عمان الثقافي

شعرية الفضاء في مجموعة «الصمت يأتي للاعتراف»

مراجعة نقدية

 
بعد مجموعته الأولى أظلاف بيضاء التي صدرت في 1984م ثم مجموعته الشعرية المعنونة بـ«الصمت يأتي للاعتراف» التي صدرت في عام 1991، يواصل مشروع زاهر الغافري الشعري فاتحًا لنفسه أفقًا جماليًا ومعجمًا شعريًا له بصمته ونبرته الخاصة به. وإن كان من الملاحظ تباعد فترات صدور أعمال الغافري في فترات متباعدة إلا أن السنوات الأخيرة من عمره شهدت توالي صدور أعمال شعرية على وتيرة غير معهودة. وهناك أعمال أعلن عنها في صفحته على الفيسبوك ولم يسعفه الأجل ليراها مطبوعة، ونأمل أن تتم العناية بتراثه الشعري والكتابي ليرى النور حتى يتمكن الدارسون من قراءة التجربة بشكل أكثر عمقا.

إن من يقترب من تجربة زاهر الغافري يلمس تلك الروح الشعرية الوثابة والمتحركة في الزمان والمكان وتتجلى حركية الذات الشعرية في كثير من نصوصه بحثا عن فضاءات مفتوحة، وهائمة تحت شمس العافية رافضة المكوث في الأماكن الضيقة والمعلقة.

ونسعى هنا إلى مقاربة شعرية الفضاء عند زاهر الغافري ومقتصرين هنا على مجموعة (الصمت يأتي للاعتراف) متفحصين ما نطلق عليه خطاب الرحلة في عدد غالب من نصوص المجموعة متفحصين في ذلك شعرية الفضاء التي تتحرك فيها الذات الشاعرة متفاعلة مع بقية الموجودات والمؤشرات المكانية والزمانية والذوات الأخرى داخل النصوص المدروسة. فالذات الشاعرة تميل إلى تمثيل حركة الذات وانتقالها بالهيكل العام المتبع في نصوص الرحلة ولكن مع تصرف وفق مقتضيات الخطاب الشعري، حيث يميل زاهر الغافري إلى القطيعة مع مفهوم خطاب الرحلة من حيث كونه «عملية تلفيظ لفعل الرحلة» (1) حيث إن خطاب الرحلة يتماهى مع الرحلة وعوالمها ويسعى إلى مواكبتها من البداية إلى النهاية» (2)، فالغافري يستعين بالتلفيظ للتدليل على الحركة والانتقال ولكن وفق مفهوم خاص به في تمزيق التراتبية التي تقتضيها عناصر الخطاب الرحلي كجنس أدبي، فيقوم بتحويل الرحلة ووصفها بخطاب مشعرن بحيث لا نجد للرحلة الجريان ذاته المعتاد في النصوص النثرية، ولا يقتصر الأمر على هذا بل إن الاقتراب من هذه التجربة الشعرية يمنح فرصة للوقوف عند الكثير من تصريفات الأقوال والأفعال الشعرية التي يجريها الغافري في سياقات نصوصه ويبني عوالمه الشعرية بصورة معقدة تتطلب من الباحث فحصا دقيقا ومعرفة واسعة لتتبع مصادر ثقافته الشعرية التي تفيض عن حواف النصوص، كما أن التقنيات الشعرية في التصرف في حركة الزمان والمكان داخل نصوصه وإشاراته ونسقه في بناء الجملة الشعرية والعناية بالصورة/ المشهد تكشف عن تمكن وفهم للشعر سواء من حيث وظائفه أو بنياته.

فالسعي هنا قائم على رصد حركة الذات وانتقالها ضمن أكثر من مكان وزمان والاستيهامات والتمثلات التي تعتمل داخل الذات وما يتنازعها من رؤى وذلك نتيجة تواصلها مع محيطها وهو هنا الفضاء لكونه أوسع وأشمل عن المكان، كما أن الفضاء متصل لا انقطاع فيه بل هو في حركة زمنية مستمرة ومتواصلة، حيث إنه لا يمكن تصور الفضاء دون تصور الحركة التي تجري فيه (3)، كما أن الفضاء يؤطر الأحداث داخل النص، فهو موجود بالضرورة أثناء جريان الأحداث (4).

