أفكار وآراء

الشيطان لا يكمن في التفاصيل



المثل الإنجليزي الشائع الذي يردده الناس فـي كل سياق هو «الشيطان يكمن فـي التفاصيل»The devil is in the details، وهذه العبارة التي قالها بعض الباحثين فـي أحد المؤتمرات قد صارت مثلًا يستخدمه الناس بشكل يخرج عن دلالته ومعناه الأصلي المراد منه. فالمقصود بهذه العبارة هو أن المسائل التي قد نظنها بسيطة قد تنطوي على تفاصيل معقدة ينبغي الالتفات إليها. ولكن أكثر الناس يستخدمون هذا المثل بمنأى عن دلالته الأصلية، كما لو كان نصيحة تحذيرية تطالبنا بالابتعاد عن الخوض فـي التفاصيل. وهذا الاستخدام الأخير لا يصحّ اتخاذه مثلًا أعلى إلا فـي سياق محدود، بمعنى أننا لا ينبغي أن نخوض فـي التفاصيل حينما نريد أن نتوافق أو نصل إلى اتفاق حول مسائل عامة تتعلق بالتسويات السياسية على سبيل المثال. ولذلك، فإن المثال بهذا المعنى لا يصح أن نتخذه مثلًا أعلى فـي سائر شؤون الحياة، لماذا؟ ببساطة لأن الأصل أو البداهة هو أن كل شيء يَنتُج عن تفاصيل صغيرة قد أنتجته؛ فليس هناك شيء ينتُج من لا شيء. هذا هو الأصل فـي حقيقة الأشياء ونشأتها فـي الفهم والمعرفة. هذا الفهم أو المعرفة بحقيقة الأشياء قد نتجاوزه فـي شؤون السياسة من أجل العيش السلمي فـي الحياة، ولكن لا يجوز تجاوزه فـي مجال الفهم والمعرفة ذاتها. بل إنني أزعم أنه ليست هناك معرفة حقيقية ممكنة من دون معرفة بالتفاصيل، وأن هذا يصدق على كل فكر ومعرفة أو إبداع فـي أي من المجالات:

لنتأمل أولًا مجال الفكر لنتبين أن كل فكر أصيل هو فكر ينبع من تأمل وقائع وأحداث الحياة بكل تفاصيلها، قبل أن يرتقي إلى استخلاص تعميمات من وراء ذلك. وفـي هذا الصدد ينبغي أن ننظر فـي تاريخ الفلسفات الطويل، لنتبين أن ما بقي منها هو تلك الفلسفات التي عكفت على تأمل التجربة الإنسانية كما تتبدى فـي تفاصيل الحياة، قبل إصدار أية أحكام أو مقولات، بمعنى أنها فلسفات عكفت على استخلاص معاني الحياة من خلال تفاصيلها وما قد يبدو عابرًا فـيها. هذا ما كان يفعله سقراط، وهذا هو ما دوَّنه أفلاطون من خلال محاوراته التي يتناول كل منها تفاصيل موضوع ما. وهذا ما فعله شوبنهاور فـي تأملاته العميقة لإرادة الحياة التي تتجلى فـي الإنسان وفـي سائر الموجودات. وهذا هو أيضًا ما فعلته الفلسفة الفـينومينولوجية منذ نشأنها -وحتى عصرنا الراهن- حينما عكفت على استلهام المنهج الهوسرلي فـي الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للأشياء والمنظورات التي تتبدى عليها فـي عالم التجربة التي يمكن أن نخضعها لتأملاتنا إذا أردنا أن نفهم حقيقتها. ولقد انعكست هذه الروح الفـينومينولوجية فـي فلسفات عديدة، كما فـي فلسفة الوجود عند هيدجر والفلسفة الوجودية عند سارتر وغيره. فها هو سارتر- على سبيل المثال- يصف باستفاضة دور «النظرة» فـي علاقة الأنا بالآخر؛ كما أن هيدجر- من قبله- يعنى بوصف أسلوب وجود الموجود البشري فـي العالم؛ لأن الموجود البشري لا يمكن فهمه بمنأى عن أسلوب وجوده، من خلال بعض المقولات العقلية المجردة التي تتصف بالتعميمات التي تنأى عن تفاصيل الحياة والوجود، كأن نقول عن الإنسان على سبيل المثال إنه «حيوان عاقل». والحقيقة أن هذا لا يصدق فحسب على فهم الوجود الإنساني، بل على فهم أي شيء أو موجود آخر؛ لأنه ليست هناك ماهية واحدة للأشياء جميعها بحيث تنطبق على كل شيء، بل إن ماهية الشيء تكمن فـي الأسلوب الذي به يتشيأ (بلغة هيدجر)، أي فـي الأسلوب الذي عليه يوجد وتتبدى شيئيته أو طابعه الشيئي!

وكما أن الاهتمام بالتفاصيل هو منبع كل فكر وفهم أصيل، فإنه منبع كل إبداع فـي الفن، وكل ما فـي الأمر هنا هو أن كلًّا من الفكر والفن يسيران فـي اتجاهين معكوسين من حيث علاقتهما بالتفاصيل: فالفكر الأصيل يبدأ من تأمل التفاصيل الجزئية ليستخلص أفكارًا وقضايا عامة، بينما الفن يستبصر هذه الأفكار العامة والكلية كما تتبدى فـي تفاصيل جزئية بالغة الخصوصية. يحدث هذا فـي كل إبداع فني. ولهذا فإن الفن الرديء الذي يفتقر إلى الإبداع هو الذي يبدأ من الأفكار العامة ويتخذها موضوعًا له؛ لأن الفن فـي هذه الحالة سوف يتحول إلى خطاب وعظي أو أيديولوجي: فالإبداع فـي الفن يكمن دائمًا فـي التفاصيل، أما الرؤية أو الفكر فـيتمثل دائمًا بشكل إيحائي غير مباشر كما يتجلى من خلال هذه التفاصيل. فالفن العظيم إذ يعبر عن دلالة إنسانية عامة، فإنه يعبر دائمًا عن هذه الدلالة كما تتبدى فـي تفاصيل الشخصيات والأحداث المصورة فـي عمل أدبي ما أو فـي الإيماءات الخاصة بشخصية مصورة فـي لوحة ما؛ وهكذا فإن الإبداع الفني هو القدرة على تصوير ما هو عام فـي ومن خلال ما هو خاص، أي تصوير الكلي فـي التفاصيل الجزئية الخاصة بحالة إنسانية أو وجودية ما.

وإذا كان الاهتمام بالتفاصيل هو مناط الإبداع فـي الفكر والفن على السواء، فإن هذا يعني أننا ينبغي أن نتخلى عن المَثل الجاري على الألسنة القائل بأن «الشيطان يكمن فـي التفاصيل».