أفكار وآراء

تجاهلت هاريس غضب الناخبين بسبب غزة فدفع الديمقراطيون الثمن غاليا

ترجمة: أحمد شافعي



كان يمكن أن أتشكك في تحليلات ما بعد الانتخابات في غداة النتيجة التي وصفت بالصادمة. فأنماط التصويت في كلا الجانبين في هذه المرحلة أقرب إلى اختبار رورشاخ الذي يرى الناس فيه ما هم راغبون في رؤيته. وما أطرحه هنا هو مزيج من الغريزة والتكهن (وأكاد أسمعكم تقولون: وما الجديد؟). لكن كلا الغريزة والتكهن قائم على عامل معين لا يمثل صدمة، وذهبت التنبؤات من قبل إلى أنه قد يضير بحملة كامالا. فبوسعنا أن نكون على يقين من أن الديمقراطيين خسروا الناخبين بسبب غزة. والأرقام مذهلة. وثمة يقين آخر هو أن الناخبين سيبقون غير مسموعي الصوت.

في ديربورن بولاية ميشيجان حيث توجد أكبر أغلبية عربية في مدينة أمريكية، فاز جو بايدن سنة 2020 بقرابة 70% من الأصوات وتشير أولى الإحصاءات إلى أن هاريس حصلت على شيء من قبيل 40% من الأصوات. أثيرت المخاوف من الحرب بصوت جهير ومحدد، فلم تكتف هاريس بتجاهل هذه الأصوات وعزلها، ولكن حملتها بعثت أيضا بيل كلينتن لإسكات تلك الأصوات. ولم تزر هاريس المدينة مطلقا. لكن خمنوا من الذي زارها؟ صحيح، هو دونالد ترامب. وها هو قد فاز في ديربورن وبميشيجان كلها.

قالت ناخبة أعطت صوتها لترامب «حتى لو أن احتمال استمراره في هذه الإبادة يبلغ 99%، سأقبل بمخاطر ونسبة الـ1% بأنه قد يوقفها، في مقابل احتمال بنسبة 100% بأن الإبادة سوف تستمر في ظل حكم هاريس».

يوجز هذا القول ببراعة الإحساس بانسداد الطريق السياسي، وهو الإحساس الذي تكون على مدار العام الماضي. لقد وعد الديمقراطيون بتحقيق الاستقرار وحماية الوضع القائم المهدد أمام خصم متقلب، ولكن مع هذا الوعد بالاستمرارية جاء اليقين بأن شيئا لن يتغير. ولكن بالنسبة للحرب في غزة ولبنان، لم يكن عدم تغير أي شيء خيارا مطروحا.

لقد تسببت أحداث فلسطين والشرق الأوسط الأوسع على مدى ثلاثة عشر شهرا متصلة في يأس واغتراب. فأولا، هناك الأثر النفسي للصور ومقاطع الفيديو التي تصوّر القتل، وقتل الأطفال في المقام الأكبر. وليس الموت وحده، ولكن طبيعته؛ إذ يتعرّض آلاف البشر للتشوّه والتمزق والدفن تحت الأنقاض، وتُجمع أشلاؤهم في أكياس لتدفن. ولسنا مهيأين لاستيعاب مثل هذا الرعب دونما تعرّض لصدمات معنوية عميقة. ذلك أمر يتغير بسببه البشر.

أضف إلى ذلك الطريقة التي استجاب بها الديمقراطيون والمؤسسة الليبرالية بصفة عامة لهذه الصدمة وهذا الغضب. فلم يسمحوا للأمريكيين الفلسطينيين بالحديث في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في أغسطس. وتفككت مجموعة (نساء مسلمات من أجل هاريس) فور إنكار فرصة الحديث في المؤتمر. ونشرت جماعات أخرى -من قبيل (اتحاد عمال السيارات) الذي كان قد أيّد هاريس بالفعل- اعتراضات قوية. واتهم كبار الديمقراطيين من أمثال نانسي بيلوسي المظاهرات الشعبية بوصمة «الارتباط بروسيا». كما اتهمت منابر الإعلام الليبرالي الطلبة في شتى الجامعات بمعاداة السامية، ثم تعرّضت مظاهراتهم ومخيماتهم لاقتحام من الشرطة التي قامت باعتقالهم.

وفي كل من استمرار القتل والتطهير العرقي، ورفض القيام بأي شيء حيال ذلك اللهم إلا التعبير في أفضل الحالات عن الحزن من الوضع المؤسف الذي آلت إليه الأمور، ثمة رسالة شخصية موجهة إلى ذوي الخلفية العربية مفادها أن: أمثالكم من الناس لا قيمة لهم. وهذه رسالة تمتد حتى تصل إلى آخرين في الجنوب العالمي، أو من يرون أنفسهم في الفلسطينيين، مقهورين ومصنفين عرقيا مثلهم، ومن يشعرون على تباين خلفياتهم أنهم منفيون من الحزب الديمقراطي وعدم مبالاته بمخاوفهم.

