عمان الثقافي

من فيض مسرود «مجهول الحــــــال» للكاتب سعيد بنسعيد

 


1) عن طاقة العتبات الإغرائية:

بمجرد الوقوف على العتبات الأولى لهذا العمل، يجد الواقف نفسه ينجذب إلى عتبة عنوانه المشَكَّل من مركب إضافي هو «مجهول الحال»، ولعل مردّ هذا الانجذاب يعود في البدء إلى وقع كلمة «مجهول» في النفس، إذ تحرك فيها رغبتها الفطرية في البحث والمعرفة، وتثير فضولها وتشوقها لاكتشاف الجديد، والتقصي عن كل ما بدا لها غير مألوف أو معروف.

كما أن الكلمة المضافة إلى «مجهول» وهي «الحال» فإنها ما فتئت، إلى يوم الناس هذا، محطّ استفسار وسؤال، أفليس أول ما يبادر به المرء في مستهل أي اتصال وفي بداية أي لقاء هو السؤال عن الحال والأحوال؟!

ثم لما كانت بعض عناوين صاحب هذا العمل، التي تخيرها لمؤلفاته الروائية السابقة، تركز تارة على الحدث، مثل رواية «ثورة المريدين»، وتارة تتمحور حول المكان - الفضاء، مثل رواية «حبس قارة»، وطورا على الزمان، مثل رواية «سبع ليال وثمانية أيام»، فإنه في هذه الرواية قد عمد إلى التركيز فيه على «الشخصيات»، وبذلك يوجه اهتمام المقبل على هذا المسرود ويجذبه إلى هذه الشخصية موضوع الإخبار، ومدار السرد المنتظر، وقد انثالت عليه مجموعة من التساؤلات والتوقعات والافتراضات، في محاولة لرسم ملامح هذا المجهول، وتقريب صورته، وملامسة هويته، وهو مما يدفعه دفعًا إلى الدخول إلى عالم النص ومباشرة فعل القراءة.

وبينما هو يهمّ بفعل ذلك، يصادفه تصدير يسبق المتن الحكائي المرتجى، وإن كان هذا التصدير يعد من الجانب التلفظي والموضوعاتي جزءا لا يتجزأ من المتن، فيزيده تشوقا وترقبا، وإحساسا بالحاجة الملحة للشروع في عملية القراءة، لكونه تضمن نفس التساؤلات التي راودته قبل الإقدام على طي صفحة الغلاف، إذ يجد في هذا التصدير مقتطفا من ملحمة الأوديسة، وهو محمَّل بجملة من الأسئلة حول هوية أحدهم، من قبيل: «هل يسمح ضيفنا فيذكر لنا اسمه الحقيقي الذي يعرفه به آله ويدعونه به؟ فهل وُلد أحد ولم يحمل اسما؟من أنت أيها العزيز وما بلادك؟»(ص6)، ثم يطالعه مقتطف آخر في هذا التصدير اجتُزئ من رواية «دون كيخوط دي لامانتشا» مكثف بالإيحاءات والدلالات الرمزية، وهو يصور الحالة المأساوية التي آل إليها بطلها الفارس السيار، الذي تملكته أحلام المجد والبطولة، والسعي وراء تحقيق العدالة المنشودة، الأمر الذي يجعل المتمعن في هذا التصدير يتساءل إن كان هذا المجهول هو صورة لبطل هذه الرواية، منهجا وموقفا، أو ربما تجمع بينهما أواصر قرابة وتشابه، أو لعلهما شخصيتان متماهيتان ومتطابقتان في المسار والمصير.

كل هذه التساؤلات والافتراضات تغري صاحبها وتزيد من شهية المعرفة لديه، وتضاعف من منسوب تحمسه؛ كي يقرأ العمل ويتعرف على عوالمه وشخوصه وفضاءاته وملابساته، عساه أن يجد فيه ما يشبع الفضول الذي اكتنفه، ويبدد الغموض الذي لازمه وغالبه.

2) عن مدارات المتن الحكائية:

على نهج الصنائع اللحنية للموسيقى الأندلسية، يستهل السارد متنه الحكائي باستهلال ثم يختتمه بانصراف، وما بين الاستهلال والانصراف، يتشكل مجرى متخيَّله السردي وقد تشابك فيه ما هو تاريخي وإيديولوجي وسياسي وثقافي واجتماعي، فضلا على ما هو نفسي وروحي ووجداني، فيطفو على سطح الأحداث ما يطفو، ويغوص فيها ما يغوص، ويتوقف عن مجاراة تدفقها ما يتوقف.

