أعمدة

بيروت بيت القصيد



تُقْصَف بيروت اليوم، ويُهجَّر أناسُها، يموت أطفالها، وتُشرَّد نساؤها، على مرأى ومسمع من العالم، ومباركة بالصمت أو بالقول من عامّة الكون. ولكن بيروت تصنَع من دمارها دثارا من الأدب، كلّ رصاصة تُطلق منها هي قصيدة أو رواية، وقد أرَّخ التاريخ لبنان وبيروت، ولم يحفظ الأدب مدن الغُزاة ودماءهم السائلة من أفواههم، كيف تتحوّل لبنان مع كلّ حرب إلى حرف، تنقلب القنابل وأصداء الرصاص والدمار إلى قصائد وأشعار، إلى حكايات تُقَصُ ويُبْقيها التاريخ البشريّ شاهدا على بطش المجرم الإسرائيليّ وعلى أنيابه الملطَّخة بدماء البشر. أكتب اليوم بيروت، وهي فـي ذهن كلّ عربيّ مرجع للفنّ وللأدب وللعلم وللنشر وللكتب. لا يقصف الكيان الصهيونيّ الدمويّ مدينةً عاديّة اليوم، ولا يُقتّلُ بشرا عربيّا طالما قتَّله وأسال دماءه، وإنّما هو يعمل على أن يقتل فـينا صلتنا المرجعيّة بالفنّ والأدب، وأن يَهرق دماءً زكيّة، سُرعان ما تتحوّل إلى ألحانٍ وأشجانٍ وألوانٍ وأعمالٍ فنيّة راسخة. مرّت على لبنان حروبٌ ومحن وإحنٌ كان الكيان الإسرائيلي صاحب المجازر الكبرى فـيها، وعاد المغتصب خائبا وإن قتَّل آلاف البشر، وخرجت لبنان بباقات من زهور البقاء والتخليد، بأشعارٍ تتغنَّى بها، بروايات تُبقيها حيّة وحييَّة. هل كان يمكن أن تتحوّل مدينة إلى مرجع عربيّ فـي الرواية والمسرح والشعر؟ نعم بيروت هي المدينة العربيّة الوحيدة التي أعلت الشعراء ورفعت الحكّائين، هي المدينة المنكفئة على جروحها، على جروحنا التي كلّما مزّقها العُداة عادت فتيّة بهيّة حييّة، هي طائر المينرفا الذي يُجمِّع رماده كلّما احترق ليطير عند الغسق من جديد.

مدينةٌ يموت النّاسُ فـيها كلّ حربٍ، وهي على مساحتها الصغيرة، عُقدةٌ للمغتَصِب، فبهاؤها لا يذبل، وألقها لا يخبو، وعطاؤها لا ينقطع، من أين أبدأ عرض ما قيل فـي هذه المدينة، وكيف صارت معنى للشعر، وحكايةً لا ينضبُ ماؤها، من أين أبدأ سيرة مدينة شَعرنها الشعراء وسرّدها القصّاصون؟ من جميل صدقي الزهاوي الذي تغنّى بالأرض وأناسها، وأُخذ بمدينةٍ سكنت وجدانه، وفرّخت فـي خياله، فصرف إليها خياله ومعانيه، فقال فـيها:

يممت بيروت بعد الشام فـي سفري/ أجلو بأوجه أمجادٍ بها بصري/ شاهدت من أَهلها الأجواد عارفة/ ما شاهدت مثلها عيناي فـي عمُري. أو أبدأ من ذواتٍ شعريّةٍ خلّدت بيروت العشق، بيروت الحبّ والحياة، نزار قبّاني الذي كانت بيروت نجمته وعلّته فـي الآن ذاته، هي الحياة بنعيمها وفنّها وبهجتها، وهي الشعر فـي انسيابه وسلاسته، وهي الموت الكامن فـي الأثناء، إذ فـيها قُبرت زوجته، التي رثاها بأروع مرثيّة عربيّة فـي العصر الحديث، يقول مبرِّئا بيروت من ذنب قتلها، ومُعمّقا صورة المدينة العشق: بيروتُ التي قَتَلَتْكِ.. لا تدري جريمتَها/ وبيروتُ التي عَشقَتْكِ/ تجهلُ أنّها قَتَلَتْ عشيقتَها/ وأطفأتِ القَمَرْ.

