عمان الثقافي

ياسر الدحي عن المختلف في الكتابة والقراءة: الكتابة فخُ مشروط بالأنا

 
رغم البعد والنأي، ما زالت ذاكرة طفولته مشدودة إلى حضرموت اليمنية، مسقط ولادته، وعاصمتها المكلا، حيث تغذى على الميراث الثقافي اليمني الغني والمتنوع في الأدب والثقافة وتراث الأغنية والألحان والبيئة التي تستمد من انبثاقات وغزارة الميراث المادي واللامادي للثقافة والفنون المختلفة، ناهيك عن عيشه وسط أسرة أدبية كان لها تأثير كبير عليه. في هذا الحوار، لم نتناول تجربته الشعرية وأعماله بصورة مباشرة، بقدر ما حاورنا ملمحًا ونسقًا مهمًّا ومضمرًا في تجربته، وهو فلسفته في الكتابة من منظور التحليل الثقافي للمعرفة ذاتها والوجود ذاته وتناقضات الكتابة من حوله كمفهوم يحركه الشاعر والكاتب بالتغاير، حيث تتعدد الرؤى عندما لا يلقي الكاتب عباراته في الهواء، بل يجعل منها كائنات تطير فيه، فتشريح مفاهيمه عن الحرية والكتابة يفاجئنا عبرها بإمعان النظرة والتحليل العميق لكل ما يتعلق بجذر الكتابة واستنباتها في أرض الواقع واللغة والقراءة، ومحاذير التعاطي معها بسطحية الذهن أو الرؤى المحدودة.



ياسر دحي، كشاعر، يمتلك رؤية مغايرة في فلسفة الكتابة، من أين أتتك هذه الرؤية؟

لعلها تأتي من تأمل اللغة والكلمات، فالكلمات، بالرغم من أنها فعل للحرية، فإنها أيضًا فعل لبناء الأقفاص. أو كما يقول المتصوفة، الكلمات حجاب.

والكتابة في هذا السياق لا تخرج عن هذا المعنى؛ فهي فعل للحرية وفعل لبناء الأقفاص أيضًا، هذه الثنائية والتناقض في الكتابة بوصفها جزءًا من عالم الكلمات يجعلني دائمًا في حالة اضطراب و«شواش» كبير، مما يفتح أمامي علامات استفهام حول مدى حقيقتها وقدرتها، بل وجدواها، ففي اللحظة التي تظن فيها أنك تتحرر من خلالها، تكون في الحقيقة تقوم ببناء جدران وقضبان جديدة، كل ما في الأمر أن النافذة التي هربت من خلالها أصبحت قضبانًا ونافذة لسجن جديد، فلا ننسى أن الكتابة محكومة بشبكات الاعتقادات شأنها شأن «الأنا».

هل تعني إذن أن هذه «الأنا» في الكتابة وخارجها محاطة بسياج من الجدران المتلصصة التي قد تحد من التأمل لحظة الكتابة ذاتها؟ أم كيف؟!

عندما أكتب، أشعر أن هناك من يطاردني، أن هناك من ينسج الشباك من حولي وأنا أتحرر من خلالها «مني»، وأعلم جيدًا، وفي كثير من الأحيان، بل كلها، أنها «الأنا» التي بداخلي؛ الأنا الكاتبة، التي لطالما «تخشى» أن تراني من دونها، الأنا الكاتبة/ الكاذبة.

لذا، وهنا المفارقة، أجدني ألوذ بها -أي الكتابة- وأمارسها كهروب وفرار من احتمالية أن أكون وجهًا لوجه مع العزلة أو الوحدة، أن أكون وجهًا لوجه مع «اللاشيء»، مع «الفراغ»، مع «ما لا يحدث»، مع ذاك الصمت التام والسكون المطبق، الخالي تمامًا من أي انشغال أو ارتباط أو تعلق، صمت وسكون تام بلا محتوى يغذيه، بلا لغة، بلا كلمات.