تتناول الرواية قصة مغترب عاد من فرنسًا بعد مدة اغتراب دامت أربعة عقود؛ إثر رحيله إليها في سبعينيات القرن الماضي، هروبًا من لظى الاعتقال الذي لحقه جرّاء المتابعات التي تلت واقعة «أحداث مولاي بوعزة»، هذا المغترب الذي عاد إلى وطنه محمّلا بذكريات الماضي وأسراره وآلامه وأحلامه... لم يُكشف عن اسمه أو نسبه، فنائب القنصل العام بباريس الذي سهر على إجراءات عودته لقَّبه بـ«قيدوم المغتربين»، وأصدقاؤه في المغرب ورفاق دربه في النضال: «محمد رضا الهواري» و«مصطفى القلعي» و«حامد بن علي» يلقبونه بـ«قالت لخلها ثريا»، وهو «الأمير الأحمر» عند سليمان الهبطي المسؤول السابق في البوليس السياسي الذي كان وراء اختطافه وتلفيق تهمة التآمر له، رغبة في التخلص والانتقام منه، وحقدا على الحب الذي كان يجمعه بابنة عمه «ثريا الهبطي» التي كان متعلقا بها، عامدًا إلى إبعاده من حياتها حتى يتسنى له الارتباط بها، لكن هروب «مجهول الحال» من قبضته في ليلة ممطرة حالكة، أبطل كل تدبيراته، وأفشل جميع مخططاته، لتتوالى عليه بعد ذلك الخيبات والهزائم والانتكاسات من كل المناحي والجهات.

هكذا إذن تتخذ الرواية سياقها المرجعي من الأحداث التي شهدها المغرب مطلع السبعينيات، إثر الواقعة التي عُرفت بأحداث «مولاي بوعزة» في 3 مارس سنة 1973 عندما هوجمت ملحقة عسكرية ضواحي مدينة خنيفرة من قِبل عناصر مسلحة تنتسب إلى ما سُمّي وقتئذ بـ«التنظيم السري» الذي جنح إلى الخيار المسلح في مسار المعارضة التي كان يقودها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في تلك الفترة من تاريخ المغرب السياسي.

تقارب الرواية هذا الحدث في شموليته ودلالاته وأبعاده ورمزيته، ومن خلاله تساؤل التجربة النضالية في المغرب بعد الاستقلال، مساءلة المتأمل الذي أخذ مسافة ومساحة زمنية شاسعة تسمح له بحسن إمعان النظر، والبعد عن التوهم، في محاولة لافتحاص واستقراء ما مضى، قصد فهم وإدراك ما هو قائم، واستشراف ما هو قادم وآت، فاتحا نقاشا هادئا، وحوارا شفيفا مع القارئ الذي يستدعي فيه كل قدراته المعرفية، وتراكمات خبراته الحياتية، والتصورات التي يحملها حول التاريخ والسياسة والفكر والأدب والواقع والتخييل، لملء الفراغات، وسد الفجوات التي تخللت الحكي عن سبق تصميم وإصرار وتعمد.

وبالموازاة مع هذه المساءلة والمكاشفة، تسلط الرواية الضوء من خلال شخوصها المحركة للأحداث على نماذج إنسانية متباينة، استبطن الكاتب أغوارها وكشف عن بعض ما يعتمل داخلها من هواجس ونوازع، واحتدام للصراعات والتمزقات النفسية، إذ نسج خيوطا متشابكة من العلاقات المعقدة بينها، استطاع من خلالها مقاربة تناقضات النفس البشرية وتجاذباتها الحادة، الأمر الذي قد يدفع قارئ هذا العمل إلى ممارسة صلاحياته التأويلية، ليغير عنوانه من «مجهول الحال» إلى «مجاهل الأحوال».

