أعمدة

العرب وتاريخهم

لقد أدركت من تجربتي العميقة والطويلة في التدريس في مختلف مراحله، وفي بِقَاعٍ من العالم مختلفة، أنّ الأجيال الصاعدة في اغتراب وغُربة مع تاريخها وحضارتها، لا تعلم هذه الأجيال، وأجيال من قبلها، ما هي المصادر الكبرى في تاريخنا التي لا يجب ألاّ نكون على علم بها.

نكتب الكتب وندرِّس المحاضرات، ولكن لا وجود لعقيدة جاذبة ولا لرغبة جامحة في تحصيل معرفةٍ عن هذا التراث العميق، ومن جانبٍ آخر، فإنَّا نحن القائمون على تعليم هذه الأجيال وتمكينها من وسائل المعرفة والدراية لم نقم بما يجعل هذا الموروث التاريخي المعرفي الحضاري نقطة انطلاقٍ وموقع ارتكاز نستقي منه نماذج مضيئة وأعلامًا تنير سُبُل اللاّحقين.

ما زالت شعوب الأرض على اختلاف منابتها وألوانها ومواقعها تسعى إلى الانشداد إلى لحظات منيرة في تاريخها، حتّى أمريكا التي لا تاريخ لها صنعت لها تاريخا قريبًا من الحريّة والبناء، وصنعت رموزها التي تتفاخر بها أمام أجيالها اللاّحقة أوَّلا وأمام العالم ثانيًا، حتّى الكيان الإسرائيلي المغتصب، الذي تفوقه جدّتي سنًّا وتاريخًا، صنع له في تاريخه الدموي الحديث رموزًا ووقائع يفخر بها، وتهتدي بها الأجيال في حلّها وترحالها.

ونحن العرب الذين لدينا تاريخ ضارب في القِدَم إن فكَّرنا اليوم في شخصيّة غير دينيَّة يُمكن أن تمثّل هدى وهدْيًا لأبنائنا ولنا نحن أيضًا، كثر الهرج والمرجُ والخلاف، وفي النهاية انفرط كلّ قُطْرٍ يُمجِّد في تاريخه الخاص، ويُعلي من شأنه في الكتب المدرسيّة، في حصّتين ينفُر منهما الطلبة، ويمقتون من يدرّسهما، وهما التاريخ واللّغة العربيّة. لا بد أن تكون مادّة التاريخ في الوطن العربي مادة مقدَّسة يقوم عليها مدرّسون مُختارون، يتقنون فنّ الحكاية والرواية، لا محض جامعي معلومات، يؤدّون الدور بكلّ برودٍ ومقْتٍ، حصّةُ التاريخ جوهرٌ وجوديّ وبُعدٌ قوميٌّ وعقديٌّ، ومنها تنشأ أجيالٌ مهما تفرَّعت تخصّصاتها تبقى منشدَّة إلى نماذجها، مفتخرة بأصولها، رافعةً رأسها أمام الأمم.

مَن مِن أجيالنا يقف على عظمةِ شخصيّة تُمثِّل بُعْدًا موحِّدًا، ومتَّفقًا عليه؟ كيف يُمكن أن نُحوِّل شخصيّات التاريخ إلى نماذج مُزْهرة، يؤمن بها الطلبة ويتعلّق بها أطفال المدارس وشباب الكليّات؟ نحتاج إلى شخصيّات من التاريخ جامعة، لا تُفرِّقُ، وفي الآن ذاته لها وقعٌ وأثرٌ في العلم أو الثقافة أو السياسة.

