تمثيل الروح
الثلاثاء / 23 / جمادى الأولى / 1446 هـ - 20:31 - الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 20:31
«الشعر هو تمثيل للروح، للعالم الداخلي فـي مجمله.
... من الوعي الكامل، يمكننا أن نقول إنه واع بكل شيء ولا شيء؛ إنه نشيد».
يمثل نوفاليس صورة مقدسة فـي الأدب الألماني، وأيقونة النقاء بحدّ ذاتها، وتظل زهرته الزرقاء التي كان يبحث عنها فـي كل مكان فـي العالم نموذجًا أوروبيًا للمدينة الفاضلة الرائعة، ولكن خلف هذا الضوء المُسقط تكمن أسرار نوفاليس، من هو هذا المتأمل بالأحلام السحرية الذي وضع على الدرب كل حجاج المشرق، كل المتعطشين إلى الحب الأبدي؟ لقد كان مثل وحيد قرن مسحور دخل إلى الشعر الأوروبي، كان «المختار»، الذي يعرف النور المقدس ويسير نحوه.
توفـي فـي التاسعة والعشرين من عمره، وهو ينضح بنعمة سريالية، ويمكن مقارنته بـ «موتسارت الأدب»، لكن من دون الفرح، لم تنتج الرومانسية كاتبًا قط، وأعمالا على هذا القدر من النقاء، والبساطة والسلاسة على ما يبدو، والغموض أيضًا.
كانت أعماله وغرامياته متشابكة، لكنها لم تكتمل، لم يبق منها سوى «مريديه فـي سايس»، وروايته الزائفة «هنري دوفتردينجن»، وكلاهما ظلا غير مكتملين أيضا؛ هناك أيضا «تراتيل الليل»، و«أغاني روحية»، و«شذرات»، يوميات مختصرة وبعض الرسائل.
لكن أعماله، وعلاقاته الغرامية، وحضوره وموته كان لها كل التأثير العميق فـي عملية سحرية على الرومانسية، حيث يبقى الندى نفسه ويستمر، وهذا التنفس من مكان آخر، وهذا النداء إلى الأعلى.
مارس حضورًا لطيفًا وناعمًا مثل ظلّ الأشجار الطيب التي ترتجف من أجلنا، هذه الريح التي تحركها لا بدّ أن تكون نسمة نقاوة نوفاليس، كان فـي حياته كما فـي كتاباته ذاك الطامح نحو القمة، والسامي، والمندفع الطاهر الممتد نحو اللانهائي.
ينبثق من أشعاره تناغم هش ومثالي، وبساطته كزهور منتصبة، إنه أورفـيوس صاحب ابتسامة ناعمة، لذا نجده مرّ بسرعة كبيرة.
اسمه الحقيقي جورج فريدريش فـيليب فون هاردنبيرج. وُلِد فـي 2 مايو 1772 فـي قلعة قديمة جدًا تملكها عائلته فـي أوبرفايدرستيت، وهو مبنى مليء بالشائعات منذ القرن الثالث عشر، وبرك سوداء، وأشجار فـي مهب الريح، طفل سقيم ضمن عائلة مكونة من 9 إخوة وأخوات، بعد العديد من الأمراض بدا وكأنه ولد من جديد فـي سن التاسعة تقريبًا، فـي سن الحادية عشرة كان يعرف اليونانية واللاتينية، كان منغمسًا طوال الوقت فـي قراءة القصص والقصائد، كان يعيش أحلام طفولته، قضى سنوات تعليمه أولًا فـي يينا، ثم فـي لايبزيج، لكنه لن يتعلم إلا فـي جامعة فـيتنبرج، وبعد ذلك تُختصر حياته فـي قصتي حب، الأولى علاقته مع صوفـي فون كوهن - «روح حياتي ومفتاح نفسي» - إذ التقيا فـي عام 1974 وقد توفـيت فـي عام 1797، وقد استمر فـي رؤيتها دائمًا فـي ذهنه، من ثم بدأت سنوات جولي - جولي فون شاربنتييه - فـي ديسمبر 1798.
طيلة حياته القصية، رافقه موت أصدقائه وإخوته.
على الرغم من شفافـيته التي كانت تزداد باطراد، إلا أنه بدأ يتجه نحو الإرهاق، لم ترضه لقاءاته مع جوته وشليجل وشهرته المتزايدة، مات «بطريقة لطيفة وهادئة» لدرجة أن أصدقاءه اعتقدوا أنهم كانوا يرون قديسًا يغادر، كان ذلك يوم 25 مارس 1801 فـي فايسنفـيلس، فـي فترة بعد الظهر، طلب كتبًا، ومن أخيه أن يعزف على البيانو، ونام نومًا هنيئًا إلى الأبد.
