أفكار وآراء

يوميات على هامش الحرب



الاثنين...

منذ أشهر والكاتب يحاول أن يكتب شيئا تجاه هذه الحرب، تجاه كلّ هذا الموت. لا ينجح أبدا. ربما هو الخوف، الخوف من شهوانية الكلمات التي تتعارض مع اللحظة التي يعيشها. لكنه ينسى أن الخوف هذا، هو أمر شهواني بدوره؛ تماما كما يمكن أن يكون الخوف من الموت مميتا.

ثمة قلق يغزو الآن، الكاتب، الذي يجلس إلى طاولتي، مكاني، ويكتب هذه اليوميات.

الثلاثاء...

يحاول الكاتب أن ينظر إلى وجهه فـي هذه الصبيحة؛ لا يزل قلبه ينبض، عيناه تريان، أطرافه تتحرك، قدماه تمشيان. يأكل ويشرب ويصلي ويتنفس. لكنه يشعر بأن دماءه تجمدت، ويده ذبلت، وقلبه فارغ. لم يعد ذاك الكاتب الذي كان عليه، بل اكتشف أن ما تبقى منه أجزاء متناثرة، أعيد تركيبها بلاصق. ما كان عليه، هو حياة. ما أصبحه الآن، يبدو موتا لا يعرف تحديد كنهه.

الأربعاء...

بدا الكاتب اليوم كما لو كان هناك شيء يبكي فـي داخله، مع أنه لم يكن هو نفسه من يَذرف الدموع. لم ينسب منه أي شيء. ثمة همس رطب نشأ من داخل جسده، كما لو أن نفخة الدم غير المسموعة التي تتدفق عبر الجسد أصبحت محسوسة. هل كان هذا صوت قلبه؟ أكان ذلك ارتعاش جسده الداخلي أم ارتعاش جلده؟

فـي كثير من الأحيان، نحن لا نموت من أحزاننا، أو من كآبتنا، أو فشلنا، أو خجلنا. نحن لا نموت أبدا عندما نريد. نستيقظ مع صراخنا الداخلي، نبدو أكبر سنًا وأثقل قليلا، ونثابر قدر استطاعتنا؛ نستخدم الخداع قدر الإمكان لتقويم قلبنا المنحرف. ونقول لأنفسنا أن الأمر سيكون على ما يرام إذا لم نتمكن من إعلان أنه على ما يرام. نحن نجمع بين الحاضر والمستقبل غير المحدد.

الخميس...

يعلم الكاتب جيدا أنه لا يمكن القضاء على العنف من على وجه الأرض؛ يعلم أنه أينما يعيش الناس جنبًا إلى جنب، سوف ينفصل الإنسان عن الإنسان بسبب صراع تكون فـيه القوة هي القضية. لذا اقتنع أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، ولا يمكن له تجنب أي شرّ؛ نحن نستمع إليه فقط عندما يُمجد العالم، ولكن ليس عندما يمثله كما هو. الكذب وحده يجلب المجد لا المعرفة.

الجمعة...

منذ أن أغلق باب هذه الغرفة خلفه، شعر الكاتب بشيء لا يمكن تحديده، شيء يتبعه ويخيفه. كان فـيه شيء لا يستطيع أن يحدده أكثر من أن يرفضه. شيء غائم، مثل الضباب العنيد، لكنه مع ذلك شفاف. وكان هذا الشيء يتبعه، يثقل كل حركاته، وينزلق بين عينيه وكل ما نظر إليه. هكذا يقضي الكاتب عزلته فـي هذه الغرفة، ويشكل صداقات مع الذين غادروا قرب المقابر، يشكل صداقات صامتة مع هذه الشجرة أو تلك، يلتقي بقطة فـي الشارع أو خروف على حافة مرج، ينسج صداقات عابرة مع السحب، وهمسات الينابيع، وروائح الأرض، مع الرياح. أجمل الصداقات التي تزدهر فـي تلك اللحظة.

السبت...

قال الكاتب: من ينجو من الحياة يرتكب دائمًا نوعًا من الخيانة... كان يعني أنه عندما ينجو المرء من كائن كان مرتبطًا به ارتباطًا وثيقًا. لذا أمضى صبيحته، بعيدا عن نشرات الأخبار. كان يستمع إلى الموسيقى بجسده. امتصها وكأنه شخص عطشان. كان يستمع إليها كما يستمع السجين إلى صوت خطى تقترب، ربما تحمل معها خبر الخلاص. لم يعد يسمع أي شيء آخر، اختفى كل شيء، لقد امتصته الموسيقى.

وفـي ذلك كله، أدرك أنه تحت ارتباك العالم الخارجي يسود نظام داخلي عميق، نظام منطقي مبهر مثل نظام التأليف الموسيقي. لقد وصل مصيرنا إلى مرحلة النضج، لقد أزهر، وكشف لنا، مثل الفاكهة السامة، جماله الخانق.

علينا أن نعترف بأن الأشخاص الذين نحبهم لم يتناسبوا مع حبنا بالطريقة التي كنّا نأملها. يجب علينا أن نتحمل الخيانة وعدم الإخلاص. كما يجب علينا أيضًا - وهو أصعب شيء فـي العالم - أن نعرف كيف نعترف بأن الآخرين يتفوقون علينا فـي شخصياتهم وذكائهم.

الأحد...

نادرا ما ينظر الكاتب إلى واجهات المباني التي أمام شرفته فـي النهار، إلا أنه فـي المساء، وما إن تضاء النوافذ، حتى ينظر إليها بفضول، بجشع. كل هذه المستطيلات من الضوء التي تنفتح فـي الظلام تجعله فـي حالة اضطراب؛ إنها تثقب الليل وتحفر الحجر والطوب والباطون، وتكشف عن حميمية . إنها لا تكشف شيئا، بل تقترح أمرا بالأحرى، تجعله يحلم، يتخيل. إذ إنها تسمح له بإلقاء نظرة على كائنات أخرى مماثلة وغير معروفة، كائنات ستبقى مجهولة بالنسبة إليه على الرغم من أنها معاصرة له، تشبهه، من مواطني هذه الجمهورية السعيدة. كائنات قريبة جدًا، ومع ذلك لا يمكن الوصول إليه. إنها تشير فقط إلى أن هناك مصائر أخرى محتملة.

الاثنين...

يحاول الكاتب أن يكتب: لم يعرفا ماذا يفعلان، كأنهما استنفدا الحياة المشتركة بشكل آلي، استنفدا كلّ احتياجات التجربة الأساسية التي يتقاسمها رجل وامرأة. قررا أن يقوما بما كان يفعله الناس فـي الزمن الماضي، حين لا يجدان أمامهما أي شيء. قررا أن يشاهدا فـيلما ولكن بما أنه الخروج من المنزل غير مضمون بسبب كل هذا القصف الذي يحيط بهما، أدركا أنهما لن يستطيعا الخروج من المنزل، لن يذهبا إلى صالة سينما مثلا. جلسا أمام شاشة التلفزيون ليبحثا عن فـيلم تعرضه إحدى الفضائيات. ما كادت تمضي دقائق حتى غفا على ركبتيها. تركته ينام على الكنبة، لتشعل جهازها المحمول وتبدأ بمشاهدة مسلسلاتها على «النت فليكس». وربما لتتحدث مع شخص تتخيله بين مشهدين.