أعمدة

حفل تنكّري صُنع في الصين

حين وصلنا دار الأوبرا السلطانية مسقط لحضور العرض الأوبرالي (الحفل التنكّري)، لجوزيبي فـيردي، سرنا على البساط الأحمر، حتى بلغنا الباب الرئيس لمبنى الأوبرا، وسرعان ما وزّع العاملون فـي الاستقبال علينا أقنعة صينية، مع مجموعة من الابتسامات، فاعتبرنا الأمر لمسة لطيفة، وظريفة من صنّاع العرض، لكننا تحسّسنا أقنعتنا جيّدا، حين بلغنا الفصل الثالث من العرض الذي افتتحت به الدار موسمها الجديد 2024/ 2025م، وقد اعتادت على تقديم عروض أوبرالية كبيرة فـي افتتاح مواسمها، حينئذ، عرفنا لماذا وزّعت علينا الأقنعة، فمخرج العرض الذي قدّمه المركز الوطني لفنون الأداء فـي بكين للمرّة الأولى فـي سلطنة عمان، أراد أن يشرك الجمهور به، ليكون شاهدا على اغتيال الملك جوستاف الثالث، خلال الحفل التنكري، الذي دعا إليه، فحملت هذه المفردة الفنية العديد من الدلالات، فكان افتتاحا موفقا لا سيما وقد توفّرت فـيه كافة عناصر النجاح، فالعرض وضع موسيقاه الموسيقار الإيطالي جزيبي فـيردي (1813-1864م) الذي وضع أوبرا عايدة، ولا ترافـياتا وريغوليتو، وكتب نصه الأوبرالي أنطونيو سوما (1809-1864) ورغم أن أول عرض من الأوبرا جرى تقديمه للمرة الأولى فـي روما فـي 17فبراير 1859م، لكنه لا يزال يحقق نتائج باهرة عند عرضه للجمهور فـي كل مكان، ربما بفضل موسيقاه الساحرة، والحبكة العالية التي جعلت الجمهور يتابع الأحداث ونموّها بشكل استحوذ على اهتمام الجمهور من بداية العرض حتى نهايته عبر مشاهد جمعت بين مشاعر الحب، والكراهية، والوفاء والانتقام، الذي ينتهي بندم.

وخلال مشاهدتي العرض استحضرت التراجيديا الشكسبيرية «يوليوس قيصر» حيث تتشابه الأحداث فـي مناطق كثيرة، وخصوصا نبوءة العرافة بمقتل الملك جوستاف الثالث على يد صديق مقرّب له، وهنا استحضرت (بروتس) ومقولة القيصر الشهيرة «حتى أنت يا بروتس؟ إذن ليمت القيصر» وهي النبوءة التي سخر منها الملك، خصوصا حين أعطته علامة وهي أن اليد التي ستغدر به هي يد أول إنسان ويصافحه، وكان صديقه المقرّب أنكارستروم المعادل لبروتس فـي (يوليوس قيصر) النص الشكسبيري الخالد وهو الأكثر ولاء له، ولم يأخذ الملك جوستاف الثالث نبوءة العرّافة على محمل الجد، لكن الخط الثاني من العرض، وهو الذي أخذ مسارا مختلفا عن يوليوس قيصر، جعل ولاء أنكارستروم للملك يتغيّر، فالملك يحب أميليا وهي تبادله الحب رغم أنها زوجة صديقه أنكارستروم، وكلاهما يكتم مشاعره، فالطريق الذي يسير به العشيقان مسدود، لكنهما فـي النهاية يبوحان بها، لبعضهما، وحين يلتقيان فـي منطقة مهجورة كانت أميليا قد قصدتها بحثا عن عشبة تجعلها تتحرّر من عشقها للملك، كما نصحتها العرافة، وهنا تحدث المفاجأة وينكشف السر المخبوء فـي القلوب، ويدخل أنكارستروم فـي دوامة من المشاعر المتضاربة، ويقرر الانتقام لشرفه، من الملك فـيساند أعداءه، ويقتل صديقه الملك عندما دعاه لحضور الحفل التنكري، وحين يطلق عليه النار، يقول للحضور إن حبه لأميليا كان طاهرا، بدليل أن آخر قرار له كان إبعاد أنكارستروم عن أستوكهولم التي تدور فـيها الأحداث وهذا يجعل زوجته أميليا تبتعد عنه، لكن الأوان كان قد فات ولم تبق سوى مشاعر الندم تعصر قلب أنكارستروم ليسدل الستار.

الشيء المبهر فـي العرض الديكورات الفخمة وتصميم الإضاءة وحركة المجاميع وكلها عناصر أضفت جمالا على العرض، وباجتماع هذه العناصر تمكّن المخرج من رسم مشاهد بصرية ساحرة، زاد من ذلك الأداء المؤثر والأصوات الآسرة المنسجمة مع الموسيقى الحية التي جعلت الحضور أكثر اندماجا مع الأحداث التي تجري أمامه على خشبة المسرح.

ولعل من ميزات العرض هذا الفضاء الإنساني الشاسع الذي تحرّك به، فقد اجتمعت بهذا العرض عدة جهات وأفراد من مختلف الجنسيات، فالمركز الذي قدّمه صيني والمكان دار أوبرا عمانية، والمخرج هوجو دي آنا أرجنتيني، وقائد الأوكسترا جيامبا ولو بيزانتي من إيطاليا بلد المؤلف الموسيقي جزيبي فـيردي، والسوبرانو إيلينا ستيخينا التي أدت دور أميليا روسية، إلى جانب جنسيات أخرى عديدة اشتركت بهذا العرض الذي كان حفلا ممتعا رغم نهايته التراجيدية.

عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب عماني