في وداع إلياس خوري مقاربة حول «رحلة غاندي الصَّغير»
الأربعاء / 21 / ربيع الأول / 1446 هـ - 12:01 - الأربعاء 25 سبتمبر 2024 12:01
[غادرنا الأسبوع الماضي، تحديدا يوم الأحد 15 سبتمبر 2024، الروائي اللبناني إلياس خوري، عن عمر ناهز ستة وسبعين عاما، ومن نافلة القول إننا خسرنا أحد أهم الكتّاب العرب ليس بوصف الرَّاحل مبدعا كبيرا فحسب، ولكن لأنه أيضا «مثقف ملتزم» (بالمعنى الأعمق للتعبير) وذلك لجهة انخراطاته الكتابيَّة والميدانيَّة في النِّضال لصالح القضايا الإنسانيَّة، والأخلاقيَّة، والسياسيَّة للأمة، وفي المقدمة من تلك القضايا فلسطين. يعيد الملحق الثقافي، في هذه المناسبة، نشر هذه القراءة لروايته «رحلة غاندي الصَّغير»].
كان يا ما كان، في غير بعيد من العصر والأوان، رجلان إنجليزيان، من إنجلترا إلى إسكتلندا بالقطار مسافرَيْن. وقد وضع أحد ذينك المسافرَيْن على رف الأمتعة في القُمرة حقيبة مغلقة تثير الفضول بحجمها الكبير، فما كان من المسافر الآخر إلا أن بادره متسائلا بالكياسة التظاهريَّة الإنجليزيَّة المعهودة: «أيها السيد، إنني أتساءل، بيني وبين نفسي فقط، عما يمكن أن يكون في داخل حقيبتك الكبيرة».
وبالدبلوماسيَّة الإنجليزية الباردة إياها رد المسافر الأول: «آه، حقيبتي؟.. نعم!.. حقيبتي تحتوي على آلة مخصَّصة لصيد الأُسود في الجبال الإسكتلنديَّة»!
«أوه، هذا عظيم حقا!»، هكذا عقّب المسافر الأول مجاملة، غير أنه استطرد بعد توقف قصير تطلبته برهة التأمَّل التظاهريَّة ضمن أصول «اللباقة» الإنجليزية نفسها: «ولكن، أيها السيد، ليس هناك من أسود في الجبال الإسكتلندية»!
فرد المسافر الأول آخذا «الإيتيكيت» المائع حتى أقصاه: «آه.. حقّا! إذن، وما دام ليس هناك من أسود في الجبال الإسكتلندية، فإن ما في حقيبتي هو «مجافن» (McGuffin)»!
ما كان يمكن لهذه الحكاية التي قد تكون شيِّقة بعض الشيء، لكن غير المثيرة كثيرا، أن تدخل إلى نظرية السَّرد السِّينمائي لولا أن استمع إليها ألفرِد هيتشكوك الذي شغف بها، وطورها إلى مفهوم سردي إخراجي خاص به، حيث أصبحتْ «المجافن» (التي هي كلمة إسكتلندية في أصل الاستعارة لكن لا معنى لها أصلا) لديه تلك الذَّريعة السَّردية المبدئَّية التي تقدِّم القصة باعتبارها العنصر الأهم للوهلة الأولى، غير أن تلك الذَّريعة، والتي يظن المشاهد لوهلة أنها أهم شيء في الفيلم الذي يشاهد، تنسحب تدريجيا من قلب الحكاية، مفسحة بذلك المجال لشخصيات وعناصر سرديَّة أخرى في الفيلم.
وفي أحسن الأحوال، لا تعود «المجافن» إلا بوصفها شخصية أخرى، حدثا آخر، «موتيفا» آخر، أو عنصرا آخر في مجمل الحكاية، ولكنها، في كل الأحوال، لا تعود بدرجة الأهمية الخادعة نفسها التي ظهرتْ بها في المرة الأولى. وأحيانا تكون «المجافن» وهما، شيئا فارغا، مجرد طُعم لا أكثر (خاتَمَ زواج، أو جاسوسا مفترَضا نسمع عنه كثيرا في السرد من دون أن نراه في عمل ينتمي إلى فنٍّ يفترض أن يكون بصريا، إلخ).
