ثقافة

إمتاعات «التوحيدي» ومؤانساته!

 
(1)

...أستكمل الحديث عن أبي حيان التوحيدي، أعظم كُتّاب النثر العربي على الإطلاق، وفقًا لما يراه العديد من مؤرخي الأدب والثقافة العربية، وأتوقف عند بعض أعماله لأهميتها الأسلوبية والمعرفية معًا.

هناك عملان رائعان صدرا في القاهرة عامي 1995 و1996 على التوالي، جمعا ووثّقا ما دار من وقائع وأحداث وتفاصيل في الاحتفالية الضخمة التي نظّمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة للاحتفاء بمرور ألف عام على رحيل أبي حيان التوحيدي، مثقف القرن الرابع الهجري، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تحتفي فيها «القاهرة» بألفية أحد أعلام الفكر والأدب والتراث العربي؛ فقد سبق أن احتفت بألفية أبي العلاء المعري، حيث صدر في إطار هذا الاحتفال الكتاب القيّم بعنوان «تعريف القدماء بأبي العلاء» بإشراف وتحرير طه حسين، واحتفت كذلك، واحتفى معها المثقفون العرب جميعًا، بألفية ابن سينا، وأبي نصر الفارابي، وأبي الطيب المتنبي، وغيرهم.

لكن ظلّت احتفالية أبي حيان التوحيدي وألفيته حدثًا فريدًا آنذاك، لأنها ربما كانت الحشد الأكبر في تاريخ التجمعات الثقافية العربية في ذلك الوقت، فضلًا عن الإنتاج المعرفي والبحثي الغزير الذي رافق وقائع الاحتفال بالألفية..

وكان من النتائج المباشرة لهذا النشاط المعرفي والثقافي المحمود إعادة نشر كتب أبي حيان وإعادة طباعتها، والبحث عن المخطوط منها لتحقيقه ونشره. ومن هنا، تتالت طبعات رائعة مصورة من أعماله، منها ما صدر في القاهرة، ومنها ما صدر في بيروت، ومنها ما صدر في الكويت والمغرب وغيرهما.

(2)

من بين أهم الكتب التي أُعيدت طباعتها لأبي حيان التوحيدي الكتب التالية:

- «المقابسات»، الذي صدر عن دار سعاد الصباح في تسعينيات القرن الماضي، بتحقيق حسن السندوبي، وهي نسخة مصورة عن الطبعة المصرية الأولى.

- «الإشارات الإلهية»، بتحقيق عبد الرحمن بدوي، وقد أعاد المرحوم جمال الغيطاني نشر طبعة مصورة عن هذه النسخة في سلسلة «الذخائر» التي كانت تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

- وأخيرًا يأتي كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، الذي صدرت طبعته الأولى عن لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1948، باعتناء وتحقيق أحمد أمين وأحمد الزين. وهو الكتاب الأكثر شهرة وطباعة ونشرًا من بين أعمال التوحيدي جميعًا، إذ يكاد يكون درة التاج بين أعماله، بأجزائه الثلاثة ولياليه المؤنسة، ومنهجه القائم على الاختيار والانتقاء والانتقال الحر والتجوال بين فنون المعارف والآداب والعلوم، فكأن التوحيدي أراد بكتابه هذا أن يمثل تمثيلًا دقيقًا الحالة المعرفية والثقافية والحضارية التي وصلت إليها الثقافة العربية في انفتاحها على الثقافات الأخرى غير العربية، أحسن تمثيل وأدقه وأصدقه.

(3)

وكل من قرأ شيئًا عن سيرة أبي حيان التوحيدي أو اتصل بكتبه ومؤلفاته لأي سببٍ كان، يعلم قصة إحراقه لكتبه في فعل احتجاجي عارم، حيث سجل وقائعه وقدّم «تأويله» في واحد من أعمق نصوصه وأكثرها دلالة على حالة الانقسام والتشظي والاغتراب التي عاناها مثقف القرن الرابع الهجري في المشرق العربي (وتحديدًا في بلاد الرافدين). ولعلها ألقت بظلالها أيضًا على مثقف القرن الخامس في المغرب والأندلس، كما عاينها ابن رشد الفيلسوف في محنته الشهيرة، إذ تعرض لفعل اعتراض ومناوأة عكسي، فحرقت كتبه وأعماله أمامه وأمام أفراد أسرته وتلاميذه!

ومن حسن حظنا وحظ أبناء الثقافة العربية، من عصر أبي حيان التوحيدي وحتى عصرنا الحالي، أن أبا حيان عندما أحرق كتبه، لم يحرق إلا ما تأخر زمنه منها وفق ما أفادتنا المصادر التاريخية وكتب الطبقات والتراجم، أي ما كتبه فقط في العشرين عامًا الأخيرة من عمره.