«أريد أن أموت فرحا مثل شاعر شاب»، كتب ذات مرة.
يومها بدأت أسطورته المضيئة، وما عززنه كتاباته عن أورفـيوس الرقيق، «الشاعر الأنقى على الإطلاق، الشاعر المطلق»، سوف يعيش فـي العالم الغربي كأجمل الأطياف، أحد أعماله مؤثر بشكل خاص، لأنه يمثل رحلة الكائن، هذه هي يومياته الحميمة التي بدأ بكتابتها فـي اليوم الحادي والثلاثين (أي فـي 18 أبريل 1797) حتى اليوم الـ110 (أي لغاية 6 يوليو) من وفاة صوفـي، فـي هذا الصعود نحو التجاوز نحمل واحدًا من أسمى أعمال الرومانسية:
«بينما ينحسر الألم الحسيّ ويبهت، وينمو الحداد الروحي ويزداد الألم الروحي فـي داخلي، يرتفع نوع من اليأس السلمي إلى أعلى من أي وقت مضى، يصبح العالم غريبًا عني دائمًا، الأشياء من حولي، أصبحت غير مبالية أكثر من أي وقت مضى، وتدريجيًا أصبح كل شيء الآن أكثر وضوحًا فـي داخلي وفـي ما يحيط بي... (22 مايو)».
«ومع ذلك، يظل قلبي الأكثر سرية مخلصًا للّيل وللحب الخلاق».
نوفاليس هو ابن الليل، ذو الحب العالي جدًا، والحنين إلى الأوقات الماضية عندما رأينا الآلهة عن كثب.
كل ما يظهره لنا نوفاليس، لا يأتي إلا عبر ضوئه الخاص به، يكفـي أن ننطق اسمه لنحيط أنفسنا بالعالم كما ظهر له، الشبيه بواد يرتاح فـيه فـي هدوء المساء، والذي ينكشف للمسافر بينما ينزل من الجبل فـي آخر أشعة الشمس: فـي كلّ مكان حوله، دفء الهواء الساكن، فـي السماء الساكنة التي لا تزال زرقاء، كآبة القمر الفضية، تغلفنا الجبال لكن بألفة غير ظالمة، لا تخطر ببالنا أبدًا فكرة أن الطرق على الجانب الآخر تؤدي إلى مدن ومناطق مضطربة، كل شيء يسهم فـي تكوين هذا الانطباع: طريقة تفكيره، ومصيره، والظروف التي عاش فـيها، لقد كان بعيدًا جدًا عن ضجيج الأخبار، بعيدًا عن اتصال الحياة الضاغط، بالكاد دخل عمر النضج، حتى عاش الأيام السعيدة، حيث كانت الرؤية الرومانسية للكون فـي أوجها، حيث حلم فريدريك وويليام شليجل وشيلينج بحلم شعر وفلسفة جديدين، كان يخاطب ما يحدث له، وينقل، بطريقة ما، بصمة جودة روحه وعمقها، وقبل أن يبلغ سنة الثلاثين... يرحل، ويموت، وفـي ذكراه يطفو بصيص من الشعر يمتدّ إلى كلّ كلمات من يقرأه، حتى بعد هذه العصور.
من أين تأتي جاذبية الشعر المعاصر بالنسبة إلى نوفاليس؟ لا شك من هذا النقاء الأصيل الذي يسعى إليه عصرنا بالحنين والتيه، وبهذه الطريقة أيضًا يتجاوز نوفاليس الواقع، ليرى المستقبل من خلال دعوته المتقدة للأبدية التي يشعها:
«عندما الأرقام والوجوه لن تكون موجودة
مفتاح جميع المخلوقات،
عند كل من يقبل ويغني
سيُعرف أكثر من العلماء العميقين،
عندما يستعيد العالم حريته
ويعود للعالم أن يبذل نفسه،
عندما تكون فـي وضوح نقي وهادئ بعد ذلك
سوف يتزوج الظل والنور مرة أخرى،
وفـي القصص والأشعار
سوف نتعلم تاريخ نشأة الكون،
هذا هو المكان الذي سيهرب فـيه الناس من كلمة سرية التناقض الكامل للواقع».
نوفاليس هو الصورة السلسة المثير للإعجاب، يبهرنا كتمثال مثالي، يمنحنا طعم الخلود الذي نطمح إليه.
«إن الطريق الغامض يتجه نحو الداخل»؛ هذا ما فعله نوفاليس لقد قادنا إلى داخلنا.