الغياب والعودة، الوفاء والخيانة، الحب والكراهية، الخوف والسكينة، الضعف والقوة،اليأس والأمل...كلها ثنائيات قطبية متعارضة متضادة حاول الكاتب محاورتها، محرضًا على المزيد من التأمل والتدبر في تجاويف أعماق الذات الإنسانية، وكأنه بذلك يلمح بأن أكبر صراع، وأخطر تجربة يجدر خوضها في هذه الحياة كي يحظى الإنسان بالاطمئنان والاتزان، ويقترب من حالة الصفاء والسكينة، تكمن في سبر أغوار النفس، وتطلُّب استبطانها، واعتلاج تناقضاتها، قصد العمل على تحليتها وتصفيتها مما علق بها من عيوب وشوائب.

3) عن ألاعيب الكتابة السردية:أ) لعبة التكتم والإخفاء:

لعل أول لعبة سردية انتهجها الكاتب، مضفيًا من خلالها متعة ذهنية وحيوية وتشويقا لمسروده؛ لعبة التكتم والإخفاء التي توسل بها عندما عمِد إلى تحرير شخصيته المحورية من أي اسم يؤطرها أو لقب قد يسمها، ويوحي للأذهان بصورة تقريبية حولها، استنادا إلى الحمولة الدلالية والرمزية التي يحملها الاسم، سواء في العمل الأدبي التخييلي أم في عالم الواقع؛ فالقول المأثور المشهور يقول: «كأنّ أقدارنا تُطوى في أسمائنا»، بينما يقول آخر : «لكل امرئ من اسمه نصيب»، فشخصية «ثريا» مثلا في هذا المتخيَّل السردي كان من نصيب اسمها: العلو والسمو، والبهاء والجمال، وبعدُ المنال، وقد وظِّفت رمزًا للسعادة المأمولة والحلم المنشود، كما أن اسم «سليمان» عميد الشرطة، يُلقي بشحنات دلالية تقترن بالقيادة، والسلطة، والقوة، والعظمة، لارتباط هذا الاسم في الوعي الجمعي بشخصيات قيادية معروفة: النبي والملك سليمان، الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، سليمان القانوني، السلطان مولاي سليمان..»

بينما ارتأى الكاتب في تعامله مع شخصية البطل أن يمارس حيلة التكتم والإخفاء، فلا يفصح لقارئه عن اسمه، ولا يصرح بلقبه، مخلخلا أقانيم وطرق السرد المعهودة في أساليب التعريف بالشخصيات، ولعل لعبة الإخفاء هاته قد اضطلعت -على الأقل- بثلاث وظائف متداخلة ومتماهية فيما بينها:

- وظيفة سردية فنية: من خلال شد المتلقي إلى المسرود وتحفيزه على تتبع أحداثه وتفاصيله في ترقب وشغف، أملا في تحديد الهوية الكاملة لهذا المجهول، وإشباع نهم الفضول الذي حفَّه منذ وقوفه الأول على عتبة العنوان.

- وظيفة حجاجية: من خلال تقويض دور الاسم في تشكيل الهوية الشخصية العميقة، إذ لا يعني الاسم أو اللقب شيئا بمعزل عن المبادئ والقيم والأخلاق.

- وظيفة رمزية: من خلال إطلاق ما يرمز إليه هذا البطل، من نبل وإخلاص وصفاء نضالي، من أي قيد قد يعرضه للانحصار أو المحدودية، فجعله محررا يتجاوز حدود الأسماء والألقاب، ويتخطى ضيق الخصوص إلى رحابة العموم؛ لأنه يعكس مجابهة وجودية محتدمة، تصبح فيها الأسماء مجرد نكرات أمام حجم المطامح وسعة الحلم.

ب) لعبة تبادل الأدوار:وثانية هذه اللعب التي أقام عليها الكاتب نظام سرده، لعبة يمكن نعتها بلعبة تبادل أدوار السرد، بين سارد متحكم عليم، وآخر فاعل مشارك، وثالث شاهد ومفارق، فالسارد المتحكم العليم أوكلت إليه مهمة تحريك العملية السردية، وتنظيم مسارها، وتوجيه أحداثها منذ بدايتها إلى نهايتها، لكنه أثناء هذه العملية كان يحرص على مناولة زمام السرد لسارد آخر من شخوص الرواية، ليشاركه نقل الأحداث وتقديم الوقائع من زاوية نظره الخاصة، معبرا عن أفكاره وشهاداته، وما يختلج داخله من مشاعر وهواجس ولواعج، جاعلا (أي السارد المتحكم العليم) من هذا السارد الفاعل المشارك شخصية سير ذاتية، تستحضر ذكرياتها عن الناس والمكان والزمن، بضمير المفرد المتكلم (أنا) عارضة أوصافها الجسدية وصفاتها النفسية، بينما يتحول السارد المتحكم العليم إلى متلق ومستمع ومسرودٍ له، ويمكن التمثيل لذلك من خلال المقطعين السرديين التاليين الواردين في الصفحة 31 و الصفحة 116 على التوالي:

