ثقافة

(عذرا سينما)فيلم من بطولة ويأس غزة

 
تجلس في قاعة المسرح البلدي برام الله، على كرسي ناعم ودافئ لتشاهد برد غزة وجحيمها، قادمًا من بيتك وحارتك الهادئة، ومتناولًا وجبة مسخن فلسطيني دسمة، تتمتع برفاهية أن تخرج إلى مرحاض نظيف في الطابق الثاني من المسرح، لا يزاحمك فيه أحد، ولا يقف أمامه طابور هائل من الناس، ثم تهبط الدرج بهدوء دون خوف من قصف مفاجئ أو رصاص قناصين، عائدًا إلى نعومة مقعدك في المسرح لتتفرج على مدينة طالما أحببتها ورغبت في زيارتها، بلا بيوت ولا مراحيض ولا وجبات ولا هدوء، مدينة اسمها غزة. تشاهد أفلامًا قصيرة من إخراج مخرجات ومخرجين شبان، من غزة، وهي فكرة رائعة من مخرج غزي عالمي وشهير، هو رشيد مشهراوي، الذي ابتكر ودعم المشروع وأطلق عليه اسم: أفلام المسافة صفر كمبادرة توثيقية سينمائية تضمّ 22 فيلماً قصيراً أنتج عام 2024، ومدة العرض 100 دقيقة، من توقيع السينمائيين والمخرجين والفنانين في قطاع غزة الذين يعيشون الأحداث عن قرب ليقدموا حكاياتهم السينمائية ويوثقونها خلال فترة العدوان الإسرائيلي على غزة ما بعد 7 أكتوبر. 22 فيلمًا قصيرًا، صُوّرت في غزة، أبطالها شخصيات تعيش الجحيم، جوعى بلا بيوت، يعيشون في المدارس أو على شاطئ البحر، يركضون تحت مظلات المساعدات الدولية، ويتحدثون عما يحدث مرة بيأس وخوف ومرة باعتزاز وصمود ومرة بحيرة ولا يقين.

خطف انتباهي من هذه الأفلام فيلم (عذرًا سينما) للمخرج الشاب المعروف أحمد حسونة، صاحب الفيلم الشهير استروبيا الحاصل على العديد من الجوائز العالمية، أهمها مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، عام 2019. ويسلط الفيلم الضوء على تداعيات الهجرة من فلسطين مثل البطالة والفقر والسعي إلى معانقة الحرية وغيرها من الأسباب، وذلك من خلال سرد قصة أربعة شباب تدفعهم ظروف الحياة للهجرة من غزة عن طريق البحر في عام 2012، فيعيشون صراعات مختلفة يذهب ضحيتها مهاجرون أبرياء.

عذرًا سينما لأحمد حسونة، فيلم سريع وقصير، وتخيلت مخرجه وهو يصوره وكأن طائرة (كواد كابتر) احتلالية تطارده في كل الأماكن، لكنه ترك أثرًا عميقًا في قلبي لدرجة أنني بكيت من أجل مخرجه وهو يروي قصة الجحيم الذي ما زال يعيش فيه بعد 7 أكتوبر، مقارنًا هذا الجحيم بواقع أقل جحيمية كان قبل 7 أكتوبر. يقول المخرج الغزي رشيد مشهراوي صاحب فكرة مشروع أفلام المسافة صفر ردًا على سؤالنا حول سياق الفيلم: 'كان المخرج الشاب أحمد حسونة على تواصل دائم معي قبل 7 أكتوبر، متحمسًا جدًا لصنع أفلام وتقديم رواية غزة الحصار، وبعد 7 أكتوبر، تواصلت معه طالبًا منه المشاركة في مشروع المسافة صفر فلم يتحمس، لانشغاله بلقمة الحياة له ولأسرته، لكني ذكّرته بحماسه القديم وقلت له: هذه فرصتك، اكتب سيرتك الفنية عبر فيلم واكتب يأسك وجوعك، فوافق فورًا وأخرج فيلمًا جميلًا مؤثرًا أحببته جدًا'.

يسرد المخرج قصصه الشخصية مستعينًا بمقاطع سابقة من حياته كمخرج يتنقل هنا وهناك مع طاقم التصوير وهو يصور أفلامه السابقة، بلا سماء مجنونة وبعشاءات هانئة وضحك وليل آمن وأحلام متواصلة وقوية، رغم الحصار الذي كان مفروضًا على غزة ومنع الفنانين من السفر. وهذا الواقع، طبعًا، لا يقارن بما يحدث الآن من كابوس لا يصدق. يتداول الغزيون نكتة يروونها بحسرة: 'كنا زمان نحكي يا رب تفرجها، وبعد 7 أكتوبر صرنا نقول: اكتشفنا أن الله مفرجها علينا من زمان'.

يقول المخرج أحمد حسونة ردًا على سؤالنا عن دافعه وإحساسه مع فيلمه عذرًا سينما: 'هذا فيلم يحكي قصتي ولم أتخيل يومًا أن أصنع فيلمًا عني، لكن بعد فكرة المسافة صفر لرشيد مشهراوي، وافقت دون حماسة لعمل فيلم عني، ومن دردشاتي الطويلة مع رشيد على وقع زنانة الاحتلال وقذائفه، عثرت على رؤية الفيلم، وهو من إفرازات المشاعر المشحونة والمختنقة. قبل 7 أكتوبر كنت صانع أفلام وثائقية ودرامية، ومشغولًا باستمرار، بكتابة سيناريوهات الأفلام، لكن بعد 7 أكتوبر انقلب كل شيء رأسًا على عقب، الفيلم عبارة عن تجميع المشاهد الوثائقية التي اشتغلتها قبل 7 أكتوبر بسنتين، مع بداية الحرب، صار الهم هو توفير لقمة العيش، هذا فيلم كتبته بمشاعر لا بكلماتي'.

خرجت من المسرح البلدي بعد آخر لحظة من فيلم مشروع المسافة صفر، شاعرًا بأن المسافة بيني وبين الجنون مسافة صفر. هذه أفلام أحرجتني، وأخجلت قلبي، كابن رام الله المدللة الهادئة، عدت إلى البيت، وكنت أعرف أن مخرجي وأبطال هذه الأفلام، لم يعودوا بعد التصوير إلى بيوتهم، بل إلى مكان آخر اسمه الخيمة.