أما كتبه الأخرى، الرائعة والممتعة والمهمة، فقد حفظها لنا الرواة وتناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، حتى بقيت صفحاتها لتجيب لنا عن سؤال نلقيه ونحاول أن نجيب عنه: ما أكثر الأدباء والكتّاب والشعراء والمثقفين الذين كانوا يشعرون أو يستشعرون في أواسط العمر أو أخرياته، أو حين يحسون بدنو الأجل، أن سعيهم كله كان عبثًا في عبث! ويتمنون لو عاد بهم العمر إلى الوراء -أو إلى بدئه بلغة صلاح عبد الصبور- لاختاروا لهم نهجًا مختلفًا وسبيلًا مفارقًا!

(4)

وكان كتاب «الإمتاع والمؤانسة» من بين ما نجا من محرقة التوحيدي لكتبه، وهو كتاب لا أظن أنه يتفق أو يتقاطع مع كتاب سبقه بمادته وطريقته وصياغته، وإن كان المؤلفون من بعده يحاولون احتذاء خطاه وتقليد مساره، إلا أن واحدًا منهم لم يبلغ مبلغ الإمتاع في «الإمتاع»، و«المؤانسة» الفكرية والمعرفية والجمالية لمن يبحث عنها بإرادة حرة.

ويخبرنا صلاح عبد الصبور في مراجعته الممتازة عن أبي حيان التوحيدي أن كتبه في مجملها، أو أغلبها، أو معظمها، شبيهة بما نطلق عليه الآن «اليوميات»، وفيها كثير من أدب البوح والاعتراف وحديث النفس للنفس، وخير مثال على هذا كتابه الرائع «الإمتاع والمؤانسة».

هذا الكتاب، في مجمله وكما رسم ملامحه ووضع خطته مؤلفه التوحيدي، هو ثمرة أربعين ليلة كاملة (أي شهر بتمامه وزيد عليه عشرة أيام) من السمر والنظر والمحاورة والمناظرة، كان فيها أبو حيان هو الطرف الفائض بالمعرفة، والناقل لها، والمتحدث باسمها، إذ كان ينادم أحد الوزراء ويفيده ويغذيه بجواهر الأدب وثمار الفكر وطريف المسائل، إلخ. بالإضافة إلى القيمة الأدبية والأسلوبية والجمالية الكبرى للكتاب، فإنه ينفرد أيضًا بنوادر لم يذكرها غيره، كما يكشف التوحيدي، عبر امتداد أجزاء كتابه الثلاثة، عن بعض جوانب الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية لتلك الأيام.

إن السياق الذي ظهر فيه هذا الكتاب (وبقية كتبه أيضًا)، والطريقة التي تألف بها، والبنية التي وضع عليها، تدلنا جميعها في النهاية على شيء من هيكل أبي حيان التوحيدي النفسي، وتكوينه المعرفي، وأزمته الوجودية الكبرى التي تجلت في كتبه وأعماله كما لم تتجل في كتب ومؤلفات عشرات المؤلفين في التراث العربي عبر العصور.

(5)

عن هذا التكوين النفسي المضطرب المتوتر القلق، يقول صلاح عبد الصبور إن هيكل أبي حيان التوحيدي النفسي ليس غريبًا عن هياكل وتكوينات غيره من المثقفين العرب والمسلمين في التراث العربي، أو كما ألفتها الحضارة العربية في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ذلك أن دأب المثقفين في ذلك الزمان كان يقوم على المنادمة والمصاحبة والانضواء تحت راية أمير من الأمراء أو وزير من الوزراء!

فقد كان دأب المثقفين إذا آنس الواحد منهم في نفسه نبوغًا وتميزًا أن يسعى إلى بلاط أمير أو وزير، ويقيد نفسه بخدمته، إما مادحًا أو نديمًا (راجع على سبيل المثال سيرة أبي الطيب المتنبي مع سيف الدولة الحمداني)، وكان أبو حيان التوحيدي كذلك بدوره! فبمجرد أن استشعر تميزه واستوثق من موهبته وقدراته، بدأ رحلة البحث عن أمير أو وزير، فألقته بلاطات إلى بلاطات، ورمته حاشية إلى أخرى، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من فقر وبؤس وفاقة وشكوى، وفي الوقت ذاته كتب أبدع نصوصه وأعمقها، وأكثرها تعددًا في مستويات التلقي والدلالة والتأويل، بحسب دراسات المعاصرين والمتخصصين في أدب أبي حيان وفكره.

تشرّد أبو حيان التوحيدي، وعانى الفقر والذل، وخرج من قصر الصاحب إلى قصر ابن العميد، ولم يحظ أبدًا بما كانت تتوق إليه نفسه، عاش وسط الصعاليك والشحاذين والمكدين والمتسولين، وفشلت جميع محاولاته للارتزاق والوصول إلى تخوم الكرامة والكفاية في مجتمع القرن الرابع الهجري، دون جدوى!

(وما زال للحديث بقية)