تتوزع في فضاء المجموعة كثير من الملفوظات والأفعال التي تشير إلى الرحلة وما يتعلق بها مثل: (الملفوظات: الطريق - الرحلة - خطوة المسافر - خطوة - الصحراء - الطرق - أقدامي - انتظار طويل - الخطوات - الهارب - نهاية العالم - أطراف العالم - حافة العالم - المسافات - طواف - بوصلة - سفن - هاوية - الغابات - حطاب - قلب العاصفة - بلدة نائية - باب الفجر - الرمال الأولى للولادة - فراغ العالم - المنفى - يد الغريق - رصيف القدر - المصب - بئر العالم الأولى - الضباب - الجبال - الكهوف - البرابرة - الأسير)، و(الأفعال: تعود - يمشي - يندفع - أسير - تقتادني - عبرت - أتيتُ - تقودها - أبحثُ - يسري - يرشد- تقودنا - وتمضي - سيعبر - يرسو صمتك - تفتح - تسير). دلالات الصمت وتضادات الصرخة:

تتخذ مجموعة «الصمت يأتي للاعتراف» من الصمت كمنطلق شعري، فقد اعتبر الصمت في التراث البلاغي العربي بلاغة قائمة بذاتها، وهذا ما تكشف عنه مجموعة من النصوص التي تبرز هذه الخاصية (5) ولعل الجاحظ من أبرز من عني بموضوع الصمت وتوقف عنده في كثير من نصوصه، وما أبرز معالجاته لأنواع الصمت ما أسماه بصمت النصبة وهو صمت ناتج عن التأمل والفكر حيث يقول الجاحظ: «وهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق، فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان....» فإن صمت النصبة عند الجاحظ نظام تواصلي ليس كبقية الأنظمة التواصلية التي أبرزها عبر المفاهيم العامة التي خص اللفظ والإشارة والخط والعقد لاتسامه أي الصمت بخصوصيات جوهرية ومميزات أساسية تفرقه عن تلك الأنظمة وتحصنه بحدود متينة تفصله عنها نهائيا.(6)

في نص الصمت سلاحك السري نقرأ:

هل كان ظلك نائما بعينين مغمضتين

ولسان يضيء كالشمعة

هل كان الجسد حديقة الكلام

أو خاتما ضائعا في

دهليز

هل كانت المرأة جثة النوم

هل كانت يداك تتابعان كالأعمى

رقصة الهلاك.

بينما فمي صامت كالبركان وفوق حوافه

تنام طيور جريحة. ص 294نتيجة متتابعة للسؤال الافتتاحي في النص «ماذا تركنا في الغرفة........ ما الذي فاجأنا حين انحنت الذاكرة كقوس مشدود إلى الخلف. (ص302).

الصمت لسان العاصفة (ص305)

ثم نجد أن الصمت يتحول عن وظيفته المعهودة في مقاطع لاحقة من نص «ظل امرأة»:

الفجر يدخل بالمقلوب

كالبهلوان النائم

صمتي يجلد ظهرك بالسياط وصراخي هو الرأفة

كلا لم يعد سوى ظلك

نهاية العالم. (ص308).

في نص جبهة الشاعر:

ستعرف اليوم أكثر مما مضى

إن الصمت أجنحة قابلة للذوبان

أو - بلدة نائية مغمورة بالثلوج. (ص330)

في نص رمال الولادة:

ولكن ها أنا اليوم

أصادف نفسي أمام النافذة نفسها دائما

كحقيبة تضج في عاصفة كبيرة

كفجر تجوف جبهته نظرة أخيرة

لرجل وحيد يموت على الشرفة

نظرة غامضة لكن في قلبها

ينام بركان صامت

(ص333)

وفي نص كيد الغريق:

كيد الغريق المشدود إلى مصيرها

يرسو صمتك على رصيف القدر

والريح لا تكف عن الانحناء

أمام المعجزة (ص337)

من نص ماء الكلام نجد ص340:

الطريق - الخطوة - الهاوية:

أول نص من المجموعة هو «الطريق تعترف»

ينفتح أفق النص بالسؤال بـ:

«هل تعود هذه الليلة أيضا

بشموسها المعكوسة وكهوفها الطويلة

والصهيل يأتي من بعيد

كنبوءة الكاهن.

