أفكار وآراء

العيد الوطنيّ وتحدّيات المستقبل



تحتفل سلطنة عُمان بعيدها الوطنيّ الرّابع والخمسين المجيد، وهو العيد الخامس المتزامن مع تولي صاحب الجلالة السّلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- مقاليد الحكم فـي البلاد، وكان توليه أمام تحدّيات داخليّة وخارجيّة، أمّا الدّاخليّة فعلى رأسها الوضع الماليّ، والّذي تراجع لأسباب عديدة، وتزامن الحال مع جائحة كورونا، حيث زاد عدد المسرحين، ومع ذلك استطاعت سلطنة عمان أن تتجاوز هذه المرحلة الحرجة، وأن تحافظ على درجة الأمان، فسهلت الاستثمار، وراجعت موضوعات الحماية الاجتماعيّة والأوقاف وقانون العمل، وأعلنت مشاريع كبرى كالمكتبة الوطنيّة، وافتتحت مشاريع كبرى أيضا، آخرها افتتاح المدينة الطّبيّة للأجهزة العسكريّة والأمنيّة، فضلا عن الطّرق وتوسعتها، مع الاهتمام بالإنسان والتّنمية، فهذه التّحدّيات لم تعق عمليّة الإحياء والبناء فـي عمان، بل هي -والحمد لله- متواصلة يوما بعد يوم، وهناك مشاريع كبرى سيعلن عنها كما أعلن عن غيرها خلال أقل من خمس سنوات، ممّا يجعل عمان بعد عشر سنين -بعونه تعالى- ليست عمان قبل خمس سنين، وهذا ما نرجوه جميعا.

أمام هذه التّحديات هناك تحدّيات خارجيّة أثرت على العالم ومنها عمان، بشكل مباشر أحيانا، وغالبا بشكل غير مباشر، وعلى رأسها الحرب الأوكرانيّة وتأثيراتها العالميّة، كذلك الأوضاع السّياسيّة السّلبيّة فـي اليمن والسّودان، والحرب على غزّة ولبنان، فعمان فتحت أبوابها لهذه الشّعوب رغم تحدّياتها الاقتصاديّة، وحاولت أن تنأى عن التّصرفات غير العقلانيّة، والمنحازة سلبا فـي مثل هذه القضايا، وإن تكون أذن خير جامع للسّلم والإحياء والبناء، وأن تقف مع حقوق الشّعب الفلسطينيّ ووقف الإبادة، واحترام كيان الدّولة اللّبنانيّة، ممّا قد يكلّفها شيئًا من الحرج، فهي قدّمت البعد الإنسانيّ لا المصالحيّ، والسّلم وليس الحرب، والبناء وليس الهدم، فـي رؤية واضحة وليست متردّدة، تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشّمال.

ونحن نحتفـي بالعيد الوطنيّ الرّابع والخمسين المجيد، يحقّ لنا أن نفتخر بالحالة الأمنية المستقرة أمام دمار اشتعلت شرارته فـي المنطقة، ولا زالت ناره تتسع، ثمّ لا زالت آثار الإبادة فـي غزّة، وحاليا لبنان جليّة للعيان، ولا ندرك آثاره المستقبليّة على المنطقة، والعديد من عقول بعض السّياسيين الضّيقة تسهم فـي محاولة توسيع دائرة الفوضى والحروب، ولو تحت غطاءات دينيّة، أو دعم بعض الجماعات المتطرّفة باسم الإسلام ظلما، إذا لم يتدخل العقلاء، ويقدّمون التّعقل على العاطفة، وحماية الآخر لذات الآخر لا لأجل المصلحة، فأيّ حرب أو فوضى فـي المنطقة ضرر ذلك يتأثر به الجميع، خاصّة وعالمنا العربيّ لا تهدأ بلد فـيه إلّا وتضطرب أخرى، ممّا جعل التّدخلات الخارجيّة حاضرة فـيه، ومستحكمة عليه، وتريده أن يكون عالمًا ثالثًا، وأن يبقى مستهلكًا لا منتجًا، ولا يمكن تجاوز ذلك إلّا إذا أدركنا جميعًا إنّ الاستقرار الأمنيّ لابدّ أن يعمّ جميع الوطن العربيّ، وأن يكون العرب يدا واحدة فـي إحيائه، ورفع أي يد تعبث فـيه خرابا ودمارا.

