وإلاّ فأَدْركْني ولمّا أُمَزَّقِ!
الأربعاء / 12 / ربيع الثاني / 1446 هـ - 21:25 - الأربعاء 16 أكتوبر 2024 21:25
أقرأ فـي العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي وأنا أتقطع ألمًا مما رأيته فـي الغارة الصهيونية الجبانة على النائمين من الأبرياء العُزَّل الذين استشهدوا حرقًا، فـي القرن الحادي والعشرين وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع!. قُلتُ لنفسي لعلي أجد ما يهدئ النفس ويخفف الجزع والذهول الذي لم يصبني لوحدي فحسب، بل أصاب كل من رأى المقطع فذابت نفسه حسرات وهو فاقدٌ الحيلة لا يلوي على شيء. فإذا بي أقع على خبر فـي باب «وصايا أمراء الجيوش» وذلك فـي الجزء الأول من العقد. وقد ورد الخبر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين وجَّهَ يزيد بن أبي سفـيان إلى الشام، فتعجبت من الخبر المنسوب إلى أبي بكر وهو فـي قوَّته وقد فرغ من حروب الردة واستتب له الأمر «إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له -يعني الرهبان- ....ثم قال له: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثّل، ولا تقتل هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، ولا تقرن شاة ولا بعيرًا إلا ما أكلتم، ولا تحرقنّ نخلًا، ولا تخرّبن عامرًا، ولا تغلّ ولا تبخس». وقد كانت فتوح الشام بين السنتين الثانية عشرة والتاسعة عشرة الهجريتين، أي بين السنتين ستمائة وثلاثة وثلاثين وستمائة وأربعين ميلادية. بعد ألف وثلاثمائة سنة، وفـي 12 أغسطس 1949م تحديدا، وُضِعَت اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين فـي وقت الحرب. ولا يدري المرء بعد قراءته لمواد الاتفاقية البالغة مائة وتسعة وخمسين مع المواد الملحقة بها والبالغة 21 مادة ماذا يصنع، غالبا سيضحك؛ ولكنه ضحك كالبكاء. فقد ابتكر الاحتلال الصهيوني جرائم جديدة لم تخطر على بال أكثر البشر شرا، وباتوا يتفننون فـي الكيفـية التي يبيدون بها الفلسطينيين العُزَّل بلا رادع ولا خوف ولا قلق. وبات معلوما لكل من يتابع الأخبار والقضية منذ أن أصبحت القنوات تنقل ما يحدث فـي فلسطين من جرائم؛ أن الاحتلال ينتقم من المدنيين كلما تلقى ضربة عسكرية موجعة، فهو كما يقول المفكر المصري فهمي هويدي «جيش قاتِلٌ» لا «مُقاتل». أما من لا يزال مؤمنًا بأن للأمم المتحدة دورا حقيقيا فـي حماية حياة أحد ما، فإنه ممن يلذ له العيش فـي عالم الأحلام. فمن المعلوم أن غياب الرادع هو ما يجرِّئ المجرم على ارتكاب الفظائع، أليس أجدادنا القائلون «مَن أَمَرَك؟، قال: ماحد نهاني!» أي، لَم ينهني أحد. وذلك فـي معرض وصف استحفال خروج إنسان ما عن القانون ومجاوزة الحد.
لم تكن عقيدة الإبادة وليدة اليوم والحاضر، بل هي عقيدةٌ مستفحلة فـي الفكر السياسي الغربي -إلا ما رحم ربي- فـي الماضي كما اليوم تماما. فلم تتورع بريطانيا عن إبادة السكان الأصليين لأستراليا، كما لم يتورع ملك بلجيكا ليوبولد الثاني عن إبادة سكان الكونغو، أو إبادة الهنود الحمر فـي أمريكا. أما عن حروب الإبادة التي لم تمض عليها مائة عام، فلآسيا النصيب الوافر منها؛ بدءا بهيروشيما وناجازاكي وليس انتهاء بفـيتنام وإندونيسيا وفلسطين!. فالعقيدة العسكرية الغربية قائمة على منطق القوة لا غير؛ لذلك كُشِفَ فـي أرشيف الجيش الإسرائيلي، الخميس المنصرم، عن تسجيل نادر لرئيسة الحكومة الإسرائيلية السابقة غولدا مائير من اجتماع حكومي خلال فترة حرب أكتوبر عام 1973 «سوف يغفر لنا أشياء كثيرة، شيء واحد لن يغفر لنا وهو ضعفنا، بمجرد إدراجنا فـي قائمة الضعفاء، سينتهي الأمر». هذه عقيدة تنبئ عن أمرين أساسيين؛ الأول أن العقيدة الصهيونية لا تؤمن بأن الأرض تتسع للصهاينة بمختلف دياناتهم وأعراقهم، وبين أصحاب الأرض الفعليين، الفلسطينيين. والثانية بأن الاحتلال لن يتوقف عند حدود فلسطين وحدها ، فلو أحس المسؤولون بضعف الجوار أو أحسوا بالتهديد، فلن يترددوا عن الهجوم!؛ لأن السارق يظن بأن الجميع يلاحقه، فكيف بالقاتل الذي لا يركن إلا إلى مزيد من القتل خوفا من الحساب والعقاب.
إن أهمية قراءة الأدبيات العربية القديمة، أنها تذكرنا بما نسيناه؛ أو بما أنستنا إيَّاه الأمركة العالمية، فمِن أمركة اللغة إلى أمركة نمط العيش والحياة والتفكير حتى ؛ إلى أمركة الدولة ذاتها. وذلك لأن النظام العالمي الحالي لا يهدأ ولا يستكين ولا يصنف الدولة فـي خانة الأصدقاء إلا بقدر خضوعها للأمركة، من المعاملات البسيطة إلى أعلى القرارات؛ والعكس صحيح. وللمرء أن يلاحظ العلاقة بين حركات المقاومة والتحرر الوطني من الاستعمار الخفـيِّ والجليِّ على السواء، وبين تمسك تلك الحركات والحكومات المُقاوِمة بلغتها وهويتها. وهذا المفكر والفيلسوف الأمريكي -اليهودي النشأة- نعوم تشومسكي يصف فـي كتابه «سنة 501، الغزو مستمر» فـي معرض حديثه عن دور الولايات المتحدة فـي المجازر المرتكبة فـي إندونيسيا فـي ستينيات القرن الماضي، وعلاقة الولايات المتحدة بالانقلابات وتغيير نظام الحكم، يقول: «إن الضباب يلف التاريخ السياسي. أمَّا فـيما يخص التاريخ الثقافـي، فإن السجل العلني يعطي بيِّنات كافـية. إن التاريخ الثقافـي هو الأكثر غنى بالمعلومات، نظرا لما يتضمنه على المدى البعيد، فمن ردود الفعل نستنتج دروسا عن المستقبل». وهذا ما سيحدث بعد هذه الموجة العالمية من الوعي تجاه القضية الفلسطينية وواقع الاحتلال. وهذا أيضا ما دفع المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي يطرح مفهوم «القابلية للاستعمار» فـي كتابه المهم «شروط النهضة».
لن تختلف هذه الحرب عن سابقاتها، الاحتلال لن يترك شبرا مما احتله بدون مقاومة فعلية، والتاريخ القديم والحديث يثبتان هذه الحقيقة. أما عن المقاومين وثباتهم، فهم من يعيش فعلا يومه بكل دقائقه وثوانيه بوعي تام ويعيش حياة ذات معنى؛ لأن الإنسان يفعل كل ما بوسعه عند اقترابه من الموت، فكيف بمن يعيش دقائقه مترقبا من أين يأتيه الموت! والثبات لا يكون إلا لصاحب المبدأ، فمن يضحي بروحه لأجل وطنه، لا يبالي متى يموت ما دام ينافح عن أرضه قدر استطاعته. ولربما عاش الواثب المقتحم الأهوال، ولربما مات العاجز الجبان، وهذا ليس من ضرب التشجيع والمجاز، بل هو حقيقة ألم يقل «خالد بن الوليد عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما فـي جسمي موضع شبر إلا وفـيه ضربة أو طعنة أو رمية ؛ ثم هأنذا أموت حتف نفسي كما يموت العَيْر؛ فلا نامت أعين الجبناء»!. وما دام هنالك بصيص أمل، فعلينا جميعا كل حسب وسعه وطاقته ومجاله أن نساند إخوتنا المستضعفـين الذين يتعرضون لكل أصناف الموت والعذاب، أم أن صرخة عثمان ستعود من أقاصي الذاكرة!
فَإِن كُنتُ مَأْكولاً فَكُن خَيرَ آكِلٍ
وَإِلَّا فَأَدرِكني وَلَمّا أُمَزِّقِ