أعمدة

مقايضة .. ما أبغضها!



يذهب مفهوم المقايضة -عموما- إلى الشأن التجاري أكثر منه إلى الشأن الإنساني، وذلك حسب العرف المتداول بين الناس، حيث تتم المقايضة سلعة بسلعة، وهذا أسلوب قديم -ربما- قبل أن يتطور النظام المالي المتداول بين الناس، كما هو الحال في الوقت الحاضر، حيث يتم دفع المال مقابل السلع، وأصبح من النادر جدا أن يعود أسلوب المقايضة التقليدية في عرفها القديم، والذي يهمنا أكثر في هذه المناقشة هي المقايضة الوجدانية، وهي المقايضة التي أراها من وجهة نظر شخصية، أنها امتحان كبير للذات التي تقف على طرف مقابل لتزن مستويات التفاعل بين الطرفين: إن سلم علي فسأسلم عليه، وإن زارني فسأزوره، وإن سأل عني فسأسأل عنه، وإن قدم لي هدية قدمت له هدية، وإن قابلني مبتسما فسأبتسم له، وإن واجهني بوجه مكفهر فسيكون موقفي كذلك؛ فأنا لست أقل منه، وتتناسل هذه المشاعر المتقايضة مع الطرف الآخر، وكأننا في حلبة نزال المنتصر فيها من يكون شعوره وفق هذه الصورة.

هذه الهواجس -يقينًا- لا يصرّح بها الفرد مع آخرين من حوله بصورة مباشرة، وإنما يضمرها في ذاته، ليقابل كل من يتوقع منه أن يكون نقيضًا لما يشعر به، بذات الأسلوب، والسلوك «مقايضة» وبالتالي متى وصل أحدنا إلى هذا المستوى من الشعور الذاتي تجاه الآخرين من حوله، فَقَدَ •–•كما أتصور– بوصلته الإنسانية، وأسقط نفسه «مع سبق الإصرار والترصد» في مأزق العلاقات الذهنية، وخرج بكامل إرادته عن مجموعة من الخيارات الإنسانية التي يحملها بين جنباته، حيث إن كل إنسان لا يمكن أن يعيش حالة جدب قاحلة وقاسية من كثير من المعززات الإنسانية التي يحملها بين جنباته، وإلا أصبح وحشًا كاسرًا لا يطيقه حتى أقرب الناس إليه، من أسرته في بيته الصغير، ولا أتصور أن إنسانًا طبيعيًا يمكن أن تصل حالته إلى هذا المستوى من الضعف.

ولأن الأمر كذلك فكيف يستطيب لفرد أن يتحرر من هذه التجاذبات الإنسانية التي يحملها بين جنباته؟ وبصورة أخرى كيف تكون له القدرة على لعب دورين في آن واحد، وهو ما يسمى بـ«انفصام الشخصية»؟ ما قد يحصل في مثل هذه الحالة عندما يواجه الفرد ضغطًا شعوريًا غير مسبوق، وتكون ردة الفعل لزمن قصير جدا، حتى «تهدأ العاصفة» أما أن يكون وفق ما جاء أعلاه سلوك ممنهج على طول الخط مع الآخرين، فهنا المسألة تأخذ بعدًا آخر، يندرج تحت الأمراض النفسية، ومعنى ذلك، فمتى أحس أحدنا بأنه وقع في مثل هذه المأزق أن يراجع نفسه سريعًا؛ لأن الأمر غير طبيعي بالمطلق، واستحسانه لهذا السلوك الذي يتصادم به مع الآخرين، فلن يكون على رأس قائمته أحد، حيث العزلة عندئذ.

يأتي البغض هنا، انعكاسا لمآلات النتائج المتوقعة من استمرار حالات المقايضة الوجدانية بين الناس، حيث يظل كل فرد يتوجس الأمر السيء من الآخر، ولا يأمن ما يضمره الآخر له، مع أن الآخر عندما يواجهك بوجه عبوس، أو عدم القدرة على التفاعل معك بالصورة التي تتوقعها -ربما- أنه يمر بحالة وجدانية صعبة، ربما عنده مشكلة أو أزمة في أمر ما، ربما كان مرهقا نفسيا أو جسديا، ربما لا يملك مالًا ليقابلك بمستوى هداياك، ربما لم يجد الفرصة المناسبة ليزورك، ربما انشغل عن الاتصال بك، فقائمته من العلاقات ليست أنت فقط، ثم، أين البذخ الإنساني الذي تتمتع به، وتشعر نفسك بأنك تمتلكه دون غيرك؟