وكما أنّه يحقّ لنا ونحن نحتفـي بالعيد الوطنيّ الرّابع والخمسين بالحالة الأمنيّة؛ أيضا يحقّ لنا أن نفتخر بحالة التّنمية والإحياء والبناء، منطلقة من الإنسان ذاته، فـي بنائه معرفـيًّا وصحيًّا وحقوقيًّا، وهذا لا يعني عدم وجود تحدّيات كبرى، وعلى رأسها قضيّة الباحثين عن عمل، وزادها سوءا قضيّة المسرحين بسبب بعض الأوضاع الاقتصاديّة الّتي أشرت إلى بعض أسبابها سلفا، وهذا فـي نظري من أكبر التّحدّيات، مع إيماني أنّ عمان ستتجاوز حدّتها؛ لأنّ الإرادة الإنمائيّة والحقوقيّة حاضرة، والرّغبة فـي إيجاد حلول عاجلة مدركة، ويحتاج هذا إلى شيء من الشّفافـيّة، كما يحتاج حاليا تحريك الحماية الاجتماعيّة بشكل عمليّ يشجع على العمل، ويحمي الأفراد والأسر، مع الاستفادة من مركزيّة مصادر الحماية، وعلى رأسها الأوقاف والصّدقات والضّرائب، بحيث توجه بشكل إيجابيّ ومتناسق مع الحالة السّوقيّة نتيجة التّضخم والاحتكار والمؤثرات السّلبيّة فـي السّوق، وبعض القوانين الّتي تحتاج إلى مراجعات مستمرة؛ لأنّ الحركة الاقتصاديّة اليوم متحرّكة بشكل كبير، فـينبغي أن تكون القوانين متحرّكة أيضا، وأكثر انشراحا وتفاعلا إيجابيّا مع المرحلة.

بلا شك، المرء يسعد بالحالة الّتي تعيشها عمان اليوم، ونسعد عندما تتمدّد الحالة الاستقراريّة ماديّا ومعيشيّا لدائرة أوسع، فلهذا أثره الأمنيّ والاستقراريّ والتّقدّميّ، وهذا ما نرجوه أن يتحقّق مستقبلا، وفق علاج لا يوسع من دائرة البطالة المقنعة، وإنّما يستفاد من هذه الطّاقات فـي تحريك السّوق ذاته، ودوران المال لدائرة واسعة؛ لأنّ الإنسان قبل البنيان، ومع هذا استقرار الإنسان يؤدّي بشكل طبيعيّ إلى تطوّر البنيان، إذا كان استقراره -كما أسلفت- بشكل إيجابيّ يخدم المجموع.

ولهذا علينا ونحن نعيش هذه المناسبة الوطنيّة السّعيدة، أن ندرك ما تمّ إصلاحه وبناؤه خلال هذه السّنوات الخمس، وهي وإن كانت قليلة زمنيًّا؛ إلّا أن نتائجها وفـيرة ومدركة، ولا يمكن نكران ذلك، فالإصلاح لا ينزل من السّماء، ولا يكون حديث أمانيّ، ولكن وراءه قلوب مخلصة، وعقول عاملة، وجهود مستمرة، وفق المدرَك المتاح، ووفق التّحدّيات الّتي نلمسها جميعا، ومع هذا علينا أن نجعل مثل هذه المناسبات الوطنيّة باعثة فـينا الرّوح الإيجابيّة، لنكون أذن خير، يقود إلى الإحياء والبناء والتّنميّة، وإلى بناء الإنسان، وتحقيق العدالة، ورفع مساحات الإبداع والابتكار والمساهمة فـي الاستثمار والشّراك الوطنيّ فـيما يخدم عمان حاليا ومستقبلا، ويخدم المنطقة ككل؛ لأننا اليوم جزء فاعل فـيه، لا يمكن أن ننفصل عنه بحال، فليكن تفاعلنا إيجابيّا داخليّا وخارجيّا، بما يخدم الإنسان كإنسان، والذّات كذات.