قد ينظر إلى الكتابة كشكل من أشكال الدفاع والمقاومة أو «النضال والكفاح»، هاتان المفردتان اللتان استنفذتهما السياسة؟

نعم، هي كذلك، ولكن هذا ما يتراءى لنا على مستوى السطح، بينما في العمق، الكتابة هي فعل دفاع عما جثم في الأعماق، في أعماق النفس البشرية الكاتبة، فالكتابة في النهاية هي شكل من أشكال الدفاع النفسي عن «الأنا» وخوف هذه الأنا من احتمالية اختفائها أو رؤية حقيقتها بأنها محض زيف ووهم، وهم وزيف كل ما تدافع عنه من «شبكات الاعتقاد» و«شِباك الأفكار». و«الأنا» قد تكون فردية، وقد تكون «جمعية»؛ لا فرق.

وهل يمكن اعتبار الكتابة ملاذًا في هذا السياق للتخفي، أو هروبًا فرديًّا إلى عزلة أكثر اتساعًا للكاتب؟

الكتابة هي عملية هروب كبرى، وفرار من حقيقتي، من «كينونتي» التي هي جوهري دون غبار أو تراكم أو ذاكرة، دون لغة ودون كلمات، دون «أنا».

فيا للعجب من هذه الكتابة، كنت أحسبها أداة للتحرر من «أناي»، لكني وجدتها أداة نحو مزيد من تغذيتها، ولكن الذنب هنا ليس ذنب الكتابة؛ فـ«الأنا» لديها قدرة على الاحتيال والخداع وابتكار كل أساليب التمويه والتخفي، مع احتمالية القبض عليها متلبسة بتهمة ارتكاب الكتابة، فالكتابة أحد أشكال التمويه «المبتكرة» للأنا.

هنا، وفي ضوء ما سبق، تصبح الكتابة فعلًا ناقصًا وكلمات مثقوبة، إنها حبر على ورق ويظل في الورق، والكتّاب يستبسلون، ومهما حاولت الكتابة جلب المجهول، تظل محكومة ومشروطة بلغاتها، مشروطة بكلماتها، مشروطة بـ«الأنا» الكاتبة، الكتابة صياد كبير ومصيدة في الوقت ذاته، إن الكتابة فخ.

هذه الكتابة بوصفها فعل بناء للأقفاص كما تقول، ماذا عنها بوصفها فعل حرية وفعل تحرر برأيك؟

نعم، في سياق هذا الوصف، وعلى النقيض تمامًا منه، من الممكن أن نقول إن هناك جانبًا مضيئًا في الكتابة. فالكتابة في النهاية هي إثارة للقلق في كل شيء، إثارة للقلق في عصب الكلام، في عصب اللغة، في عصب الشيء في ذاته، وإثارة للقلق في عصب الكتابة نفسها، وفي الحياة، هكذا أمارسها.

فمن خلالها أجدني أُخرج أحشائي «الضارة»؛ لأن وجودها هناك ومكوثها في الداخل لمدة أو زمن طويل كفيل بتحويلها إلى سموم.

لماذا يكتب ياسر سعيد دحي؟ لماذا يمارس فعل الكتابة إذن، ويستمر في ممارسته؟

إنني أكتب هنا كي أتحرر مني، كي أتحرر من اصطيادي ووقوعي المستمر في الفخ ذاته والشباك ذاتها، فالكتابة الحقيقية هي التي تساعدك على التحرر منها وليس فقط التحرر من خلالها، إنها فعل تحرر من كل معلوماتها، من كم المخزون المعرفي الذي تحتويه، ومن كل أشكال الذاكرة وما علق بها من غبار تاريخي، أكتب هنا لأنني أريد أن أتحرر من «استدامة النزاع والصراع والانتحار في هذا العقل البشري»، ومن كل أشكال تعزيز هذه الاستدامة في هذا الانتحار.