وبذلك فإن بعض المشاهدين غير المتمرِّسين على ألعاب هيتشكوك وفخاخه السرديَّة، بل حتى أولئك المدمنون على مشاهدة أفلامه، يظلون مشغولين في مشاهداتهم لأعماله عن أشياء وشخصيات تنسحب وتتراجع ثم تذهب مثل الزَّبد، مفوِّتين بذلك على أنفسهم الاهتمام بما ينفع الناس، ولا يدركون ذلك، في الغالب، إلا بعد فوات الأوان.
سأجتهد، إذن، بأن السَّرد في رواية إلياس خوري «رحلة غاندي الصَّغير» ليس غريبا عن جوهر هذه التقنيَّة السينمائيَّة الهيتشكوكيَّة، ذلك أن عنوان الرواية يبوح على نحو مضلِّل بأن الحكاية ستكون مقصورة على الشخصيَّة الرئيسة التي اسمها غاندي الصَّغير، والتي تستأثر بكامل عنوان النَّص في إحالة مكانية بعيدة عن الفضاء الذي سيتضح أنه فضاء السَّرد، وبالتالي يفترض أن تكون تلك الشخصيَّة سيدة الرواية وقولها الوحيد الأوحد – حقّا، إن «الحكاية هي لعبة أسماء» كما تقول الفقرة الأخيرة في الرواية (ص 207 من طبعة دار الآداب الأولى الصادرة في بيروت في 1989، وإلى هذه الطبعة تعود أرقام صفحات ورود بقية الاقتباسات في هذه المقاربة).
وطبعا، سيذهب القارئ، بمجرد قراءة عنوان الرواية، إلى افتراضات ونظرياتٍ حول علاقة هذا الـ«غاندي الصَّغير» بالـ«غاندي» الأشهر في التاريخ، ذلك «الضئيل» جسما، الكبير فعلا، والذي حرَّر بلاده من استعمار الامبراطورية العتيدة، وسيتساءل عن علاقة غاندي الهندي، أثناء مرحلة الاستقلال الوطني، بغاندي اللبناني في سياق المأساة اللبنانيَّة.
وينبغي مني أن أذكر هنا أن «أحداث» السَّرد في «غاندي الصَّغير» مربوطة مباشرة بأحداث الواقع التاريخي اللبناني المعاصر في غير موضع، إنْ في المتن أو في الحاشية (وفيما يخص الأخيرة فنظيرها قليل في الرواية العربيَّة)؛ فهناك مثلا ملاحظة في الهامش تشرح عبارة «موت رئيس الجمهورية» الواردة في المتن هكذا: «انفجار بيت الكتائب في الأشرفية، 14 أيلول 1982، الذي أودى بحياة الرئيس المنتخب، بشير الجميل» (ص14، الهامش)، و«مع التدهور المتواصل للوضع في بيروت بين عامي 1980 و1981، انتشرت المتفجرات في كل مكان. وصار الناس يخافون من أماكن تجميع النفايات، لأنها أصبحت المكان المفضل لزراعة المتفجرات في المدينة» (ص64، المتن)، و«حين انفجرت الحرب من جديد في 6 شباط 1984، وتحولت الأسواق التجارية إلى ساحة للدمار...إلخ» (ص136، المتن).
وللتوكيد الظاهري على أهمية «غاندي» (اللبناني) الثِّيماتية، يبدأ الفصل الثاني (وليس الأول كما هو متوقع) من النَّص بشذرات متفرقة ومعلومات ناقصة عن حياة وموت هذه الشخصيَّة. وإضافة إلى ذلك تبدأ عدة فصول من العمل باللازمة السرديَّة التي تستهل الفصل الثاني: «قالت ألِيْسْ إنه [أي غاندي الصغير] مات. «جئت ورأيته، غطيته بالجرائد، ولم يكن أحد، زوجته اختفت، كلهم اختفوا، وبقيت وحدي....إلخ» (ص12).