كاتب وصحفـي من لبنان
... من الوعي الكامل، يمكننا أن نقول إنه واع بكل شيء ولا شيء؛ إنه نشيد».
يمثل نوفاليس صورة مقدسة فـي الأدب الألماني، وأيقونة النقاء بحدّ ذاتها، وتظل زهرته الزرقاء التي كان يبحث عنها فـي كل مكان فـي العالم نموذجًا أوروبيًا للمدينة الفاضلة الرائعة، ولكن خلف هذا الضوء المُسقط تكمن أسرار نوفاليس، من هو هذا المتأمل بالأحلام السحرية الذي وضع على الدرب كل حجاج المشرق، كل المتعطشين إلى الحب الأبدي؟ لقد كان مثل وحيد قرن مسحور دخل إلى الشعر الأوروبي، كان «المختار»، الذي يعرف النور المقدس ويسير نحوه.
توفـي فـي التاسعة والعشرين من عمره، وهو ينضح بنعمة سريالية، ويمكن مقارنته بـ «موتسارت الأدب»، لكن من دون الفرح، لم تنتج الرومانسية كاتبًا قط، وأعمالا على هذا القدر من النقاء، والبساطة والسلاسة على ما يبدو، والغموض أيضًا.
كانت أعماله وغرامياته متشابكة، لكنها لم تكتمل، لم يبق منها سوى «مريديه فـي سايس»، وروايته الزائفة «هنري دوفتردينجن»، وكلاهما ظلا غير مكتملين أيضا؛ هناك أيضا «تراتيل الليل»، و«أغاني روحية»، و«شذرات»، يوميات مختصرة وبعض الرسائل.
لكن أعماله، وعلاقاته الغرامية، وحضوره وموته كان لها كل التأثير العميق فـي عملية سحرية على الرومانسية، حيث يبقى الندى نفسه ويستمر، وهذا التنفس من مكان آخر، وهذا النداء إلى الأعلى.
مارس حضورًا لطيفًا وناعمًا مثل ظلّ الأشجار الطيب التي ترتجف من أجلنا، هذه الريح التي تحركها لا بدّ أن تكون نسمة نقاوة نوفاليس، كان فـي حياته كما فـي كتاباته ذاك الطامح نحو القمة، والسامي، والمندفع الطاهر الممتد نحو اللانهائي.
ينبثق من أشعاره تناغم هش ومثالي، وبساطته كزهور منتصبة، إنه أورفـيوس صاحب ابتسامة ناعمة، لذا نجده مرّ بسرعة كبيرة.
اسمه الحقيقي جورج فريدريش فـيليب فون هاردنبيرج. وُلِد فـي 2 مايو 1772 فـي قلعة قديمة جدًا تملكها عائلته فـي أوبرفايدرستيت، وهو مبنى مليء بالشائعات منذ القرن الثالث عشر، وبرك سوداء، وأشجار فـي مهب الريح، طفل سقيم ضمن عائلة مكونة من 9 إخوة وأخوات، بعد العديد من الأمراض بدا وكأنه ولد من جديد فـي سن التاسعة تقريبًا، فـي سن الحادية عشرة كان يعرف اليونانية واللاتينية، كان منغمسًا طوال الوقت فـي قراءة القصص والقصائد، كان يعيش أحلام طفولته، قضى سنوات تعليمه أولًا فـي يينا، ثم فـي لايبزيج، لكنه لن يتعلم إلا فـي جامعة فـيتنبرج، وبعد ذلك تُختصر حياته فـي قصتي حب، الأولى علاقته مع صوفـي فون كوهن - «روح حياتي ومفتاح نفسي» - إذ التقيا فـي عام 1974 وقد توفـيت فـي عام 1797، وقد استمر فـي رؤيتها دائمًا فـي ذهنه، من ثم بدأت سنوات جولي - جولي فون شاربنتييه - فـي ديسمبر 1798.
طيلة حياته القصية، رافقه موت أصدقائه وإخوته.
على الرغم من شفافـيته التي كانت تزداد باطراد، إلا أنه بدأ يتجه نحو الإرهاق، لم ترضه لقاءاته مع جوته وشليجل وشهرته المتزايدة، مات «بطريقة لطيفة وهادئة» لدرجة أن أصدقاءه اعتقدوا أنهم كانوا يرون قديسًا يغادر، كان ذلك يوم 25 مارس 1801 فـي فايسنفـيلس، فـي فترة بعد الظهر، طلب كتبًا، ومن أخيه أن يعزف على البيانو، ونام نومًا هنيئًا إلى الأبد.