أكتب من أجل مزيد من اتساع مساحة الحرية، واتساع مساحة الحب واستدامته في كل ما يحيط بي، فما فائدة كل أشكال الكتابة بكل تنويعاتها واختلافاتها طالما أنها «تحشيد» بطريقة أو بأخرى لحراسة ذات المعنى، لحراسة ذات الأقفاص والشبكات، لحراسة ذات «المستنقع»؟ ما فائدة كل هذه الأشكال في الكتابة إذا اكتشفنا فيما بعد أنها تحمل ذات «الشرطي»، وذات «العقلية الإلغائية» التي ترفض تعدد المعنى، وتعدد الرؤية، وتمنع أي انفجار في «المحتوى» لخلق وابتكار وإبداع «محتوى» جديد مغاير ومخالف لكل ما هو مألوف ومعتاد؟

إذن، بهذا المعنى، متى تصير الكتابة كفعلٍ مجاوزًا ومتخطيًا لذاته وظلاله في اللحظة والواقع والحياة أو الوجود بمعناه الأنطولوجي؟

الكتابة لا بُدّ أن تكون خروجًا ولحظة اختراق جديدة، لا تأكيدًا على «أذرع التقليد والحراسة» وكل أشكال شبكات اعتقال المعنى وتعدده واختلاف زوايا الجمال والفن. إنني أكتب ليس لأجل أحد، وليس ضد أحد بعينه، بل لأجلنا جميعًا على هذا الكوكب، وعندما أقول «لأجلنا»، أقصد جميع البشر والمخلوقات والكائنات، أقصد الجراد والضفادع والأطفال والأمهات والفراشات والطيور وبقية خلق الله. إنني أكتب حتى لا نتناثر شظايا ونيازك في الكواكب المجاورة بفعل انفجار كبير تسببنا به عبر مجموعة من «الحمقى» الذين أرادوا ذلك، فتسببوا في انتحارنا جميعًا.

فما الحل إذا كانت الكتابة مجرد فخ ومصيدة وفعل بناء للأقفاص، وفعل بناء «لصيدنا» مرارًا وتكرارًا؟

ربما يكمن الحل في التحرر من العملية كلها، التحرر «من الكتابة» نفسها، التحرر من كل أشكال السعي والمقاومة «من خلالها»، فالمعنى بعدد أنفاس الخلق، والجمال مهما سبرته لا يشفي الغليل.

وكيف يكون ذلك برأيك؟

من خلال الاسترخاء التام والكلي، الخالي من أي محتوى أو من أي شبكات اعتقاد. حينها ستحدث الحرية من تلقاء نفسها. وستختفي الكتابة. سيختفي القفص، ويختفي السجن. وستكتشف أنك من الممكن أن تحيا من دون الكتابة أيضًا.

ولكن هذا صعب جدًا، ويكاد أن يكون من المستحيلات، أليس هناك نصيحة تجعل الكتابة تستمر، وفي الوقت ذاته مساحة الحرية تتسع أكثر وأكثر، لدرجة أنه لا يمكن للسجن أن يُرى، وكأنه قد اختفى؟

ربما عندما يكون جذر الكتابة وأصلها هو الحُب والمحبة، فمن دون حُب ومحبة لا يمكن للكتابة أن تكون فعل حرية، حرية لك وحرية للآخرين، فعندما يكون الحُب جذر الكتابة، نكون أمام كتابة حرة. ومن دون ذلك، لا يمكنك الحصول على كتابة حرة، ولا يمكنك أن تتحرر. فكل ما هو ليس حُبًا، ليس حُرًّا، ولا يمكن أن يكون حرًّا دون حُب ومحبة. فأنا هنا، وفي فضاء الحُب، أكتب كي أتحرر مني، كي أُخرجني، كي أتخلص مني، أتخلص «من دوني». أكتب من دون «أنا» كاتبة. أكتب من دون «أنا» تكتب، وهذا هو ممارسة فعل «المكابدة» وأنت تكتب.