ويخال القارئ طوال الفصل الثاني أنه قد أمسك بأول خيوط حكاية غاندي الصَّغير، وأن الفصول القادمة ستقدم معلومات جديدة وأحداثا إضافيَّة يكون من شأنها أن تُرسِّخ بناء حكاية غاندي الصغير باعتباره «البطل». غير أن ما يحدث، في الحقيقة، هو أن غاندي الصَّغير يختفي، أو يكاد، وتحل محله شخصيَّات أخرى، وحكايات أخرى، بحيث إن القارئ ينسى الحكاية الأصلية ويستغرق شَغوفا في الحكايات الجديدة – مثلا، حكايات أليْس الراوية، وسعاد، والقسيس أمين، وحكاية الكلب، والحلاق، ورالف، والأميركاني دايفيز، وريما، وغيرهم.
وأود أن أشير هنا إلى أليس التي رغم أنها تضطلع بدور الراوي حسب ظاهر الأمور، أي مجرد الأداة السَّردية التي تنقل القصص، إلا أن قصتها نفسها تعادل -إن لم تفق- أهميَّة قصة غاندي الصَّغير (الذي يحتل العنوان)، وقصص الشخصيات الأخرى، أو شخصية مدينة بيروت التي تتجاوز كونها مجالا مكانيّا للحدث إلى شخصيَّة كاملة ومتكاملة ذات جرح، وفعلٍ، وتاريخ.
صحيح أن غاندي الصَّغير يعاود إطلالته على المشهد الروائي، لكنه يفعل ذلك وقد سُحِب بساط أولوية حكايته من تحت قدميه. إنه يعود لاحقا في مختلف فصول الرواية، لكن بوصفه مجرد شخصيَّة أخرى؛ مجرد واحد من «الكومبارس» الروائي، إن شئتم، وليس الشخصيَّة الأهم التي استحوذت على كامل عنوان الرواية وتوق القارئ، بحيث إن القارئ يهتف في نفسه حين يصادفه مصادفة في الزحام: «آه! هذا هو غاندي الصَّغير من جديد! لقد كدت أنسى هذا المخلوق الصغير الغريب»!
والسبب في ذلك أن رحلة غاندي الصَّغير صارت تتماهى في رحلات الكائنات الأخرى في النَّص، حيث جعل «زمن الأحذية السَّوداء» حكايته تنصهر في بوتقة المآسي الأخرى؛ فعلى سبيل المثال يعود غاندي الصَّغير إلى الحكاية باعتباره وجها آخر من وجوه الحشد كي يطلب سيارة إسعاف لتقل مدام نهى القتيلة (ص50).
إن غاندي الصغير هو الوجه، وأليس هي المرايا، والشخصيات الأخرى وجوه تتعدد في تلك المرايا وفقا لبيت ابن عربي الشهير الذي تَصدَّر الرواية: «وما الوجه إلا واحدٌ غير أنه/ إذا أنتَ عددتَ المرايا تعددا».
وبذلك فإن عنقود الحكايات الذي يجعل من هذا النص رواية «إطاريَّة» هو صدى قوي لتقنية ما أسماه علم الجمال الغربي «السَّرد الإطاري العربي» (Arabic frame narrative) الذي قدمته لنا «ألف ليلة وليلة»، وهي تقنية ألهمت بعضا من كبار المبدعين الغربيين مثل جيوفاني بوكاتشيو وجيفري تشوسر في الأدب الكلاسيكي الإيطالي والإنجليزي تباعا، وبيير باولو بازوليني في السينما الإيطالية (لعل من أفضل ما كُتب بالإنجليزية حول مفهوم «السَّرد الإطاري العربي» في «ألف ليلة وليلة» كتاب فريال جبُّوري غزُّول «شعريات ليليَّة: الليالي العربيَّة في سياق مقارَن» [Nocturnal Poetics: The Arabian Nights in Comparative Context]، والذي كان في الأصل أطروحة دكتوراة أنجزتها المؤلفة في جامعة كولومبيا الأمريكيَّة بإشراف الرَّاحل إدوَرد سعيد).
هكذا، إذن، تحاول أليس في «رحلة غاندي الصَّغير» أن تكون شهرزاد الجديدة في مسعاها نحو إيقاف الموت بالحكي، ويحاول إلياس خوري أن يكون شهريارا روائيّا «حداثيَّا» في مسعاه نحو محاولة فض بكارة الحكايات التي يجمعها من شهرزاد الرَّاوية. وقطعا هي ليست صدفة أن أول عبارة من كلمتين في هذا النص المكتوب إنما تحيل صراحة إلى الكلام؛ إلى الفعل الشّفاهي الإبداعي الخلاق في الحياة العربيَّة: «لكنهم يتكلمون» (ص7).
تدور الحكاية، أو الحكايات، في «رحلة غاندي الصَّغير» في زمن الحرب والقتل والاحتلال والمأساة، وتصور شخصيَّات غاية في الاستثنائية، وليس شخصيات منمَّطة. إنها شخصيَّات عجيبة (وليست عجائبيَّة) تمارس ردة الفعل على ما يجري في محيطها بطرق وأحاسيس غير مألوفة؛ فعلى سبيل المثال، لا تفقد ريما الإحساس بالاغتصاب فحسب، بل إن اغتصابها المُهين من قِبل أبو عبد الكردي على سُلّم البناية يصبح معادلا مفارِقا للحرية (ص 52)، ومثل أليس في علاقتها بطنُّوس، حيث لا تشعر بالغيرة من زوجته، أي الغيرة التي يفترض أن تشعر بها المرأة من زوجةِ رجل ٍتقيمُ معه علاقة، بل إنها «أحبته وأحبت أولاده وزوجته» (ص63).
غير أن إلياس خوري، وفي سياق المأساة اللبنانية ذاته، ينجح أيضا في توظيف حس الدُّعابة المرير عبر استكشاف قدرة اللهجة اللبنانيَّة على التعبير عن هذا المناخ بطريقة اعتادها المرء، تقليديّا، في الرواية المصرية، مثل المفتاح، زوج السِّت رشيدة، الذي «يتكلم عن سلاطين بني عثمان كأنهم من أقربائه». «يا عيني على عبدالحميد، بس غدروه يا مَرَا»، والمرأة تتأفف وتقول له أن يهتم بأسعار الطحين. «طحين أي طحين، هيدا بلد، إنتي ما بتفهمي»، ويذهب إلى مقهاه ويتعجب من هذا «اللبنان الكبير» الذي صنعوه. «قال كبير قال، الله يصغره، شو كبّره، ما نحن ما بدنا، نحن شو بدنا» (ص100)، ومثل المشهد الذي يروي لقاء الخواجة فيَّاض بشقيق القيصر الروسي في حيِّ السراسقة، وتخريجات فنتازيَّة تفتقت عنها عبقرية الأول لتفسير دلالات الملح والشموع التي استقبل بها الثاني من قبيل «المِلح، المِلح يعني أن روسيا هي مِلح الأرض» و«الشموع يا مولانا، الشموع يعني أن روسيا هي نور العالم» (ص 126)، ومثل الحوار الذي يدور بين رالف ومدام نهى حين تخبره بعزمها على الزواج من قسطنطين مخباط: «وبتحبيه»؟ «قلت لك بحبه، شو عم نلعب»؟ «وبتنامي معه»؟. «شوهالسؤال، طبعا»! «بتنامي معي ومعه بنفس الوقت»؟ «معك غير شكل، هوه بدي أتزوجه، انتَ شي تاني». «إنتِ شرموطة، تَعي» (ص81).
إلا أن استكشاف الطَّاقات الإبداعيَّة للهجة المحكيَّة لا يتوقف عند حدود الدُّعابة فاقعة أو عابثة أو «سوداء» في «رحلة غاندي الصَّغير»، بل إن محتملها التعبيري يصل إلى درجات التعبير البليغ عن الهاجس الصُّوفي العميق: «والله مراية، الله مراية بس الإنسان بيرفض يشوف وجهه. الله وجهه والإنسان بخاف» (ص165)، حيث يتناغم التعبير بالعاميَّة البسيطة عن هذه الفكرة الوجودية الكبرى مع مقولة أبي يزيد البسطامي الشهيرة: «كنتَ لي مرآة، فصرتُ أنا المرآة»، ولعل هذا سبب تصدير إلياس خوري روايته بهذه المقولة للبسطامي.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
كان يا ما كان، في غير بعيد من العصر والأوان، رجلان إنجليزيان، من إنجلترا إلى إسكتلندا بالقطار مسافرَيْن. وقد وضع أحد ذينك المسافرَيْن على رف الأمتعة في القُمرة حقيبة مغلقة تثير الفضول بحجمها الكبير، فما كان من المسافر الآخر إلا أن بادره متسائلا بالكياسة التظاهريَّة الإنجليزيَّة المعهودة: «أيها السيد، إنني أتساءل، بيني وبين نفسي فقط، عما يمكن أن يكون في داخل حقيبتك الكبيرة».
وبالدبلوماسيَّة الإنجليزية الباردة إياها رد المسافر الأول: «آه، حقيبتي؟.. نعم!.. حقيبتي تحتوي على آلة مخصَّصة لصيد الأُسود في الجبال الإسكتلنديَّة»!
«أوه، هذا عظيم حقا!»، هكذا عقّب المسافر الأول مجاملة، غير أنه استطرد بعد توقف قصير تطلبته برهة التأمَّل التظاهريَّة ضمن أصول «اللباقة» الإنجليزية نفسها: «ولكن، أيها السيد، ليس هناك من أسود في الجبال الإسكتلندية»!
فرد المسافر الأول آخذا «الإيتيكيت» المائع حتى أقصاه: «آه.. حقّا! إذن، وما دام ليس هناك من أسود في الجبال الإسكتلندية، فإن ما في حقيبتي هو «مجافن» (McGuffin)»!
ما كان يمكن لهذه الحكاية التي قد تكون شيِّقة بعض الشيء، لكن غير المثيرة كثيرا، أن تدخل إلى نظرية السَّرد السِّينمائي لولا أن استمع إليها ألفرِد هيتشكوك الذي شغف بها، وطورها إلى مفهوم سردي إخراجي خاص به، حيث أصبحتْ «المجافن» (التي هي كلمة إسكتلندية في أصل الاستعارة لكن لا معنى لها أصلا) لديه تلك الذَّريعة السَّردية المبدئَّية التي تقدِّم القصة باعتبارها العنصر الأهم للوهلة الأولى، غير أن تلك الذَّريعة، والتي يظن المشاهد لوهلة أنها أهم شيء في الفيلم الذي يشاهد، تنسحب تدريجيا من قلب الحكاية، مفسحة بذلك المجال لشخصيات وعناصر سرديَّة أخرى في الفيلم.
وفي أحسن الأحوال، لا تعود «المجافن» إلا بوصفها شخصية أخرى، حدثا آخر، «موتيفا» آخر، أو عنصرا آخر في مجمل الحكاية، ولكنها، في كل الأحوال، لا تعود بدرجة الأهمية الخادعة نفسها التي ظهرتْ بها في المرة الأولى. وأحيانا تكون «المجافن» وهما، شيئا فارغا، مجرد طُعم لا أكثر (خاتَمَ زواج، أو جاسوسا مفترَضا نسمع عنه كثيرا في السرد من دون أن نراه في عمل ينتمي إلى فنٍّ يفترض أن يكون بصريا، إلخ).
وبذلك فإن بعض المشاهدين غير المتمرِّسين على ألعاب هيتشكوك وفخاخه السرديَّة، بل حتى أولئك المدمنون على مشاهدة أفلامه، يظلون مشغولين في مشاهداتهم لأعماله عن أشياء وشخصيات تنسحب وتتراجع ثم تذهب مثل الزَّبد، مفوِّتين بذلك على أنفسهم الاهتمام بما ينفع الناس، ولا يدركون ذلك، في الغالب، إلا بعد فوات الأوان.