هل يعرف طلبتُنا «صقر قريش» عبدالرحمن الداخل، وهل استطعنا أن ننطلق من وقائعه وفتوحاته وأخلاقه الحميدة لصناعة صُورة بطل يؤمُّ مختلف التوجّهات، ويفخر به أبناؤنا، كما يفخر الغرب بنابليون أو بيوليوس قيصر؟ هل أقمنا جسورًا للتواصل بين الحاضر والماضي، وعرَّفنا بعلمائنا الذين نفخر بهم وكان لهم عميق الأثر في ثقافة الغرب، أين ابن سينا وابن الهيثم وابن البيطار وجابر بن حيّان وابن رشد والفارابي؟ هل استطعنا أن نُخْرجهم من عقم صفحات التاريخ إلى عمق الواقع؟ إنّ هذا الأمر يحتاج إلى فكرة، وهي صناعة أرضيّة طويلة المدى لبناء شعب متأصِّلٍ، يتحرّك وفق مرجعيّة تاريخيّة ضاربة بجذورها في العمق، يُخرج شخصيّات تاريخه من ظلام الكتب وغبار رفوف الأرشيف لبَعْثِها حيَّةً، حييَّةً، نابِضةً، تقتدي بها أجيالٌ وأجيالٌ. خلاصَةُ الرأي، كم نحنُ في حاجةٍ إلى تصوُّر يُعيد التفكير جديًّا في مُخرجات التعليم لنتمكّن من بناء جيل صالحٍ، يبدأ رحلته بالافتخار بتاريخه العربيّ الإسلاميّ، ويعرف نماذجه المنيرة، وتعلق نفسه بحوادث التاريخ. يبدأ بناء هذا التصوّر بوجود فكرةٍ، اعتقادٍ، يبني ويعي ما يبني، لا تُساقُ الأجيالُ بدون فكرةٍ، بلا اعتقادٍ.

ما نلاحظه في أنظمتنا التعليميّة العربيّة كاملة أنّها تضرب خبْطَ عشواء، تفكّر في مخرجات معرفيّة علميّة هي غير متحقّقة، وتهمل صناعة الإنسان، مِنْ بين سلبيّات مخرجات التعليم في بلادنا أنَّ منظورًا سلبيًّا سائدًا تكرَّس وانغرس حول العلوم الإنسانيّة، التي هي بوّابةُ تطوّر الشعوب، لا بدّ من إعادة النظر في برمجة العلوم الإنسانيّة في المدارس والكليّات، فهي القاطرة التي تقود بقيّة المعارف والعلوم.

وعليه، فإنّا نحلم يومًا بأن نرى مدرِّسًا للتاريخ يتسابق الطلبة لدخول محاضراته، ويذكره التلاميذ في بيوتهم بكلّ حبّ وتقدير، وأن نرى مدرّس اللّغة العربيّة مُرَغِّيًا، يحبّ التلاميذ حصّته، ولا ينفرون منها، المدرِّسُ أو الأستاذُ أو الدكتور الجامعيّ هو مركزٌ مهمّ في إنجاح العمليّة التعليميّة، وبعْثِ جيلٍ مؤمنٍ بتاريخه، فخور بلغته، له نماذج في تاريخه يفخر بها.

أمَّا في واقع الحال، فإنّ الطلبة يُلقّنُون التاريخ، حفظًا وإعادةً، دون فهمٍ أحيانًا، ولا يتمتّعون بهذه المادّة، في حين أنّ الشعوب المتقدّمة تتخيَّر للتاريخ أستاذا حكّاءً، وهو يجتهد في شدّ الطلبة إليه، وبالتالي في ترغيبهم في شخصيّات التاريخ التي اختارها الوعي العامّ نماذج اختلاقًا أو وجودًا حقًّا. لماذا عمل اليهود في العالم على تجريم مَن يُشكّك في المحرقة النازية؟ ليحتفظوا بتاريخٍ يُفْرَضُ على العالم بأسْره، وليصْنعوا نماذج من الضحايَا يتعاطَف معها الكون، وقد حُوكمت شخصيّات عالمة، عارفة، بعلَّة التشكيك في المحرقة، ونحن عاجزون عن الاتّفاق على شخصيَّةٍ تاريخيّة واحدة، تجمعنا، وتكون نموذجًا مقدَّسًا نحتمي بها في ظلّ التصادم التاريخيّ العنيف الذي يعيشه الكون!