هل تنخلع الأبواب فأرى العالم

مكسورا من صدره

والنسيم يدفع شعره إلى

الخلف» ص289

في هذا المفتتح الذي تحدد أطره الشموس المعكوسة والكهوف الطويلة والصهيل الذي يأتي من بعيد كنبوءة الكاهن تتوزع فيه الفضاءات حيث الشموس المعكوسة هنا تبرز في الأفق، وهناك الفضاء المغلق الكهوف الطويلة التي تليق بعزلة الكاهن ونبوءاته ولكن هذه النبوءة لا بد لها من أن تملأ الأفق وأن تكون لها القدرة على التمدد في فضاء الزمن والمكان أن تكون كالصهيل القادم من البعيد قاطعًا المسافات البعيدة ومخترقا بقوته الفضاء. ثمة حاجز بين الذات الشاعرة وبين رؤية هذا العالم الذي يقع خلف الأبواب وفي نوع من الاستجابة لنداء الصهيل أو رؤية الجهة التي تأتي منها كل هذه التجليات ترغب الذات في تحقيق أمرين اثنين في وقت واحد، أن تنخلع الأبواب من ذاتها لا أن تفتح وأن يُكسر صدر العالم. ومع ذلك تقترح الذات رؤية النسيم وهو يدفع بشعر العالم إلى الخلف. هذا التلاحق المتسارع في الأفعال يأتي تحقيقا لنبوءة الكاهن وقوة الصوت القادم من البعيد.

في المقطع التالي: «عندما لا تسقط الدمعة على خد الأفق/ كما تسقط الثمرة على الأرض» (ص290) إن تلك المسافة التي تفصل حد الأفق عن موقع الثمرة على الشجرة تبدو بعيدة بمقدار بعد مكان سقوط الثمرة على الأرض وموقع سقوط الدمعة، وبين هذين القطبين نجد ذات الشاعر «التي تقف في مكان ما في الفضاء المأزوم كحصان يحترق صوته في غابة بينما العاصفة لا تكف عن الغفران أمام الضحية» العاصفة هنا تعطف على الضحية الأخرى أما الشاعر فيحترق صوته ليكون الاحتراق قرينا ومشابها لسقوط الثمرة على الأرض. صوت الحصان هنا ليس كالصهيل القادم من البعيد في المقطع الأول كنبوءة الكاهن.

يفترض النص عودة للأنهار القديمة من نومها الشاغر، والأنهار القديمة التي اندثرت واختفت تحت الرمال والركام لا تعود إلى الظهور حتما، ولكن الذات هنا في مسيرها على الطريق لديها القدرة على التقدم إلى الأمام، والتقدم يفترض إعادة ترتيب العلاقة مع الفضاء المحيط، فحالة العمى توجد مكانا للصباح حيث يفترض أن يكون الصباح فترة زمنية، وتمنح الذات العمياء القدرة على مخاصمة الهواء باليدين، وإلقام الليل بالذخيرة، وكل ذلك رغبة في التعبير عن الذات والخروج من صمتها إلى أقصى رد فعل لها وهو إلقام الليل بالذخيرة. خطوة المسافر تندفع نحو الليالي المثقوبة بالرصاص، هنا احتكاك خطوة المسافر بالفضاء واندفاعها تزيده اشتعالا وهو يتقدم في طريقه نحو لياليه المثقوبة بالرصاص أصلا. فمم سيخاف يا ترى. نحو الصحراء التي تطوي نفسها كالسلام، ليل مثقوب وصحراء تطوي نفسها كالسلالم، إذ لا يكون هناك فضاء مفتوح فالمكان والزمان لا يُنفذان إلى المستقبل لذا لا بد من السقوط في بئر الماضي تقليلا من خسارات الحاضر، العودة إلى الماضي مثل الانكماش في البئر حيث الرحم الأولى. التراجع عن الفضاء المفتوح بالدخول إلى الفضاء المغلق البعيد عن المخاطرة والمجازفة.

في المقطع الأخير من النص، نجد أن الوقائع تجلس على حافة العالم مشدودة بخيط الذكريات، حتى لا تسقط وتنفصل، هناك ترقب الريح التي تتعثر بالحجارة مثل سكير يمشي وهو نائم، وفي الوقع ذاته ترقب الوقائع من مكانها هناك اعتراف الطريق للذات الشاعرة بأن كل خطوة تؤدي إلى الهاوية، الطريق برغم صمتها في الماضي تعترف الآن فقط.

المصير إلى الهاوية هنا يتساوى مع ما يرد في نص «بعد انتظار طويل»:

«فيما مضى كنت وحدي

كالناسك الذي يشق طريقه

عبر غابة من الرعود

أتذكر الآن كيف كنت أتلقى

ريشة من دموع عاشقة أنضجتها العواصف

قبل الأوان

أتذكر ضوء يديها الذي سرت عليه كالنائم فأوصلني

إلى فم الهاوية» ص299-300المصير إلى الهاوية كان بسير الذات على الطريق أو إلى فم الهاوية بسبب السير كالنائم على ضوء يدي المرأة، النوم خروج من حالة إلى حالة حيث ضوء اليدين يعطل عملية الإبصار ورؤية الدرب الذي يسير عليه النائم. هل الإفاقة من النوم بإمكانه أن يغير علاقتنا بالفضاء ومصيرنا، برغم أن الطريق اعترفت، ولكن الذات نجدها تختم نص «بعد انتظار طويل:

«ها هي ثانية تعود هذه الليلة ثانية

تعود ثانية بعد انتظار طويل

لتذكرني بمصيري»

ص301الانتظار الطويل هنا يشبه الوقائع التي تجلس على حافة العالم هناك مربوطة بخيط الذكريات، فالوقوع عن حافة العالم لا يشبه سقوط حجر في بئر.

ثمة في نص «الصمت سلاحك السري» اشتباك بين مسارين متأتين من كون الذات الشاعرة مقودة بالغياب /غيابها ولكن هذا الغياب متأت من ظلها الواقع تحت تأثير وقيادة حبل الموسيقي له، فالقيادة هنا منبعها صوت الموسيقى الذي يملأ فراغ السرير والليل وهنا كذلك فضاء لا يراد لنا الالتفات إليه وهو الفضاء الذي يلف السرير الفارغ:

«تقتادينني إلى غيابك دون أن أقاوم

الصمت سلاحك السري الذي

يشفي الآلهة.

لكن السرير فارغ هذه الليلة

بينما ظلك كالأفعى يقتاده حبل

من الموسيقى»

ص296

هذه التبعية المتأتية من تأثير حبل الموسيقى على ظل المرأة قاد بالضرورة إلى غياب الأصل الذي يقود بدوره الذات الشاعرة، هذه السلسلة من التأثيرات يحركها «جذر الغواية» ص297. هذا الجذر الذي يشتغل في فضاء حلمي يقف وراء المسار الحلمي الذي يبقى ذات الشاعر تسير في نومها «ناسيا أن حياتي مظلة لا تفتح/ في الأحلام/ إلا بمقدار ضئيل» ص297. المظلة التي ترافق الشاعر القادم من البلد البعيد ليسكن في قلب الصدفة، وبرغم ما نتخيله عن القلب ليس كآلة أو فضاء ضيق بل كديناميكية حركة إلا أن هذه الحركة لا يمكنها إخفاء المأساة المتربصة بذات الشاعر، هل المظلة سقف واقعي غير قابل للانفساح ولإعطاء الأحلام مجالا أكبر؟:

سرتك الزرقاء قرية لا يسكنها سواي

أنا الذي أتيت من بلد بعيد

لأسكن في قلب الصدفة، لأجد المأساة

دائما في انتظاري

كجذر الغواية أظل أسير في نومي

ناسيا أن حياتي مظلة لا تفتح

في الأحلام

إلا بمقدار ضئيلهذا المسار الحلمي لا يلبث وأنا يقطعه صوت الشاعر الذي يذكرنا بأنه بشر يسير على قدمين، هنا رغبة الأقدام هي تقود وهي المخدوعة بمنعطفات الطرق، تتكرس الخديعة أكثر حين تنتقل من الخديعة التي يمارسها المكان إلى الخديعة التي يمارسها الزمن «اللحظة» التي ينبثق منها الإشراق الذي يقفز على ضيق الفضاء في شكله المكاني إلى فسحة الفضاء الزمني، هنا الذات يقع افتراق مؤقت للذات عن جذر الغواية ومن المسار الحلمي، لكن هذه الإشراقة لا تلبث أن تتناغم مع حلم النهر بالعودة ثانية إلى النبع هذه الإشراقة تقود ذات الشاعر أو تذكرها بأنها أي الذات هي نفسها التي تسير في نومها ولكن هذه المرة «على ضوء أنفاسك القليلة» وهناك آثار لا تلبث وأن تختفي في بلاد بعيدة دون وديان. «بلاد بعيدة» هي ذاتها في «أنا قادم من بلد بعيد»؟ اختفاء العاصفة في «بلاد دون وديان» هو امحاء وتلاشي أثر الماء بحيث لا تكون لديه القدرة على شق مسار له مثل النهر الذي لها مسار وفضاء يتحرك في نطاقه، بينما البلاد التي لا وديان فيها لا يمكن للماء أن يشق مسارا واضحا ثم يتوزع في الفضاء الواسع، في الوادي يمكن اقتفاء الماء مثلما يمكن للنهر أن يعود إلى منبعه ولكن في حالة عدم وجود وديان فإنه من غير الممكن القبض أو الوقوف على أثر محدد للماء.

وعند كل منعطف تخدع الطرق

رغبة أقدامي

تخدعني هذه اللحظات أيضا

لأن في قلبها إشراقة كنهر

يحلم بالعودة ثانية إلى النبع

وهكذا منذ الطفولة

أسير في نومي على ضوء أنفاسك

القليلة

بينما آثارك تختفي كالعاصفة

في بلاد بعيدة دون وديان

ص295-296 في نص الرحلة يقدم لنا زاهر الغافري توصيفا شعريا للرحلة «طواف دائم حول مركز واحد» هذا المركز الواحد الذي ينتظم وفق مسار واحد مع «شمس المأساة» و «عين ذئب جريح» هذه الشمس عندما تندفع في الفضاء تكشف لنا عما يتبقى من هذه الرحلة، وبرغم أن النص يتحدث عن شمس واحدة التي نعرفها إلا إنه يكشف لنا عن مصير عين الذئب الأخرى التي ربما يكون الذئب قد فقدها وكانت جرحا من جراحه أو سببا لجراح أخرى. مع هذا الانكشاف المراوح بين إشراق الشمس وبين بزوغها «كعين ذئب جريح» في مقابل «الدمعة الخاسرة» التي خبأت ذات ليل في الدرج الوحيد للطاولة الوحيدة، الدرج ذو الفضاء الضيق والمغلق، الدمعة الخاسرة هنا تتساوى مع شمس المأساة، فهذه الرحلة هي غيمة مليئة بالثقوب. ولن تكون الرحلة وفق خيار آخر يطرحه الشاعر سوى محاولة لرتق تلك الثقوب التي تعج بها الغيمة التي تتمدد في فضاء الأفق الواسع، ولكن قبل الوصول لذلك من المهم كسر حاجز آخر هنا وهو «ضجر العالم/ الذي لا ينتهي» هذا الضجر الذي تقدر اليد على التأثير فيها أو الذات في الخروج عن سلطته، وهذا ما يعود بنا إلى طرح السؤال عن جدوى الرحلة بالرغم من المعرفة المسبقة بالضجر الذي يلف العالم.

هكذا هي الرحلة

طواف دائم حول مركز واحد

عندما تبزغ شمس المأساة

كعين ذئب جريح

عندها لن يتبقى سوى تاج الكلام

وطاولة وحيدة ربما أخفيت

في درجها ذات ليل

دمعة خاسرة

وتمضي سنوات كي تكتشف أنها لم تكن

سوى غيمة

مليئة بالثقوب

هكذا هي الرحلة رشوة الأفق بقليل من الحجارة

خطوة واحدة

عبرها تتلمس بيديك

ضجر العالم

الذي لا ينتهي

(الرحلة: 322-324)الهوامش:

1- يقطين، سعيد. 1993. خطاب الرحلة العربي ومكوناته البنيوية. مجلة علامات في النقد، النادي الأدبي، جدة. الجزء 9، المجلد 3. سبتمبر. ص 165.

2-السابق، ص171.

3- لحمداني، حميد. 1991م. بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي). المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء وبيروت. ص 63.

4- السابق، ص64.

5- إكيدر، عبدالرحمن. 2018. بلاغة الإبانة بالصمت في الموروث الأدبي العربي. مجلة البحرين الثقافية، العدد 91 يناير. ص18.

6-السابق، ص26-27.