«أريد أن أموت فرحا مثل شاعر شاب»، كتب ذات مرة.
يومها بدأت أسطورته المضيئة، وما عززنه كتاباته عن أورفـيوس الرقيق، «الشاعر الأنقى على الإطلاق، الشاعر المطلق»، سوف يعيش فـي العالم الغربي كأجمل الأطياف، أحد أعماله مؤثر بشكل خاص، لأنه يمثل رحلة الكائن، هذه هي يومياته الحميمة التي بدأ بكتابتها فـي اليوم الحادي والثلاثين (أي فـي 18 أبريل 1797) حتى اليوم الـ110 (أي لغاية 6 يوليو) من وفاة صوفـي، فـي هذا الصعود نحو التجاوز نحمل واحدًا من أسمى أعمال الرومانسية:
«بينما ينحسر الألم الحسيّ ويبهت، وينمو الحداد الروحي ويزداد الألم الروحي فـي داخلي، يرتفع نوع من اليأس السلمي إلى أعلى من أي وقت مضى، يصبح العالم غريبًا عني دائمًا، الأشياء من حولي، أصبحت غير مبالية أكثر من أي وقت مضى، وتدريجيًا أصبح كل شيء الآن أكثر وضوحًا فـي داخلي وفـي ما يحيط بي... (22 مايو)».
«ومع ذلك، يظل قلبي الأكثر سرية مخلصًا للّيل وللحب الخلاق».
نوفاليس هو ابن الليل، ذو الحب العالي جدًا، والحنين إلى الأوقات الماضية عندما رأينا الآلهة عن كثب.
كل ما يظهره لنا نوفاليس، لا يأتي إلا عبر ضوئه الخاص به، يكفـي أن ننطق اسمه لنحيط أنفسنا بالعالم كما ظهر له، الشبيه بواد يرتاح فـيه فـي هدوء المساء، والذي ينكشف للمسافر بينما ينزل من الجبل فـي آخر أشعة الشمس: فـي كلّ مكان حوله، دفء الهواء الساكن، فـي السماء الساكنة التي لا تزال زرقاء، كآبة القمر الفضية، تغلفنا الجبال لكن بألفة غير ظالمة، لا تخطر ببالنا أبدًا فكرة أن الطرق على الجانب الآخر تؤدي إلى مدن ومناطق مضطربة، كل شيء يسهم فـي تكوين هذا الانطباع: طريقة تفكيره، ومصيره، والظروف التي عاش فـيها، لقد كان بعيدًا جدًا عن ضجيج الأخبار، بعيدًا عن اتصال الحياة الضاغط، بالكاد دخل عمر النضج، حتى عاش الأيام السعيدة، حيث كانت الرؤية الرومانسية للكون فـي أوجها، حيث حلم فريدريك وويليام شليجل وشيلينج بحلم شعر وفلسفة جديدين، كان يخاطب ما يحدث له، وينقل، بطريقة ما، بصمة جودة روحه وعمقها، وقبل أن يبلغ سنة الثلاثين... يرحل، ويموت، وفـي ذكراه يطفو بصيص من الشعر يمتدّ إلى كلّ كلمات من يقرأه، حتى بعد هذه العصور.
من أين تأتي جاذبية الشعر المعاصر بالنسبة إلى نوفاليس؟ لا شك من هذا النقاء الأصيل الذي يسعى إليه عصرنا بالحنين والتيه، وبهذه الطريقة أيضًا يتجاوز نوفاليس الواقع، ليرى المستقبل من خلال دعوته المتقدة للأبدية التي يشعها:
«عندما الأرقام والوجوه لن تكون موجودة
مفتاح جميع المخلوقات،
عند كل من يقبل ويغني
سيُعرف أكثر من العلماء العميقين،
عندما يستعيد العالم حريته
ويعود للعالم أن يبذل نفسه،
عندما تكون فـي وضوح نقي وهادئ بعد ذلك
سوف يتزوج الظل والنور مرة أخرى،
وفـي القصص والأشعار
سوف نتعلم تاريخ نشأة الكون،
هذا هو المكان الذي سيهرب فـيه الناس من كلمة سرية التناقض الكامل للواقع».
نوفاليس هو الصورة السلسة المثير للإعجاب، يبهرنا كتمثال مثالي، يمنحنا طعم الخلود الذي نطمح إليه.
«إن الطريق الغامض يتجه نحو الداخل»؛ هذا ما فعله نوفاليس لقد قادنا إلى داخلنا.
كاتب وصحفـي من لبنان