سأجتهد، إذن، بأن السَّرد في رواية إلياس خوري «رحلة غاندي الصَّغير» ليس غريبا عن جوهر هذه التقنيَّة السينمائيَّة الهيتشكوكيَّة، ذلك أن عنوان الرواية يبوح على نحو مضلِّل بأن الحكاية ستكون مقصورة على الشخصيَّة الرئيسة التي اسمها غاندي الصَّغير، والتي تستأثر بكامل عنوان النَّص في إحالة مكانية بعيدة عن الفضاء الذي سيتضح أنه فضاء السَّرد، وبالتالي يفترض أن تكون تلك الشخصيَّة سيدة الرواية وقولها الوحيد الأوحد – حقّا، إن «الحكاية هي لعبة أسماء» كما تقول الفقرة الأخيرة في الرواية (ص 207 من طبعة دار الآداب الأولى الصادرة في بيروت في 1989، وإلى هذه الطبعة تعود أرقام صفحات ورود بقية الاقتباسات في هذه المقاربة).
وطبعا، سيذهب القارئ، بمجرد قراءة عنوان الرواية، إلى افتراضات ونظرياتٍ حول علاقة هذا الـ«غاندي الصَّغير» بالـ«غاندي» الأشهر في التاريخ، ذلك «الضئيل» جسما، الكبير فعلا، والذي حرَّر بلاده من استعمار الامبراطورية العتيدة، وسيتساءل عن علاقة غاندي الهندي، أثناء مرحلة الاستقلال الوطني، بغاندي اللبناني في سياق المأساة اللبنانيَّة.
وينبغي مني أن أذكر هنا أن «أحداث» السَّرد في «غاندي الصَّغير» مربوطة مباشرة بأحداث الواقع التاريخي اللبناني المعاصر في غير موضع، إنْ في المتن أو في الحاشية (وفيما يخص الأخيرة فنظيرها قليل في الرواية العربيَّة)؛ فهناك مثلا ملاحظة في الهامش تشرح عبارة «موت رئيس الجمهورية» الواردة في المتن هكذا: «انفجار بيت الكتائب في الأشرفية، 14 أيلول 1982، الذي أودى بحياة الرئيس المنتخب، بشير الجميل» (ص14، الهامش)، و«مع التدهور المتواصل للوضع في بيروت بين عامي 1980 و1981، انتشرت المتفجرات في كل مكان. وصار الناس يخافون من أماكن تجميع النفايات، لأنها أصبحت المكان المفضل لزراعة المتفجرات في المدينة» (ص64، المتن)، و«حين انفجرت الحرب من جديد في 6 شباط 1984، وتحولت الأسواق التجارية إلى ساحة للدمار...إلخ» (ص136، المتن).
وللتوكيد الظاهري على أهمية «غاندي» (اللبناني) الثِّيماتية، يبدأ الفصل الثاني (وليس الأول كما هو متوقع) من النَّص بشذرات متفرقة ومعلومات ناقصة عن حياة وموت هذه الشخصيَّة. وإضافة إلى ذلك تبدأ عدة فصول من العمل باللازمة السرديَّة التي تستهل الفصل الثاني: «قالت ألِيْسْ إنه [أي غاندي الصغير] مات. «جئت ورأيته، غطيته بالجرائد، ولم يكن أحد، زوجته اختفت، كلهم اختفوا، وبقيت وحدي....إلخ» (ص12).
ويخال القارئ طوال الفصل الثاني أنه قد أمسك بأول خيوط حكاية غاندي الصَّغير، وأن الفصول القادمة ستقدم معلومات جديدة وأحداثا إضافيَّة يكون من شأنها أن تُرسِّخ بناء حكاية غاندي الصغير باعتباره «البطل». غير أن ما يحدث، في الحقيقة، هو أن غاندي الصَّغير يختفي، أو يكاد، وتحل محله شخصيَّات أخرى، وحكايات أخرى، بحيث إن القارئ ينسى الحكاية الأصلية ويستغرق شَغوفا في الحكايات الجديدة – مثلا، حكايات أليْس الراوية، وسعاد، والقسيس أمين، وحكاية الكلب، والحلاق، ورالف، والأميركاني دايفيز، وريما، وغيرهم.
وأود أن أشير هنا إلى أليس التي رغم أنها تضطلع بدور الراوي حسب ظاهر الأمور، أي مجرد الأداة السَّردية التي تنقل القصص، إلا أن قصتها نفسها تعادل -إن لم تفق- أهميَّة قصة غاندي الصَّغير (الذي يحتل العنوان)، وقصص الشخصيات الأخرى، أو شخصية مدينة بيروت التي تتجاوز كونها مجالا مكانيّا للحدث إلى شخصيَّة كاملة ومتكاملة ذات جرح، وفعلٍ، وتاريخ.
صحيح أن غاندي الصَّغير يعاود إطلالته على المشهد الروائي، لكنه يفعل ذلك وقد سُحِب بساط أولوية حكايته من تحت قدميه. إنه يعود لاحقا في مختلف فصول الرواية، لكن بوصفه مجرد شخصيَّة أخرى؛ مجرد واحد من «الكومبارس» الروائي، إن شئتم، وليس الشخصيَّة الأهم التي استحوذت على كامل عنوان الرواية وتوق القارئ، بحيث إن القارئ يهتف في نفسه حين يصادفه مصادفة في الزحام: «آه! هذا هو غاندي الصَّغير من جديد! لقد كدت أنسى هذا المخلوق الصغير الغريب»!
والسبب في ذلك أن رحلة غاندي الصَّغير صارت تتماهى في رحلات الكائنات الأخرى في النَّص، حيث جعل «زمن الأحذية السَّوداء» حكايته تنصهر في بوتقة المآسي الأخرى؛ فعلى سبيل المثال يعود غاندي الصَّغير إلى الحكاية باعتباره وجها آخر من وجوه الحشد كي يطلب سيارة إسعاف لتقل مدام نهى القتيلة (ص50).
إن غاندي الصغير هو الوجه، وأليس هي المرايا، والشخصيات الأخرى وجوه تتعدد في تلك المرايا وفقا لبيت ابن عربي الشهير الذي تَصدَّر الرواية: «وما الوجه إلا واحدٌ غير أنه/ إذا أنتَ عددتَ المرايا تعددا».
وبذلك فإن عنقود الحكايات الذي يجعل من هذا النص رواية «إطاريَّة» هو صدى قوي لتقنية ما أسماه علم الجمال الغربي «السَّرد الإطاري العربي» (Arabic frame narrative) الذي قدمته لنا «ألف ليلة وليلة»، وهي تقنية ألهمت بعضا من كبار المبدعين الغربيين مثل جيوفاني بوكاتشيو وجيفري تشوسر في الأدب الكلاسيكي الإيطالي والإنجليزي تباعا، وبيير باولو بازوليني في السينما الإيطالية (لعل من أفضل ما كُتب بالإنجليزية حول مفهوم «السَّرد الإطاري العربي» في «ألف ليلة وليلة» كتاب فريال جبُّوري غزُّول «شعريات ليليَّة: الليالي العربيَّة في سياق مقارَن» [Nocturnal Poetics: The Arabian Nights in Comparative Context]، والذي كان في الأصل أطروحة دكتوراة أنجزتها المؤلفة في جامعة كولومبيا الأمريكيَّة بإشراف الرَّاحل إدوَرد سعيد).
هكذا، إذن، تحاول أليس في «رحلة غاندي الصَّغير» أن تكون شهرزاد الجديدة في مسعاها نحو إيقاف الموت بالحكي، ويحاول إلياس خوري أن يكون شهريارا روائيّا «حداثيَّا» في مسعاه نحو محاولة فض بكارة الحكايات التي يجمعها من شهرزاد الرَّاوية. وقطعا هي ليست صدفة أن أول عبارة من كلمتين في هذا النص المكتوب إنما تحيل صراحة إلى الكلام؛ إلى الفعل الشّفاهي الإبداعي الخلاق في الحياة العربيَّة: «لكنهم يتكلمون» (ص7).
