره، وليسا حالة حتمية مفروضة على الإنسان، ومعنى هذا أنه كلما وجد الإنسان في نفسه القدرة على تغيير حالته من الأسوأ إلى الأفضل، فلن يكون معذورا لكي يتقوقع على واقعه المتأصل من خلال قناعاته التي يؤمن بها.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
ومن يوجد الفرص البديلة؛ إلا التفكير؟ ومن ينقلنا من حالة الندرة إلى حالة الوفرة إلا التفكير؟ ومن يغير مسارات حياتنا اليومية نحو الأفضل؛ وأحيانا؛ نحو الأسوأ عندما تخوننا الحكمة؟ ومع أن التفكير سلاح ذو حدين، إلا أن حده الآمن أكثر اتساعا؛ حيث عوائد الوفرة، ولذلك فهناك من يرى أن الوفرة واقع غير متحقق للجميع، حيث يحتاج إلى مكابدة، وجهد مضنٍ، كما يحتاج إلى تنمية فكرة ما، لتنقل صاحبها من حالة الندرة إلى حالة الوفرة، ولذلك فهناك من يبدأ بفكرة تنميته مشروعه الصغير، ويصبر عليه سنوات كثيرة يقلم من خلال هذه السنوات مجموعة النتوءات التي تخرج عن مسارها الصحيح، حتى يصل بهذا الفكرة «المشروع» إلى مستويات متقدمة من العوائد، وهذا النوع من الناس هو ما يعنيهم إنشتاين بـ (2%) من المفكرين، وهؤلاء هم الملتحمون بمفاهيم الوفرة، لأن العبرة؛ في خاتمة الأمر؛ بالنتائج المتحققة، أما المتململون، والقلقون، والمهرولون هم من فئة (95%) وفق تقييم إنشتاين، وهم المتجمعون في خاتمة المطاف في ميدان الندرة، حسب مفهوم «ثقافة التبرير» وهذه الصورة مرتبطة كثيرا بمحددين أساسيين: فيزيائي، وفلسفي، ولا غنى للإنسان عن كليهما لكي تصل المعادلة إلى توازن الكفتين، هذا على أقل تقدير؛ حيث «لا ضَرر ولا ضِرار» بينما الطموح يذهب إلى الأبعد من ذلك، وهو شيوع الوفرة، حتى يتحقق الوجه المشرق للحياة، ويبتهج الناس، وتقرأ على وجوههم الصور الاحتفالية، والتي عادة ما تكون زاهية، ومشرقة، فالندرة كئيبة، ومزعجة في كل اتجاهات الحياة، ما عدا في حالات الخصومة والعداء، حيث يجب أن تسود الندرة، ويعلو صوتها، ويشتد عودها وفق مفهوم «تجفيف منابع الخلاف» أما فيما ينفع الناس، ويعلي من قدر مكانتهم، وجهدهم، ونشاطهم، فلا يجب أن تحل الندرة دارهم، وإلا أماتوا أنفسهم قبل أن تبدأ خطوتها الأولى.
ومسألة الفرصة البديلة، هي مسألة في غاية التعقيد، وتحتاج إلى كثير من الجهد المعنوي «التفكير العميق» فأنت حتى تنتقل إلى فرص متاحة أمامك إلى فرص أخرى لا تدري عنها شيئا؛ هو نوع من المغامرة؛ غير مأمونة العواقب، ومع ذلك فالذين يغامرون، وهم قلة (2%)، هم الأكثر حظا «وفرة» من الذين يتقوقعون، وهم كثرة (95%) على واقعهم «ندرة» وهؤلاء الأخيرون لا يكتفون بتقوقعهم هذا فقط، بل يأتوك يشتكون، ويلعنون الأزمان، ويصدرون أخطاءهم إلى أعناق الآخرين من حولهم، ويمارسون عليهم قناعاتهم، وأن الدهر والظروف تقف ضدهم، وأنهم غير محظوظين، فيضعون أمامهم العراقيل حتى لا يتحرروا من عقدة الندرة، خاصة إذا وجدوا أنفسهم أن لا مصلحة لهم فيما يذهب إليه الآخرون من حولهم من أفكار إبداعية من شأنها أن تعلي من نصيب الوفرة، فيصبحوا أكثر الناس مكاسب، ومكانة، وتميزا في الحياة.
أتصور أنه من المهم طرح الأسئلة التالية في هذه المناقشة؛ ومن هذه الأسئلة: هل متاح لأي منا أن يبحث عن فرص بديلة في أي وقت يشاء؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ وبهذه البساطة أو التلقائية: هل تساعدنا ثقافتنا؛ قناعتنا؛ أعمارنا تجربة حياتنا لأن نبحث عن فرص بديلة؟ هل يمكن أن ننتقل من مجالنا إلى مجالات أخرى، للبحث عن فرص بديلة؟ ثم ما الفرص البديلة في كل محطة من هذه المحطات؟ مع أنني أتصور أن تغيير المجال ليس بالأمر اليسير لأن يتيح لنا فرصة البحث عن فرص بديلة، لأن هذا يتطلب تغييرا بنيويا شاملا قد يتصادم مع الثقافة المتأصلة، أو المتوارثة، وهذا ما لا يمكن تحققه، خاصة بعد مضي عمر مقدر من تجربة الحياة في المجال ذاته، ولذلك يتعثر كثير من الناس عندما يصلون إلى عمر معيّن في أي مشروع قد يتجهون إليه، ولعل تجربة الناس المتقاعدين أقرب الأمثلة إلى تأكيد هذه القناعة، وفي هذه الصورة الأخيرة إن توفرت المادة؛ وهي هنا الوفرة «تحويشة» التقاعد، فلن تتوفر الخبرة؛ وهي هنا الندرة، وبالتالي فالذين يجازفون سرعان ما سقطوا، وخسروا هذه «التحويشة» وهذا لا يتنافى مع ما يطرحه إنشتاين في نسبة الـ (2%).
هناك آخرون غادروا أوطانهم الأصل؛ ولو لفترة مؤقتة؛ للتحرر من عقدة الندرة، ووجدوا في الأوطان البديلة الوفرة في كثير من مجالات الحياة، وعلى ما يبدو أن العلاقة بين الوفرة والندرة؛ علاقة ضدية أو عكسية، يقوم أحدهم على حساب الآخر، ومتى طغا أحدهما على الآخر، كان له فضل السبق للبقاء، والنمو، فالنفوس؛ كعادتها؛ تتموضع على الحالة التي تكون عليها، وحتى تنتقل من حالة إلى أخرى تحتاج إلى محفز كبير، وإذا كنا نؤمن أن الندرة حالة من الضمور في كل شيء، وأن الوفرة هي الانتعاش، فإن علاج هذه الضمور الذي تتموضع عليه الندرة، هو بضرورة وجود هذا الانتعاش الذي تحفزه الوفرة، مع التأكيد أن الندرة والوفرة هما محصلة جهد الإنسان وتفكيره، وليسا حالة حتمية مفروضة على الإنسان، ومعنى هذا أنه كلما وجد الإنسان في نفسه القدرة على تغيير حالته من الأسوأ إلى الأفضل، فلن يكون معذورا لكي يتقوقع على واقعه المتأصل من خلال قناعاته التي يؤمن بها.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني