وجوه بيروت في الأدب العربي
الأربعاء / 24 / جمادى الأولى / 1446 هـ - 10:10 - الأربعاء 27 نوفمبر 2024 10:10
- نجوى بركات: واجهتُها الجذَّابة لا يمكن أن تعمينا عن ديكوراتها الخلفية القبيحة
- عباس بيضون: إنها التفاعل والصراعات والأفكار والحلم اللبناني وخموده معاً
- عادل ضرغام: تتأرجح طوال الوقت بين السكون الشديد والغضب اللافح
- محمد سليم شوشة: لدى جبور الدويهي هي الوجه الحضاري الأكثر تأثيراً
- خلفان بن حمد الزيدي: تجوَّلت فيها وأنا أتساءل كيف لشرارة الحرب أن تأتي على مدينة زاهية بالحياة مثلها؟!
- هلال البادي: بيروت في حقيقتها ليست إلا ظل القضية الفلسطينية القابض على الجمرة
تظلُّ بيروت مدينة عصيَّة على التصنيف. هي حلم العشَّاق، وقبلة المشتاقين، وأمل الطامحين للنعيم، هي مكان المنبوذين والهاربين، هي أرض المطرودين والبؤساء، هي توق الناس للحرية والعالم المتحضر، هي مدينة البر المغلق والبحر المفتوح، هي مدينة الحرب والسلام، هي أرض الجمال واليباب، وهي أيضًا جرح العرب النازف على الدوام.
لو كنتَ ملمًّا بالأدب العربي يمكن أن تلمس ببساطة تنوَّعها وتعددها في الروايات والقصائد وأدب الرحلات، ويمكن أن تعرف أنها أرض لا تخص سكَّانها فقط، فهي حلم الجميع الوردي الذي قد ينقلب إلى كابوس في لحظة. في هذا التحقيق يرسم كتَّاب لبنانيون وعرب صورة رائعة لبيروت وكيف صنعت أسطورتها في الأدب العربي؟
الكاتبة اللبنانية نجوى بركات لديها رواية مهمة بعنوان «مستر نون»، تدور كلها في بيروت تقريبًا، أو في ما يُسمَّى بيروت الكبرى التي توسّعت لتشمل الضواحي القريبة، ومن بينها منطقتا برج حمُّود والنبعة وجوارهما حيث كان يجتمع، قبل انفجار المرفأ، كلُّ خلق الله إذا جاز التعبير، من جنسيات متنوّعة ولغات. تقول: «تلك المنطقة واكبت تغيَّرات البلد منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي منذ لجوء الأرمن إلى لبنان هربًا بعد المذابح التركية عام 1905. فبعد مدن الصفيح والخيام، بدأ هؤلاء بالمعمار في تلك المنطقة التي كانت تعجُّ بالبساتين والمستنقعات، وافتتحوا مصالح يبرعون فيها مثل صناعة الأحذية والحقائب والملابس والذهب، إلخ. بعد ذلك، جاء نزوح الفلسطينيين بعد نكبة 1948، أضيف إليه نزول أهل القرى إلى العاصمة سعيًا وراء الرزق، ومن ثم وراء العلم».
وتضيف: «هكذا، كلَّما حدثت مأساة في الجوار، تلوَّنت هذه المنطقة بما يجري وتأثَّرت، فتراها وقد استقبلت كل مقهوري المنطقة الهاربين من حروب قاسية متعددة، من عراقيين وسوريين وأكراد وشركس وسواهم. ولا أنسى بالطبع العمالة الأجنبية الرخيصة التي صبَّت في لبنان، من سريلانكا والحبشة والنيبال وبلدان إفريقيا، بأعداد هائلة، كانت تنضم إلى «ملعوني الأرض» ومنبوذيها، وبهذا كانت بيروت، في زاوية من زواياها، شبيهة بكل عواصم العالم التي تختلف واجهتُها الجذَّابة، عن ديكوراتها الخلفية التي لا يراها الناس».
في «مستر نون» صورت نجوى بركات ما جرى لمدينة بيروت من تشويه جمالي في العمران، وهي تراه ليس مجرد قبحٍ فحسب، وإنما هو عنف هندسي وبؤس ثقافي وفكري انعكس على المعمار العشوائي، وتظهر في خلفيته الحرب التي دامت خمسة عشر عامًا، وكل ما تلاها من حروب أهلية وغير أهلية ازدهرت لاحقًا في المنطقة وبدا وكأنّ حرب لبنان (1975) قد افتتحتها. وتستدرك: «ثم إنني لا أظنُّ أن حربًا لم تنتهِ أو تنطفئ فعلًا، ولم تُفضِ إلى سلام حقيقيٍّ أو مصالحة فعلية بين الأطراف المتقاتلة، كما هي الحال عندنا، ستكون قابلة للمحو أو النسيان، لذا ستراها لا تزال تحضر في كثير من الأعمال الأدبية اللبنانية، ولو بعد مرور 50 عامًا عليها، بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة وأنها أرَّخت لما تلا من انهيارات عرفها البلد تباعًا، بدءًا بثورة 17 أكتوبر التي قُمِعت وأُجهِضت، مرورًا بأكبر ثالث انفجار غير نووي عرفه العالم مع انفجار مرفأ بيروت الذي دمَّر أكثر من نصف العاصمة، وانهيار القطاع المصرفي بأكمله وسرقة ودائع الناس، وانتهاءً بحرب إسناد غزَّة التي تحوَّلت للأسف حربًا إسرائيلية همجية على ما تبقَّى من لبنان».
بالنسبة للأعمال التي تناولت بيروت وأثَّرت فيها، ليس لتمايزها فحسب، وإنما لأنها من ضمن الأعمال القليلة التي أسَّست للأدب اللبناني وسبقت كل ما تلا من أعمال تناولت الحرب لاحقًا، تذكر نجوى بركات «الرغيف» (1939) و«طواحين بيروت» (1972) لتوفيق يوسف عوَّاد، اللتين تناولتا لحظتين مفصليتين من تاريخ البلد، ألا وهما المجاعة في الحرب العالمية الأولى وحرب 1967.
- مدينة المدن
الكاتب اللبناني عباس بيضون يرى أن مدينته ككاتب ومادة أعماله هي «صور» لا «بيروت» ومع هذا تظل بيروت مدينة المدن. يقول: «كتبت روايتي الأولى «تحليل دم» في وقت متأخر، بعد أن مضى عليَّ وقتٌ في كتابة الشعر، وكنتُ عند نفسي وعند الآخرين شاعرًا. هذه الرواية إن كان لي أن أسمِّي مكانها فسيكون (صور) أولًا. (صور) كانت في الشعر أيضًا أول أعمالي الشعرية المنشورة. الأمانة كانت موضوعًا عضويًا في أشعاري. كتبتُ مطوَّلاتٍ شعريةً عن مدن مرَّت في حياتي وكأنها سير أخرى لي. ليست (صور) وحدها بل باريس «كفار باريس» وبرلين «فصل في برلين»، وأيضًا بيروت التي خصصتُها بمطوَّلة من أهم قصائدي: دقيقة تأخير عن الواقع».
ويضيف: «المطولة كما يوحي اسمها هي بيروت العصور، وبيروت التحفة، والمشروع المتوسطي، والوعد التاريخي الذي تقزَّم في حرب أهلية موحلة وظلامية. هذه المطولة الملحمية لم تلقَ ما تستحق من قراءة فقد كان وعيُها الزمني فوق طاقة القرَّاء أو خارج مرادهم. هذه القصيدة التي لم تكن تمامًا في لحظتها لا تزال تنتظر تلك اللحظة، بل لا تزال شاخصة إلى وعي شعري يوازيها».
ويستدرك: «مع ذلك فإن بيروت التي لم تكن مكانًا أثيرًا في حياتي هي كل لبنان وكل مكان فيه ينتمي إليها. هي المشروع اللبناني حين كان لبنان مشروعًا. إنها التفاعل والصراعات والأفكار والأحلام والصور والمكان والزمان اللبنانيان. بل هي الحلم اللبناني وخموده معًا. كل مدينة في لبنان هي على نحو ما بيروت ثانية أو بيروت صغرى. الآن مع ضمور الريف ليس هناك سوى بيروت. إنها قبلة كل لبناني وكل مكان في لبنان».
- عصيّة على التصنيف
الناقد المصري عادل ضرغام يؤكد أن بيروت مدينة مراوغة، ولها أكثر من وجه، ولا يمكن تأطيرها أو سجنها في شكل نهائي وحيد، فهي عصية على التصنيف، وتتعدد صورها بعدد الكتَّاب والروائيين الذين حاولوا تقديم تمثيلٍ أو حضورٍ لها في الخيال العربي، وكل واحد منهم يقدم ما يراه، لكنها تظلُّ نموذجًا ومثالًا حتى في لحظات شعورها بالتعب والإرهاق. تعيش معاناة إنسانية كل فترة زمنية، ربما تكون خسرت معركتها مع تاريخها وماضيها، فهي لم تقم بقراءة تاريخها قراءة نقدية فاحصة، ولم تتخلص من أوشابِه القديمة.
يرى ضرغام أن المدن روح ورائحة، وأفراد ونماذج سامقة تصل في بعض الأحيان إلى أن تصبح أيقونات مضيئة، وبيروت في الذهنية العربية المكان الأكثر تقبلًا وانفتاحًا على الجديد، بها توقٌ دائم للحرية، حركة تحولاتها - ربما لاقترابها من البحر - تتوزَّع إلى السكون الشديد والغضب اللافح، تمثل نموذجًا خاصًا للحالة الطائفية التي تشكِّل همًَّا رازحًا بمرور العصور والأزمنة. صورة بيروت في الرواية العربية، لا تخرج عن المختزن في العقلية العربية لها، من كونها نموذجًا ومثالًا، لكن الرواية لا تهتم بها إلا حين ينكسر هذا المثال، ويصبح هناك خوف على تفتته وضياعه تحت سطوة واقع لا يرحم هشاشتها التي أحببنا وجودها، وكثيرًا ما كانت مأوى الخاسرين والمطرودين، وربما أيضا وجهة الطامعين في تجربة أو مغامرة، أو في حياة استرخاء ودعة. ويقول: «أعتقد أن رواية إسماعيل فهد إسماعيل «الشيَّاح» من الروايات الأولى، فهي – وإن كان بها جانب ذاتي سيري، لأنه كتبها لحظة احتجازه بها في الحرب الأهلية - رواية أقرب إلى منظور الفنّان أو المؤرخ المراقب الذي يعاين الأحداث يوما بيوم، متأملًا خسائرها وحماقات أصحابها ومشعليها، وهذا كله لا يقدمه بشكل منقطع عن الماضي، بل يقدمها - وكأنه يشير إلى إشكاليات الهوية والاحتراب منذ مدى بعيد، لم يتم الاقتراب من معالجته - في سياق يكشف عن الثبات والتكرار الأبدي، فهي- أي بيروت- جميلة، لكنها تجيد كل فترة تحطيم نفسها، وتُسقِط الكثير من التراب على لمعانها. وفي سبيل ذلك يعرِّي إسماعيل فهد إسماعيل رجال الحكم والنخبة، فهم لا ينظرون إلى بلدهم إلا من منظور مصالحهم الضيقة، ورؤى انتماءاتهم».
مع الروائيين المصريين، بحسب ضرغام، هناك حضور لافت من إسهامات ثلاثة، منها العمل المباشر والمخصص بأكمله لبيروت، ومنها ما يأتي عرضًا، لكنه أكثر إحكامًا وفنية. الأول يتجلَّى في روايتي «بيروت البكاء ليلًا» لشوقي عبدالحكيم، و»بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم، والأخير في رواية «الحب في المنفى». جاءت رواية شوقي عبدالحكيم محكومة باستجلاء وتصوير أثر الغزو الإسرائيلي للبنان، ولم تكن دماء الحرب الأهلية قد جفَّت. في هذه الرواية يظهر الفارق واضحًا بين بيروت النموذج والمثال حين تكون هادئة وادعة، تمنح فرصًا للمتعة وبريق الرحلة، وبيروت الوجه الآخر الذي يلازمها كل فترة وكأنه قدر، أو كابوس، فهناك الدمار والجثث في الطرقات، ومعاناة الأطفال، وأصوات القصف. أما رواية «بيروت بيروت» فهي محاولة جادة لفهم الحالة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، ودور التكوين الطائفي المزمن، بالإضافة إلى فاعلية أطراف عديدة داخلية وخارجية، تقوم بتأجيج الصراع. يقدم صنع الله إبراهيم كل ذلك محتميًا بالوثائق وآليات فنية جديدة، والوثيقة نوع من الحجة الدامغة لإدانة أطراف عديدة. فبيروت في كثير من النص الروائي المكان الذي يهدمه أبناؤه مشدودين إلى انتماءات خارجية وحزبية. الرواية ملهمة في تشخيص الحالة أو الوجود المغاير لبيروت.
مع بهاء طاهر في «الحب في المنفى»، أو رضوى عاشور في «الطنطورية»، كما يذهب ضرغام، يجد القارئ نفسه أمام صورة لم يتم التوجُّه إليها بشكل مباشر، وإنما في سياق الارتباط بالقضية الفلسطينية، ففي جزء يكاد يكون الأكثر تأثيرًا وصدقًا في الرواية العربية عن صبرا وشاتيلا، من خلال اتصال بين السارد والبطل واليساري المصري (إبراهيم) الذي يعاين الأزمة أو الكارثة، يستطيع القارئ أن يتفهَّم طبيعة المأساة، وصورة الدمار، والعمل المتوحش غير الإنساني. فارتباط بيروت وفلسطين ارتباطًا غريبًا حتى في ذاكرة كتَّاب الرواية العربية، فوجود أحدهما يستدعي الآخر.
ويواصل ضرغام: «بيروت في جزء من الذهنية العربية- وربما تكون هذه الصورة أو التصور أقرب للمتخيل- مرفأ المحبين، فهي مكان مناسب للقاء عاشقيْن، يبتعدان عن صخب العالم. في رواية محمد حسن علوان «صوفيا» جزء من هذا التصور، فالبطل بعد وفاة والديه في حادث، وفشله في زواجه، يجد نفسه بحاجة إلى مغامرة، ومن خلال تعرُّفه على الفتاة اللبنانية (صوفيا) التي مات والدها في الاجتياح الإسرائيلي، يسافر إلى بيروت مملوءًا بالمتخيل الجاهز. لكن التصور النمطي للرحلة والمغامرة يكشف بالتدريج عن نهاية أليمة، بمرض الفاتنة بالسرطان».
وينهي كلامه قائلًا: «صورة بيروت لا تنفصل عن صورة أبنائها وقاماتها التي جاوز أصحابها الحدود الضيقة، وأصبحوا رموزًا، مثل ميّ زيادة، أو فيروز، أو مفكريها الكبار. وقد حظيت مي زيادة بمقاربات روائية، مثل «ليالي إيزيس كوبيا» للجزائري واسيني الأعرج، و«أنا مي زيادة» للمصري علي حسن، فهذه النماذج تعطي - بالرغم من النمط التكراري للموت والدمار - لهذه المدينة قيمتها وسمتها التاريخي، وربما تعطيها صرختها الملتاعة التي تجعلها قادرة على الصعود من الرماد في كل مرة مثل طائر الفينيق».
- قلب اليسار التقدُّمي
وبدوره يؤكد الناقد المصري الدكتور محمد سليم شوشة أن بيروت تأخذ مساحة واسعة لدى الروائيين العرب، وربما يكون ذلك حاصلًا، في تقديره، بسبب فاعلية بيروت ومركزيتها في كثير من الأحداث السياسية الكبرى، ومن هذه الزاوية تحديدًا نجدها قد أخذت مساحة لدى عدد من الروائيين العرب على رأسهم صنع الله إبراهيم في روايته «بيروت بيروت»، ففيها يبدو كما لو أنه يتغنَّى بها فرحًا أو أسىً، فهي قلب اليسار التقدمي المثقف الذي تحوَّل مع الوقت إلى يسار رجعي، فكأن بيروت في هذا التصور هي المرآة التي نرى فيها وجه العرب من حيث الوعي السياسي، وهي نفسها الصورة التي نجدها لدى صنع الله إبراهيم أيضًا في روايته المهمة «وردة» عن التجربة اليسارية نفسها، أما لدى جبور الدويهي فهي الوجه الحضاري الأكثر تأثيرًا عبر الطباعة، فقد كتب رواية «طُبِع في بيروت»، وهي من أجمل الروايات العربية التي تؤرِّخ للثقافة العربية والطباعة بشكل إنساني عميق، وكثير من روايات جبور الدويهي هي بالأساس تأريخ لبيروت وما مرَّ عليها في مراحل كثيرة، منها محطات تاريخية عميقة يستعيدها بنوع من التكثيف ويغوص في الشوارع والأزقة والميادين وينقل الوجه الحقيقي والروح العميقة للمدينة بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات.
وقال: «نجد أن الدويهي ركَّز على أمرين، بيروت تحت الحرب وقابل بينها تاريخيًا وبين طرابلس وكتب عددًا من الروايات المتفردة التي مثَّلت بيروت خلفيتها المكانية الثرية، وقد كان بشكل عام من الأدباء الذين لديهم إحساس خاص بالمكان. ونجد كذلك فترة الحرب حاضرة بقوة لدى لنا عبد الرحمن في روايتها «بودا بار»، كما نجدها عند نجوى بركات في روايتها «مستر نون». أما في أعمال أدبية أخرى فنجد أن الصورة التاريخية والحضارية والثقافية للمدينة هي التي تحضر بقوة على نحو ما هو حاصل في بعض روايات شهلا العجيلي في كتابتها عن بيروت التي تصبح مركزًا لعائلة مستنيرة مثلًا أو لنموذج من الشخصيات، أو منفذًا للمتعة والمرح والرحلات، أو المكان الثاني الذي تعيش فيه العائلة، هناك كذلك روايات قدمت نماذج إنسانية لها جذور بيروتية مثل رواية ميرال الطحاوي «أيام الشمس المشرقة» أو بعض روايات سامح الجباس».
- مقاومة الموت
الكاتب العماني خلفان بن حمد الزيدي قدَّم صورة رائعة لبيروت في كتابه الرحلي «خطاوي الطير». أسأله ما الفارق بينها وبين المدن الأخرى التي رآها في أسفاره؟ فيقول: «ليس من السهل الإجابة عن سؤال كهذا، وأن بدت الصورة ماثلة أمامنا، فبيروت اليوم، قد لا تختلف كثيرًا عن بيروت الأمس. هي ذاتها تقاوم الموت، من أجل أن تستمر الحياة فيها أجمل، وأبهى».
لم تكن بيروت في مخيلة خلفان الزيدي، وفي رحلاته المتعاقبة، سوى معنى واحد، يتجسَّد في لفظ «الحياة».. الحياة بكل ما تحمله من دلالات الكلمة والمعنى. يعلق: «نعشق بيروت لأننا نحب الحياة، ولأنها دون كل المدن والعواصم، تئن وتتألم، لكنها في ذات الوقت تقاوم وتعيش الفرح بكل تفاصيله، ترقص وتغني، وتضحك».
ويحكي: «عندما ذهبت إلى بيروت أول مرة، وأذكر كان ذلك في شهر أكتوبر من العام 1998، كانت المدينة ترسم على طرقاتها الأمل بالغد الأجمل، وكانت تضجُّ بالألوان البهيجة، وذلك بعدما اتفق الفرقاء على ترشيح قائد الجيش آنذاك العماد أميل لحود، ليكون رئيسًا للجمهورية اللبنانية خلفًا للرئيس المنتهية ولايته حينذاك إلياس الهرواوي.. كانت شوارع بيروت تتزاحم باللافتات وصور الرئيس القادم، وبينها كانت صور فيروز والشحرورة وراغب علامة ونجوى كرم وغيرهم تنبئ عن مهرجانات غنائية وسهرات موسيقية وليالي فنية. ولأن بيروت تعني بالنسبة لي «الحياة»، والمعاني الجميلة المنبثقة منها، فقد كانت زيارتي الأولى إليها، مستهل العلاقة الوثيقة والصداقة المتنية التي ربطتني بالأستاذ الأديب أحمد الفلاحي، والأصدقاء محمد اليحيائي وطالب المعمري ومحسن الكندي، فقد ذرعنا المدينة حينئذ، وتجوَّلنا في طرقاتها، ومقاهيها، وفي البال تساؤل، كيف لشرارة الحرب أن تأتي على مدينة زاهية بالحياة والفرح كبيروت؟!».