تدور الحكاية، أو الحكايات، في «رحلة غاندي الصَّغير» في زمن الحرب والقتل والاحتلال والمأساة، وتصور شخصيَّات غاية في الاستثنائية، وليس شخصيات منمَّطة. إنها شخصيَّات عجيبة (وليست عجائبيَّة) تمارس ردة الفعل على ما يجري في محيطها بطرق وأحاسيس غير مألوفة؛ فعلى سبيل المثال، لا تفقد ريما الإحساس بالاغتصاب فحسب، بل إن اغتصابها المُهين من قِبل أبو عبد الكردي على سُلّم البناية يصبح معادلا مفارِقا للحرية (ص 52)، ومثل أليس في علاقتها بطنُّوس، حيث لا تشعر بالغيرة من زوجته، أي الغيرة التي يفترض أن تشعر بها المرأة من زوجةِ رجل ٍتقيمُ معه علاقة، بل إنها «أحبته وأحبت أولاده وزوجته» (ص63).
غير أن إلياس خوري، وفي سياق المأساة اللبنانية ذاته، ينجح أيضا في توظيف حس الدُّعابة المرير عبر استكشاف قدرة اللهجة اللبنانيَّة على التعبير عن هذا المناخ بطريقة اعتادها المرء، تقليديّا، في الرواية المصرية، مثل المفتاح، زوج السِّت رشيدة، الذي «يتكلم عن سلاطين بني عثمان كأنهم من أقربائه». «يا عيني على عبدالحميد، بس غدروه يا مَرَا»، والمرأة تتأفف وتقول له أن يهتم بأسعار الطحين. «طحين أي طحين، هيدا بلد، إنتي ما بتفهمي»، ويذهب إلى مقهاه ويتعجب من هذا «اللبنان الكبير» الذي صنعوه. «قال كبير قال، الله يصغره، شو كبّره، ما نحن ما بدنا، نحن شو بدنا» (ص100)، ومثل المشهد الذي يروي لقاء الخواجة فيَّاض بشقيق القيصر الروسي في حيِّ السراسقة، وتخريجات فنتازيَّة تفتقت عنها عبقرية الأول لتفسير دلالات الملح والشموع التي استقبل بها الثاني من قبيل «المِلح، المِلح يعني أن روسيا هي مِلح الأرض» و«الشموع يا مولانا، الشموع يعني أن روسيا هي نور العالم» (ص 126)، ومثل الحوار الذي يدور بين رالف ومدام نهى حين تخبره بعزمها على الزواج من قسطنطين مخباط: «وبتحبيه»؟ «قلت لك بحبه، شو عم نلعب»؟ «وبتنامي معه»؟. «شوهالسؤال، طبعا»! «بتنامي معي ومعه بنفس الوقت»؟ «معك غير شكل، هوه بدي أتزوجه، انتَ شي تاني». «إنتِ شرموطة، تَعي» (ص81).
إلا أن استكشاف الطَّاقات الإبداعيَّة للهجة المحكيَّة لا يتوقف عند حدود الدُّعابة فاقعة أو عابثة أو «سوداء» في «رحلة غاندي الصَّغير»، بل إن محتملها التعبيري يصل إلى درجات التعبير البليغ عن الهاجس الصُّوفي العميق: «والله مراية، الله مراية بس الإنسان بيرفض يشوف وجهه. الله وجهه والإنسان بخاف» (ص165)، حيث يتناغم التعبير بالعاميَّة البسيطة عن هذه الفكرة الوجودية الكبرى مع مقولة أبي يزيد البسطامي الشهيرة: «كنتَ لي مرآة، فصرتُ أنا المرآة»، ولعل هذا سبب تصدير إلياس خوري روايته بهذه المقولة للبسطامي.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني