أفكار وآراء

القوة وحدها لا تكفي



لقد انقضى عام كامل على حرب غزة، استشهد عشرات الألوف وانضم إلى صفوفهم مائة ألف أو يزيد من العجزة والمشوهين، ودُمرت المنازل والمؤسسات التعليمية والصحية بقسوة مفرطة، لا لشيء إلا لأن الفلسطينيين قد يئسوا من الحلول الدبلوماسية وسياسات المؤسسات الدولية التي وقفت عاجزة أمام هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على كل سياسات العالم، بما فيها محكمة العدل الدولية، وعاش الفلسطينيون في غزة في ظل أوضاع افتقدت كل الحقوق الإنسانية، ليس في المجال السياسي فقط وإنما في الحصول على أبسط الحقوق الصحية والخدمية والتعليمية في ظل حصار ضُرب على غزة، جعل الحياة فيها أمرا صعبا للغاية، لذا فلم تكن العملية الفدائية الجسورة التي قام بها الفلسطينيون في السابع من أكتوبر العام الماضي إلا تعبيرا عن المأساة الإنسانية التي تجاوزت كل الحدود، وخلال عام كامل عاش سكان غزة مأساة إنسانية لا مثيل لها في التاريخ، وخصوصا تلك القسوة المفرطة التي قام بها جيش الاحتلال تحت أعين وبصر العالم كله، وهو ما دفع بالكثيرين من شعوب العالم إلى التعبير عن غضبهم من ممارسات إسرائيل التي تجاوزت كل المعايير القانونية والأخلاقية.

أعتقد أن ما تعرضت له غزة والشعب الفلسطيني طوال عام كامل يؤكد على سقوط الولايات المتحدة الأمريكية سقوطا مدويا أخلاقيا وسياسيا، وهي الدولة الأكبر في العالم، والتي تسيطر على مقدرات كل الدول بما فيها الدول الغربية التي تراجع دورها تراجعا مخزيا، وبعد أن انكفأت روسيا على مشاكلها وصراعاتها، التي خلقتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي سبق لها أن لعبت دورا أساسيا في الإجهاز على الاتحاد السوفييتي السابق، بعدها فقد العالم ما يمكن تسميته بسياسة التوازن الدولي، بعد أن راحت كل الدول تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القطب الأوحد، وهو ما أحدث خللا هائلا في السياسات الدولية، وخصوصا وقد فقدت كل المنظمات الدولية دورها المنوط بها بعد أن هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية عليها، وهو ما أصاب العالم بحالة من اليأس، ولعل دعم القطب الأوحد للأطماع التوسعية والاستعمارية لإسرائيل يعد نموذجا لحالة الخلل التي أصابت العالم كله في ظل غياب قطب آخر يملك إقامة سياسية التوازن الدولي.

تعد الحرب على غزة وقتل سكانها وتدمير منازلها ومنشآتها تحت أعين وبصر العالم بمثابة فضيحة إنسانية سوف يتوقف المؤرخون والمحللون السياسيون عندها كثيرا، وسوف تكون عنوانا كبيرا لتغول إسرائيل وتآمر الولايات المتحدة معها بحكم أنها من صنع سياساتها ودعمها ماليا وسياسيا وإعلاميا، بعد أن تأكد العالم كله بأن إسرائيل هي إحدى الولايات الأمريكية، بل لعلني لا أبالغ إذا قلت إنها أهم ولاية أمريكية، لدرجة أن رئيس الولايات المتحدة ووزير خارجيتها لا يشعران بالخجل وهما يصرحان كل يوم بأن الحرب على غزة هي حرب مشروعة، وفي تصريحات كثيرة متناقضة يقولان بأن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى بكل جهدها لإقناع إسرائيل بوقف الحرب، لكنهما لا يصرحان أبدا عن ماذا يحدث في اليوم التالي لوقف الحرب؟ وماذا عن إقامة دولتين متجاورتين إحداهما فلسطينية على حدود ١٩٦٧، لقد سقطت الولايات المتحدة الأمريكية وتهاوت مصداقيتها بل وتأكد تآمرها وانكشف دورها الحقيقي كراعية للعنف والدمار، ليس في غزة فقط وإنما في كثير من بقاع العالم.