فقد ورد في الصفحة 31 ما يلي «تقلب محمد رضا الهواري في فراشه عدة مرات. مضى من الليل شطر غير قليل وهو يستجلب النوم. يحتال بكل وسيلة يملكها وأخرى يتوهمها (...) تقلب في فراشه مرات أخرى ثم دفع بالدثار بقدميه، ألقاه بعيدا من الفراش في عصبية. استوى جالسا في فراشه وهو يغمغم.

ثم تعود لتذكرني أنها سبع وأربعون! أتدرك مغزى ما تقول يارجل؟ سبع وأربعون سنة فسحة من الزمن قد يعجز عن ملئها عمر الكثير من الناس. ما عاش أبي سبعا وأربعين عاما، مات دون ذلك. رحمك الله يا والدي، وُلدت ونشأت وحاربت وتزوجت وأنجبتني ثم سافرت ورجعت. ثم اختطفك الموت ولم تبلغ عامك الرابع بعد الأربعين. «اختطفك الموت شابا» كذلك تقول جدتي كلما هاجمتها ذكراك، وذِكرُك لا يفارقها».

في هذا المثال، نصادف ساردا فاعلا مشاركا في عملية السرد وهو «محمد رضا الهواري» الذي أخذ الكلمة من السارد العليم ليتابع سرد تفاصيل حياته وملابستها، دون أي حواجز أو تدخلات ممن ناولَه هذه الكلمة، ليفهم المتتبع دوافعه ويتبين موقفه مما يحيط به من وجهة نظره الخاصة.

أما فيما يخص المثال الثاني من الصفحة 116، والتي ورد فيها القسم الثامن من الرواية، فقد افتُتِح السرد بما يلي: «لست أدري ما إذا كنت برحلتي القصيرة إلى مكناس، قد أحسنت صنعا أم أنني، على العكس مما كنت أقدر، جانبتُ الصواب. أما الأكيد فهو أنني، طيلة اليومين اللذين استغرقهما السفر، أحدثا شيئا ما في النفس، (...) تلك المشاعر البعيدة التي أجهد النفس في استعادة صور منها، قد غدت باهتة، باردة مثل ظل كئيب يرتسم فوق جدار تكسوه الرطوبة وتنتزع التعرية أطرافا منه في دروبنا في مكناس».

ففي هذا المثال، يتكفل السارد الفاعل المشارك «مجهول الحال» بأخذ مبادرة سرد الأحداث، في حين يغيب السارد العليم عن الحضور، ويتوارى صوتُه عن الظهور إلى نهاية السرد، الأمر الذي يجعل القارئ مشدودا إلى المسرود، مصغيا إلى البوح ودقائقه الكامنة فيه، المنقولة بضمير المتكلم، الذي يعد ضميرا يوحي بالثقة المصحوبة بالواقعية والتلقائية والعفوية، فيضفي بذلك على المحكي طابع المصارحة والحميمية.

وثالثة أثافيّ لعبة تبادل الأدوار، هي السارد الشاهد المفارق، الذي اقتصرت مهمته على التدخل بين الحين والآخر لتقديم شهادته حول المروي والتعليق على بعض ما ورد فيه، بعد رصده وتتبعه، دون فعل المشاركة في وقائعه، محاورا إياه حوارا مقتضبا ومكثفا، غالبا ما يستدعي له شخصية «دون كيخوط دي لامانشا» في ممارسة تناصية دالة على عناء البحث عن المعنى، ووهم تحقق المثالية، ومكابدة واقع الحياة القاسي، ويمكن التمثيل لحضور هذا السارد الشاهد المفارق من خلال المقطع التالي: «والعبرة -فيما ذكره السنيور سيرفانطيس في حكاية جلية واضحة وأحسب أنها تصور حال الإنسان في العديد من أحواله وأفعاله أيضا. أليس الإنسان، في أطوار كثيرة من حياته وفي العديد من الأحوال النفسية التي تعترضه، يقبل على محاربة أعداء ليس لهم وجود إلا في خياله»؟ (ص 176)

ولعل صوت هذا السارد قد اضطلع، من الجانب الفني، بمهمة خلخلة سيرورة السرد، وتكسير خط تسلسله وتدفقاته المتلاحقة؛ ليخلق فسحة للقارئ تسمح له بالخروج جزئيا من عالم القصة ومداراتها، لإثارة تساؤلات حول طبيعة الحقيقة ومدى تماهيها مع الواقع والخيال، ودفعه إلى تكوين أو استخلاص رأيه الخاص حول ما حدث وما قد يحدث.

ج) عن تقنيات التصوير السردي:لما كان هذا النص الروائي لا يخلو من تأملات عميقة، تروم جوهر الإنسان وصراعاته النفسية الداخلية التي تملؤه، وسط جملة من الاضطرابات المحيطة به، سعى الكاتب، قصد ملامستها والاجتهاد في فك خيوطها المتشابكة، إلى توظيف آليات التذكر والحلم والاستيهام، مع الاستعانة بتقنيات التصوير السردي القائم على صور التشبيه والتذويت والاستبطان، فضلا على الإمكانات الفنية للحوار الداخلي الذي تجريه الشخصيات مع نفسها بضمير المخاطب «أنت».

ولعل من بين الشواهد التي يمكن إدراجها، تمثيلا لهذا التصوير، شاهد لمقطع سردي تفاعلت فيه كل هذه التقنيات بطريقة متواشجة وفنية ماتعة، تجري فيه شخصية سليمان الهبطي حوارا داخليا مع نفسها، إذ تقول: «نومك يا سليمان رعب متصل ويقظتك عذاب ملؤه ذكريات الهزيمة والإهانة وقد تلونت بألف لون ولون،الإهانة، وقد التصقت بالهزيمة فانتقشت في باطنك وشما قبيحا.وشم لا ينمحي. يطل شريط الإهانات والهزائم برأسه فيأبى إلا أن يعمل في الجرح الغائر نصلا يغرزه.. جرح يستعصي على الالتئام»(ص53)

تستبطن هذه الصورة السردية الحالة النفسية التي آل إليها عميد الشرطة سليمان الهبطي بعد خيباته المتلاحقة وانتكاساته المتتالية، معبرة عن الانفعالات والمشاعر الداخلية المستضمرة في أعماقه؛ مشاعر الألم واليأس والهزيمة والإحباط، وقد حفل هذا المقطع بصور التشبيه (نومك رعب، يقظتك عذاب) والاستعارات (يطل شريط الإهانات برأسه - الإهانة وقد تلونت بألف لون) وتكرار الملفوظات (الهزيمة ــ الإهانة ـ الجرح ــ الوشم ...) التي ساهمت في نقل حالة الانهيار النفسي لهذه الشخصية، مع تقوية الإحساس بوطأة المعاناة التي ترزأ تحتها.

إن هذا التصوير النفسي الذي طبع رواية «مجهول الحال» أضفى عليها عمقا إبداعيا متميزا، أثار ملكات القارئ من أجل خوض تجربة السفر بين مجاهل مختلف النماذج الإنسانية المعروضة أمامه، استزادة للفهم، وإمعانا للنظر في خبايا وأسرار النفس البشرية.

4) على سبيـل الكلمة الختامية:

إن «مجهول الحال» بكل ملابساته وأساليبه وألاعيبه الفنية، يسعى إلى قارئه على قدمين ثابتتين هما: المعرفة والمتعة، حاملا بين يديه دعوة إلى البحث عن حقيقة الذات، وغاية وجودها، وسط اضطرابات محيطها، مع العمل على تصفية فصيلة دمها النفسية، في أفق إعادة تشكيلها، وترميم تشظياتها، قبل الإقدام على إعادة تشكيل الواقع، وترتيب نظامه من جديد.

1- العمل للكاتب المغربي سعيد بنسعيد العلوي، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب ، الطبعة الأولى،2024 .

الإحالة إلى صفحات الرواية تتم داخل متن القراءة.