وأضاف: «توالت زيارتي إلى بيروت، وفي كل مرة كان ثمة حدث يهز المدينة، ويعيد شبح الاقتتال الطائفي والحرب الأهلية إلى الواجهة، كان هناك من يشعل فتيل الحرب، ومن لا يريد لهذه المدينة أن تعيش في سلام، لكن بيروت كانت تخمد النيران التي تنشب، وتعلن عن مهرجاناتها الفنية، ومعارض الكتب، والمنتديات الثقافية التي تستقطب السياح والزوار من شتَّى بقاع الأرض، وكأن الحرب والعدوان أمر طارئ سيزول اليوم أو غدًا، فالمدينة التي استطاعت أن تمارس حياتها، دون أن «تنتخب» رئيسًا في بعبدا، قادرة على أن تعيش الحياة كما هي، تحت أزيز الرصاص وانفجارات المدافع والصواريخ والطائرات المسيَّرة».
وتابع: «أتحدث عن بيروت «خيمتُنا الوحيدة»، ولا يمكن أن أقرأها أو أكتبها، دون أن يكون نزار قباني حاضرًا بكلماته، هذه التي أسمعها بصوت ماجدة الرومي، وهي تناديها «قومي من تحت الردم.. كزهرة لوز في نيسان»، وقد قامت بيروت، وما سقطت، كانت تداوي جراحها، وتنهض بعنفوانها، هي ذي بيروت اليوم، كما هي بيروت الأمس، وكما ذكرها درويش: شاهدة على قلبي.. وأرحلُ عن شوارعها وعنِّي.. عالقًا بقصيدةٍ لا تنتهي».
- بيروت وأخواتها
ومن حيث انتهى خلفان يبدأ الكاتب العماني هلال البادي. يقول: «في قصيدته (مديح الظل العالي) تبدو بيروت القصة والغُصَّة والاختبار بالنسبة إلى محمود درويش، ذلك أن الخروج من بيروت يعني الخروج من حيفا ويافا والكرمل، الخروج من الجسد الفلسطيني المثقل بالألم والمعاناة، الخروج من حالة التركيز إلى حالة الانشطار والتشظي. بيروت في حقيقتها ليست إلا ظل القضية القابض على الجمرة، فإن تهاوت تهاوى الجسد، ضاعت الفكرة والقضية».
ويسأل: «هل يمكن ألا نكتب عن بيروت؟ عن النكبة من قبلها؟ عن الجراح الغائرة في الجسد العربي؟»، ويجيب على نفسه: «أعتقد أن هذه الأسئلة هي إجابة واضحة بأنه لا مفر لنا نحن الكتَّاب من بيروت وأخواتها، لا مفرَّ من استعراض الجراح المثخنة، ومحاولة مداواتها عبر الكتابة، وإن كانت الكتابة ليست بالضرورة التشافي أو خياطة الجرح، فالجرح يظل منكشفًا زمنًا غير قصير، يظل ينزُّ دمًا وقيحًا وألمًا دون أن يشفى».
هلال البادي كتب قصة بعد عدوان الصهاينة على بيروت في ٢٠٠٦ ونشرها في مجموعته القصصية «تنهشه الفئران»، فماذا يمكن أن يكتب اليوم عن بيروت؟ يقول: «سأكتب عن جرح ساخر لم يجد إلا الاتساع عامًا بعد عام، حتى تحوَّل إلى فوهة سوداء تبتلع ما تبقى من رجولتنا الغارقة في الخزي والعار».