إذا كان قد مضى عام بالكامل على تدمير كل وسائل الحياة في غزة، إلا أن العام الجديد يشهد حربا أخرى امتدت إلى لبنان، وقد راحت الطائرات تلقي بالصواريخ المدمرة التي أودت بحياة عشرات الألوف، وتدمر المنازل وتقضي على كل وسائل الحياة من أقصى جنوب لبنان حتى جنوب بيروت، ولا تشعر الولايات المتحدة الأمريكية بالخجل وهي تدعم ضرب العاصمة اللبنانية بيروت بالصواريخ، وقد راحت إسرائيل تأتي على الحجر والشجر والبشر، مستخدمة صواريخها المدمرة التي يصل تأثيرها إلى عشرات الأمتار تحت الأرض، وهي الصواريخ ذاتها التي استخدمها الإسرائيليون في غزة، ولا أعتقد أن أخلاقيات الحروب تقر بهذا العنف والدمار، فضلا عن القوانين الإنسانية والشرائع الدينية، وعلى المستوى الشخصي فإنني أشعر بالخجل والعار، فلم يخرج من عواصمنا العربية بيان يندد بما يحدث في لبنان، لذا فأنا أشعر بأن بعض دولنا العربية سعيدة ومنتشية بما يحدث في لبنان الجريحة.

يخرج علينا كل يوم في الفضائيات منظرون وسياسيون وإعلاميون من أقطارنا العربية وهم يلقون باللائمة على المقاومين في غزة وجنوب لبنان وقد حملوهم مسؤولية هذا الدمار، ودائما ما يسأل بعضهم عن النتائج التي حققتها هذه الحرب؟ وماذا كسبت القضية الفلسطينية؟ يقول بعضهم إن السياسة كانت كفيلة بتجنب الحرب، وأن مسار أوسلو كان يمكن البناء عليه في إقامة الدولة الفلسطينية! يتحدث بعضهم عن الخلل في موازين القوى ما بين إسرائيل والمقاومة سواء في غزة أو لبنان أو حتى اليمن، ويسخرون مما أسموه بالسياسة الطائشة المراهقة التي كانت وراء هجوم ٧ أكتوبر، وأنا على ثقة بأن هؤلاء جميعا ينطقون بلسان أسيادهم الذين وظفوهم ليكونوا خداما لسياساتهم، وهو أمر يتعلق بصراعات إقليمية كامنة لا يجرأون على الإفصاح عنها. ولو كان هذا المنطق المتخاذل هو الذي حرصت عليه كل شعوب العالم التي ناضلت في سبيل حريتها لكانت عشرات الدول ما تزال قابعة تحت الاحتلال، لم يلتفت هؤلاء جميعا إلى أن كل حركات التحرر في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا جميعها قد واجهت جيوشا نظامية وقوى كبرى كانت ملء السمع والبصر، لكن كان إصرار هذه الشعوب على المقاومة سببا رئيسا في تحرير هذه الأوطان، فمثل هذه الحروب لا تكون بين جيشين نظاميين وإنما ما بين قوى مقاومة وأخرى تملك كل الإمكانات، ورغم ذلك فقد حصلت هذه الشعوب على حريتها، والحديث الذي يقوله هؤلاء لا يدعو إلى إنصاف الشعوب المغلوب على أمرها وإنما هي رسائل تدعو إلى الاستسلام والاعتراف بحق المعتدي في الحصول على حق لا يستحقه.

يسأل البعض ماذا جنى الفلسطينيون من حرب طالت عاما كاملا؟ استشهد من أجلها عشرات الألوف ودُمرت غزة وبنيتها الأساسية؟ هي حسابات خاطئة لأن حروب التحرير في كل العالم ظلت متواصلة عشرات السنوات، وأحيانا أكثر من ذلك، والعبرة في النهاية بالنتائج وسيبقى الرهان دائما على صمود الفلسطينيين وتضحياتهم، والصمود ليس في الجانب العسكري فقط وإنما في الشق السياسي، وعلى إخواننا الفلسطينيين في الضفة والقطاع أن يعودوا إلى وحدتهم وتنظيم صفوفهم والعمل على سياسات جديدة، بعد أن تبين لنا أن الخطأ الكبير في الحرب الفلسطينية هو افتقاد الوحدة على المستويين السياسي والعسكري، وستظل هي العقبة الأكبر في سبيل استعادة الدولة الفلسطينية، وهو خطأ لا يمكن تجاوزه إلا بحوار فلسطيني فلسطيني، عندئذ يمكن أن يتحقق حلم الفلسطينيين بإقامة دولتهم الفلسطينية على حدود ١٩٦٧، ساعتها سيتأكد الصهاينة وداعموهم الأمريكان أن القوة الغاشمة وحدها لن تحسم الصراع.