كلّ مدينة فـي الكون تحسد بيروت على كمِّ الشعر الهائل التي قيل فـي عشقها، وفـي حربها وفـي سلمها، فـي ألمها وفـي أملها، فـي سوادها وفـي ضيائها، فـي ذبولها وفـي يناعتها، أخيرا، محمود درويش يُخلِّد بيروت على طريقته، يُحوّلها نجمةً، ويتغنّى بها حصنا حصينا وملاذًا يأوي القصيدة، لطالما كانت بيروت ظلّ الشعر العربيّ، ومسكن الشاعر العربيّ، وقلب المقاوم العربيّ، وضمير الحريّة ورفض الجور والظلم، لطالما كانت بيروت بيت القصيدة، تحمل الشاعر العربيّ فـي أحضانها، ويحملها الشاعر العربيّ فـي وجدانه.

لم تخن بيروت الضمير العربيّ الشاعر وإن خان الجميعُ وأعْرَضوا، ولذلك تحوّلت خيمة ونجمةً، هي خالدة ما بقي البشر، فـي شعر درويش الذي صاغها قصيدةً لا تمَّحي آثارها، ولا تبلى بمرور الزمن، حوَّلها كلمات تحلّق عبر الأزمان، تعبر الأفئدة والوجدان، تطير بأجنحة الشعر وتخرق قياس الزمان وتطوي المكان، «قصيدة بيروت»، صدى لأثر البقاء، لمدينةٍ يتمنَّى الغاصب أن تُمحى من الأرض، فهل يقدر أن يمحوها من الوجدان ومن الأدب؟ ما أعجز الكيان الغاصب، فليست له فـي أدبه قصيدة تُضارع قصيدة بيروت، وليست له مدينة هي بيت الشعر والشعراء، يقول درويش فـي المدينة التي كلّما تدمّرت مبانيها أُقيمت معانيها تناطِح السَّحاب: «خلسةً: نُنشدُ/ بيروتُ خيمتُنا/ بيروتُ نَجْمتُنا/ ونافذةٌ تطلٌّ على رصاص البحرِ/ يسرقنا جميعا شارعٌ ومُوَشَّحٌ/ بيروتُ شكل الظلِّ/ أجملُ من قصيدتها وأسهلُ من كلام الناس/ تُغرينا بألف بدايةٍ مفتوحة وبأبجدياتٍ جديدة:/ بيروتُ خيمتُنا الوحيدة/ بيروتُ نجمتُنا الوحيدة/ هل تمدَّدنا على صفصافها لنقيس أجسادًا محاها البحر عن أجسادنا جئنا إلى بيروت من أسمائنا الأولى». فعلا الشعراء أمراء الكلام -على قول الخليل بن أحمد- ولهم الاستطاعة والقدرة على تحويل التخليد، وقد فعلت فـيهم بيروت فعلها بسحرها وألقها وبهائها، هل كان للعدوّ الإسرائيليّ الغاصب قصيدة؟ هل كانت له أغنية؟ تتغنّى ببيروت بحجم فـيروز التي توحّدت مع القصيدة، وأصبحت زهرة المكان وجنّته، وصارت هي بيروت، يسري المكان فـي دمها، ومن ورائها دماء آل الرحباني الذين آمنوا ببيروت الحبّ والحياة، وغلّبوا صورتها تلك، على صورة الدمار والتقتيل.

لا يعرف الكيان الإسرائيلي معنى المكان الشعري، المكان النغميّ، المكان الفنّ، وكيف يعرف رائحة الفنّ ما امتلأت خياشيمه بروائح الدماء وأكل جيف البشر، كيف يشعر بالقصيدة من يقف على أشلاء الأطفال والنساء متباهيا بالنصر على من لا حول له ولا قوّة، ستقاومهم القصيدة، يقتلهم الفنّ، ويحوّلهم جيفا نتنة وهم أحياء، سيُبْقي الفنّ حافظا لذاكرة البشر، حافظا لبيروت الصبيّة البهيّة، ولأورشليم الوحش النابي الدموي. ليس الشعر هو الوجه الوحيد الصانع من آلام بيروت خلودا وفنًّا، بل يتعدّى الأمر ذلك إلى المسرح والموسيقى والأعمال التشكيليّة والمنحوتات والأعمال السينمائيّة، ومختلف الفنون والآداب.