ليس عليك إلا أن تلهم الناس بكل هذه المشاعر، مشاعر الألم والمحو والاحتقار، لتراهم وهم يصوتون تصويتا يعبّر عن هذه المشاعر. وسيكون هذا التعبير متعدد الأوجه، ففيه الغضب والعدمية والانفصال والمقامرة على الفرصة الأخيرة. قد يبدو ترامب ورقة مغامرة، ولكن حتى الورقة المغامرة لها نصيب من فرص النجاح، والتوصل بعيد الاحتمال إلى نتيجة إيجابية ولو أنها لا تزال مستحيلة. بسبب هؤلاء الناس؟ إذن، دمروا هؤلاء الناس. لقد أطلعونا على حقيقتهم، فهيا بنا نريهم حقيقتنا.

أعرف أنني أتكلم هنا بأفكار غيري. لكن هذه الأفكار والسلوكيات مفهومة في ضوء الخيارات التي تطرحها. ولقد رأيت في انتخابات المملكة المتحدة أيضا ذلك الإصرار من الناخبين على أن يتوقف الناخبون عن التفاهات، ويركزوا على حقيقة أن الخيار الآخر قد يكون أسوأ. ولكن في ظل التيه والقلق الناجمَين عن رؤية الفظائع تلو الفظائع كل يوم، ما من حساب عقلاني لما قد يكون «الأسوأ» في المستقبل، إنما هو اليأس فقط من إنهاء ما لا يحتمل في الحاضر.

لقد كان لدى الديمقراطيين اعتقاد أحمق بأن بوسعهم أن يفرضوا على ناخبيهم الأوفياء أقصى الضغط ويتوقعون منهم التصويت لصالحهم، وتأكد ذلك الاعتقاد لأنهم رأوا في خصمهم فزاعة معينة، فهو صارخ العنصرية والعدمية ومصاب برهاب الإسلام ومعاد للديمقراطية. لكن الناخبين الذين فقدهم الحزب فهموا أن الديمقراطيين ضمنا يماثلونه في ذلك كله.

وها هنا تظهر القدرة على حقيقتها، فهي في ظاهرها رفض منطقي لهاريس من جانب ناخبين غاضبين بسبب غزة. فالتصويت في المقام الأكبر ممارسة للإرادة الحرة، وهي الإرادة الحرة الوحيدة لدى الأفراد في النظام الانتخابي الخاضع لسيطرة المشاهير والمتبرعين الأثرياء والإعلام لدى كلا الحزبين. (قال مذيع في شبكة إم إس إن بي سي إنه حتى المطربة الشهيرة «الملكة لطيفة» دعمت هاريس «مع أنها لم تدعم أحدا من قبل» وهذا برهان على سلامة حملة ترشحها من أي عيب). وإذا ما سلبت قوة الناخبين فإنهم ينتهزون الفرصة لاستردادها بالطريقة الوحيدة التي يملكونها وهي أن يظهروا أن لديهم خيار رفض الوضع القائم. وفي حين أن الناخبين الذين تحولوا إلى ترامب سوف يتصدرون العناوين، فقد يكون هناك من توجهوا إلى حزب ثالث، أو من لزموا البيوت ببساطة. لقد خان الديمقراطيون عهدهم مع كثير من ناخبيهم، ثم صدمهم أن الناخبين لم يلتزموا من جانبهم بالعهد.

ستسمعون من الليبراليين في الأيام القادمة الكثير عن أن الوقت قد حان «للإنصات للناخبين»، وكأنما لم يكن الناخبون يجهرون بالحديث منذ شهور. ولو استمع الناس أخيرا، فإنني أراهن أنهم بدلا من الانخراط في مطالب وقف إطلاق النار وحظر الأسلحة، سيظلون يركزون فقط على كل أنواع التفسيرات الثانوية. فهل ترامب ساحر خبيث سحر الناس وجعلهم يعتقدون أنه سيحقق رغباتهم؟ وهل هؤلاء الناس ساذجون أم طائفيون أم مخطئون تماما؟

إن الفراغ الأخلاقي الذي سمح للديمقراطيين في نهاية المطاف باستمرار المذابح في غزة هو نفسه الذي يمنعهم من رؤية الناخبين بوصفهم كائنات أخلاقية. وموقف السياسة الواقعية الذي يوازن بين حياة الفلسطينيين وبين الولاء لإسرائيل هو الموقف نفسه الذي لا يستطيع أن يتصور الناخبين الذين لا يتصرفون بهذه الطريقة الباردة غير المهتمة إلا بالمصلحة الذاتية.

والشعور الثابت بالاستثنائية هو الشعور نفسه الذي لا يسمح لهم بفهم شعور الضعف والهشاشة والخوف الذي أحدثه العام الماضي. والمذهولون من فوز ترامب والذين يشعرون بالقلق من عصر الرعب الذي يوشك على دخوله لن يدركوا أبدا أن الكثيرين يرون أن هذا العالم قائم بالفعل، لكنهم لا يعيشون فيه.