ما الكتابة التي تنشدها، والتي تطاردها بدل أن تطاردك، تلاحقها بدل أن تلاحقك؟

ربما كتابة يكتبها الجسد بكامل أعضائه وحواسه بوعي تام وكلي، كتابة كحالة وعي وليس كحالة عاطفية، هذه هي الكتابة التي أنشدها: ملاحظةً، انتباهًا، ويقظةً في الوعي والإدراك، أما تلك الكتابة التي تكتبها «عضلة» في الكلام، «عضلة» في الألفاظ والمفردات، عضلة أشبه بتورم في معجمها، عضلة للاستعراض اللغوي والمحاججة والانتصار على الآخر، كتابة كتورم في الشعور والمشاعر، فهي كتابة في الوهم والزيف، كتابة ضد الجمال، وضد الحقيقي والكوني في هذا الوجود.

إذن أنت تمارس الكتابة كفعل تحرر من «البنية الإلغائية» التي تنتج شبكات الاعتقاد المليئة بالاضطرابات والأمراض النفسية، وبالتالي تؤدي إلى الأمراض والاضطرابات النفسية، الثقافية، والاجتماعية في العقل البشري؟

نعم، أحاول أن أمارس نوعًا من الكتابة تحررني، وبالتالي تحرر الآخر من البنية الإلغائية لتلك «الحشود» من الصفات (يميني، تقدمي، محافظ، اتباعي، إبداعي، تقليدي، مجدد... إلخ)، فكل هذه الصفات بلا استثناء هي كتابات أيديولوجية و«شبكات اعتقاد» تعمل بشكل مضنٍ لتوسيع «مساحة الإلغاء»، إنها سجون بمسميات مختلفة، وكلها تستند إلى بنية الرفض التي تحول دون السماح للتقبل وقوته بالتدفق، وبالتالي منع فضاءات الاحتمالات التي سيحدثها ويفجرها هذا «التقبل» في «جسد المكتوب»، ويمنع السماح للجمال من الحدوث. وهكذا، يمنع التنوع والتعدد في الكتابة من أن يسيل في شرايين اللغة.

إن أسوأ أنواع الكتابة هي تلك التي تريد تحقيق انتصار ما على الآخرين، فكلما اتسعت مساحة الرفض فيك، اتسعت مساحة الموت والاندثار والاحتضار المستمر، وكلما اتسعت مساحة التقبل فيك، اتسعت مساحة الولادات الجديدة.

هذه هي «الكتابة المضيئة» التي أحاولها وأكابدها، كتابة تجد الكل حاضرًا فيها، والكل هنا ليس البشر فحسب، بل المخلوقات والكائنات وكل الموجودات والأشياء، فما أحوجنا إلى «رؤى» متعددة ومتنوعة للعالم، للوجود، وللموجودات، دون إلغاء، دون سخرية، دون تهكم، دون استعلاء، غرور، عنف، أو كراهية، بهكذا كتابة، ستتفجر ينابيع جديدة في جسد اللغة، وستذهب الكلمات بعيدًا، متحررة. لا عقم إلا في الرفض، ولا تناسل إلا في التقبل، هذا هو شعاري في ممارستي للكتابة.

ماذا عن القراءة؟ كيف يمارسها ياسر سعيد دحي؟ كفعل مكابدة هي الأخرى للتحرر والحرية في الآن معًا؟ أم تراها أيضًا فعل بناء للأقفاص كما تردد دائمًا؟

القراءة، هذه المفردة العزيزة والثمينة جدًا عليّ، هي فعل حرية أيضًا، إنها تلك العادة التي تحررني، ولكن في الوقت ذاته تزيد من نسبة السموم والدهون الضارة في «شحم» الذاكرة، وتصيبني بتورم في المعلومات وتضخم في كمية «الإجابات» المخزنة. فنحن نعلم أن أي شكل من أشكال التخزين الطويل يؤدي إلى «تعفن ما» في المادة المخزنة، وبالتالي تصبح تلك الإجابات «سمًّا» آخر بدورها. إن تخزين المعلومات والمعارف لفترة طويلة في الذاكرة والعقل، وإعادة استخدامها وتدويرها لأكثر من مرة رغم اختلاف الظروف، الزمان، المكان، والأشخاص، يجعلنا أشبه بـ«براميل القمامة» أو شركات لتدوير النفايات.