وقد جمع الشاعر اللبناني شوقي بزيغ أنطولوجيا لم تكتمل عن «بيروت فـي قصائد الشعراء، دراسة ومختارات»، جمّع فـيها بعضًا ممّا قيل فـي بيروت من شعر الشعراء، وقد قال فـي كتابه «قلَّ أن حظيت مدينة من المدن بما حظيت به بيروت من اهتمام الشعراء والكُتّاب والفنّانين على امتداد الحقب والعصور، ولم يكن ذلك بسبب اتِّساع المدينة وضخامة حجمها السُكَّانيّ، وهي المتواضعة بالقياس إلى مدن العالم الكبرى، بل بسبب تضافر التاريخ بل بسبب تضافر التاريخ والجغرافـيا على إعطائها دورًا يفوق حجمها الفعلي، وبسبب إسهامها المستمر فـي البحث عن أفق مغاير لعلاقة المدينة بالإنسان والعالم. فهي منذ وجودها قبل آلاف الأعوام لم تكن أبدًا مدينة نهائية ومستقرة على حال، بل كانت رجراجة ومتحوّلة لا تمنح سكانها ولا زوارها طمأنينة الركون إلى فكرة أو معنى بقدر ما تضعهم فـي مهب القلق وعاصفة التساؤلات.

كأنها مدينة قيد الإنجاز وعاصمة لا تكف عن إعادة تأسيس نفسها كلما أنهكها فاتح أو عصف بوجودها زلزال»، وقس على ذلك تناول بيروت فـي الرواية والقصّة العربيّة، وهي المدينة التي تجاوزت ساكنيها ليكتبها كلّ عربيّ زارها أو آمن بقضايا الوطن، منهم صنع اللّه إبراهيم فـي روايته «بيروت بيروت»، وهو يوثّق جرائم بني إسرائيل، ومهم حنان الشيخ وهي تروي «حكاية زهرة»، ومنهم غادة السمّان فـي «بيروت 75» والقائمة تطول والمعاني تتوزّع.

بابُ بيروت فـي الفنّ مُشّرّعٌ وقائمٌ على أرضيَّة بيروت عقدة بني صهيون. اليوم وهم يدمّرون بيروت، ويقتلون أناسها، وحيوانها وشجرها وحجرها، تذكّرت بيروت السبعينيّات والثمانينيّات والألفـين، وكيف نهضت من رُكامها قوّة تكيد العدى، وردّدت مع نزار قبّاني الذي عاش نعيمها وجحيمها قوله: «ماذا نتكلّم عن بيروت/ وفـي عينيك خلاصة حزن البشريّة»، وردّدت معه أيضا: «قومي من تحتِ الموجِ الأزرقِ، يا عِشتارْ/ قومي كقصيدةِ وردٍ /أو قومي كقصيدةِ نارْ/ لا يوجدُ قبلكِ شيءٌ.. بعدكِ شيءٌ.. مثلكِ شيءٌ/ أنتِ خلاصاتُ الأعمارْ.. / يا حقل اللؤلؤِ.. / يا ميناءَ العشقِ.. / و يا طاووسَ الماءْ../ قومي من أجلِ الحبِّ، ومن أجلِ الشّعراءْ/ قومي من أجل الخبزِ، ومن أجلِ الفقراءْ/ الحبُّ يريدكِ.. يا أحلى الملكاتْ../ والربُّ يريدكِ.. يا أحلى الملكاتْ../ ها أنتِ دفعتِ ضريبةَ حسنكِ مثل جميعِ الحسناواتْ/ ودفعتِ الجزيةَ عن كلِّ الكلماتْ../ قومي من نومكِ../ يا سُلطانةُ، يا نوَّارةُ، يا قنديلًا مشتعلًا فـي القلبْ/ قومي كي يبقى العالمُ يا بيروتْ..»