بريد القراء

عش حياتك.. لا ترضِ الآخرين!

 


يقول ابن قيم الجوزية: «رضا الناس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك فاترك ما لا يدرك وأدرك ما لا يترك»، أما الإمام الشافعي -رحمة الله عليه- فيؤكد قائلا: «إنك لا تستطيع أن ترضي جميع الخلق، فأصلح ما بينك وبين الله في شأنك كله، ثم لا تبالِ بالناس».

ما يدفعنا للحديث عن هذا الموضوع هو كثرة ما نراه من تودد ونفاق و«تطبيل» وتصرفات غريبة تصدر عن بعض الناس الذين يتخلون عن قيمتهم الإنسانية ويجحفون حقوقهم الطبيعية، قد نعتبرهم أشخاصا واهمين وليسوا -كما يعتقدون أنفسهم- من العقلاء، حتى وإن كانت لديهم قناعة وأسلوب معين يجعلهم يتلونون ويتفننون في قلب الحقائق وإخفائها عن أصحابها، هم أدمنوا الشرب من قارورة التنازلات سواء من مكانتهم أو عاداتهم وتقاليدهم فقط لإرضاء الآخرين حتى وإن كانوا «تافهين في أقوالهم وأفعالهم» إلى أبعد مدى.

العاقل هو من لا يهتم لما يقال عنه، فهو يعرف ذاته وحدوده، والله أعلم بحاله ونيته، لذا فهو لا يقلل من قيمته بتبرير أفعاله لأنه يعي أن سر الفشل في هذه الحياة هو محاولة إرضاء الجميع على حساب نفسه.

ثق جيدا من أمر مهم وهو عندما تقبل بأن تكون «تافها» في حديثك وفي اختياراتك وفي أسلوب حياتك فأنت بذلك تقلل من قيمتك كإنسان منحه الله الكثير من النعم والفضائل ليكون عزيزا بنفسه، قد يضر بمَن حوله أكثر مما يسببه من حرج لذاته، إذن لا تستغرب أن تجد «مهرجا» غايته استقطاب الناس حوله حتى وإن صدرت منه حركات غريبة أو يتحدّث بأسلوب فظ لا قيمة له في الحياة؛ كل ذلك في سبيل إرضاء الآخرين والتقرّب منهم.

أحيانا نسمع البعض يقول: فلان «يضحكنا أو يسلينا»، وهو نصف دوني؛ فهذا الذي يسليك ليس كائنا يلعب في سيرك عالمي، بل شخصية ربما منحه الله القدرة على إدخال السرور على قلبك، إذن هو ليس انتقاص من قيمته -كما ترى- بل هو أمر يجب اعتباره إيجابيا وليس سلبيا -كما يراه البعض. هذا القول بأن فلان يسلينا هو تعبير صريح بأن الشخص الذي يقوم بذلك لا قيمة له في أرض الواقع، فكم من شخصيات «فكاهية» أضحكت العالم بمهارتها وتفردها، وبثت في نفوس الناس السعادة وفرّجت الهموم في مراحل زمنية كانت صعبة للغاية، واستطاعت أن تحجز لنفسها مكانة وقيمة فنية حاضرة في أذهان الناس حتى وإن ذهبت في طريق الفناء؛ لأنها شخصيات لن تتكرر في حياتنا بسهولة ومثال ذلك: «شارلي شابلن، ومستر بين، وعربيًّا إسماعيل ياسين وغيرهم».

الإنسان الرشيد هو من يحفظ نفسه، ويقيم علاقاته مع الناس على مبدأ الاحترام المتبادل حتى وإن كان لطيفا معهم في أسلوب حياته، فهذا الأمر ليس معناه انتقاصا أو هبوطا من قيمة الإنسان بل هو تفرد وقيمة، لكن الإنسان الذي يتعمّد «الهرج والمرج» هو الإنسان المختلف عن الأول تماما، لديه مآربه وأهدافه من أعماله البهلوانية.

الشخص اللطيف ليس «كومبارس أو أراجوز» يتحرك أو يقوم بأعمال سخيفة بغية إضحاك الناس عليه، بل قد يكون أفضل من الأشخاص الذين يقهقهون طويلا ويستمتعون بما يقوله أو يفعله من حركات.

بعض الناس في قمة الشدة تجدهم أكثر هدوءا وسكينة، وربما يضاحكك رغم أن قلبه يمتلئ بالأسى والألم، يتحمّل البعض أعباء كثيرة لا يعلم شدتها إلا الله، ومع ذلك يبدون أكثر قوة في مواجهة الألم وشدته.

إذن، لا تقلل من شأن الضعفاء والبسطاء واللطفاء بل كن قريبا منهم، قد يكونوا بالنسبة لك شمعة مضيئة، لكنها تحترق مع الوقت لتنتهي لا محالة، لذا كن خيرا محبا لكل شخص استراح له قلبك ومنحك الابتسامة والفرح ولا تتعاطف مطلقا مع أشخاص يدّعون اللطف وخفة الظل والدم.

في هذه الحياة هناك أشخاص يقسون كثيرا على أنفسهم، يهبطون إلى مستويات متدنية في سلم الآدمية، لا نجد لبعضهم المبرر الكافي لنقنع أنفسنا بأنهم مجبرون على ذلك من أجل إرضاء الآخرين، أو نفسّر كل ما يفعلونه من أعمال أو من عبث يجرح من إحساسهم، أو يقبلون بأمور لا تليق بأعمارهم أو مكانتهم.

الله سبحانه وتعالى كرّم النفس البشرية وحفظ لها كرامتها، فهذه الكرامة ليست في الحياة فقط بل وبعد الممات أيضا، لذا علينا أن نعي أن قبول التنازلات سواء كان للإطراء أو للتقرب إلى الآخرين أو للحصول على منفعة دنيوية هي أمور لا ينبغي الذهاب إليها حتى في أقوى الظروف وأصعبها.