ما القراءة التي ينشدها ويمارسها ياسر دحي؟

القراءة التي تساعدني على التحرر منها وليس التحرر من خلالها فقط، شأنها شأن الكتابة، إنها فعل تحرر من كل معلوماتها وكم المخزون المعرفي الذي فيها. إن أكبر دليل على حبنا للقراءة وقراءة ما نحب هو التحرر من كل ما نقرأ. في القراءة، عليك أن تقرأ وأن تتحرر مما تقرأ بشكل مستمر. هذا هو فعل قراءة، وهو فعل وحيد ولا فعل آخر حقيقي لها.

أنت هنا تقف على النقيض تماما من ذلك النوع من القراءة الأيديولوجية، ذلك النوع الذي يعزز شبكات الاعتقاد فيها بدل التحرر منها؟

القراءة الأيديولوجية شكل من أشكال ممارسة العنف على النصوص، وفضح «للبنية النفسية» القابعة خلف هذه القراءة وشبكات تفكيرها. وهي أيضا تفضح المتلقي ومن هو، وكيف أن المتلقي هو أحد «أقفاص النص» إن لم يكن المنتج الأول لها بعد المؤلف. إذ إنه حتى المؤلف يبني «أقفاصه الخاصة وسجنه» بينما يبني نصوصه. لذا لا وجود لنصوص «حرة» إلا في الوهم وعالم الخيال.

ماذا عن المتلقي هنا وأنت تمارس فعل الكتابة بهذا المعنى؟

أستطيع أن أرى مدى احترامك للقارئ واحترامك للمتلقي، بما تكتبه. بما في هذه الكتابة من أسئلة، من خيال، من خلق وابتكار، من جديد، من فضول ومتعة ومن تأمل. فالكتابة لكي نتقدم لا لكي نقدم وتتسع مساحة القديم فينا. مع الأخذ بعين الاعتبار أن المتلقي قد يحررك أكثر وقد يقبض عليك ويعتقلك أيضا. المتلقي قد يكون فضاءات ومناطق جديدة للنص، قد يكون أداة كشف وكشوفات وتفجر له، وقد يكون أداة نفي وقمع وجسر أو «تسهيل» لوصول البوليس الثقافي والفني إلى النص والقبض عليه وعلى صاحبه. إن المتلقي شرطي أيضا. وهنا المفارقة.

نحن هنا أمام إشكالية كبرى في كيفية تلقي النص في الكتابة والتعامل معه بعيدا عن التلقي «الأيديولوجي» له وما له علاقة «بشبكات اعتقاد» المتلقي السائدة؟

نعم عزيزي إننا نمارس عملية التلقي كما يمارسها «المفتش» في عملية التفتيش. إنها «عملية تحقيق بامتياز». التعامل مع النص هنا ليس تعاملا مع النص في ذاته ومساحة الإبداع والفن والجمال الذي فيه، بل للتحقق من حجم الصواب والخطأ وهل هو مع أم ضد. إنه تعامل مع النص ليس بوصفه عملا إبداعيا أو ابتكاريا بل بوصفه «تهمة» يجب التحقق منها، يجب التحقق من وجودها من عدمها. وحتى ذلك الحين سيظل «النص» متهما حتى تثبت براءته.

إننا نتعامل هنا مع النص المخالف وبالتالي الكتابة المخالفة كطريدة يجب اللحاق بها لا لشيء ولكن لتصفيتها والخلاص منها. هذا شكل من أشكال «التلقي» السائدة. وهو تلق ليس واعيا ولا مدركا أو منتبها بل تلق لا واع قادم من أعماق البنية النفسية المتحكمة والمحركة لكل أشكال التفكير لدى المتلقي. إن البنية النفسية لدى المتلقي هي التي تحرك كل أشكال المطاردة لأي نص مخالف، مجهزة بذلك بكل «أجهزة المعتقدات وشبكات التفكير» وأسلحتها الفتاكة للإجهاز عليه والتخلص منه، وبالتالي للإجهاز والتخلص من صاحبه. باختصار شديد إننا نتعامل مع «النص كتهمة» ونمارس التلقي «كتفتيش».