الألعاب الأولمبية في العصور القديمة..هل كان لها بُعد سياسي؟
الأربعاء / 21 / ربيع الأول / 1446 هـ - 11:24 - الأربعاء 25 سبتمبر 2024 11:24
الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز
غالبًا ما ننظر إلى الألعاب الأولمبية القديمة في بُعديها الرياضي أو الديني، وباعتبارها النموذج الذي استلهمته الألعاب الأولمبية الحديثة إبّان نشأتها، فإنها تستحق أن نتساءل أيضًا بخصوص العنصر السياسي الحاضر في هذه الألعاب.
لنذكّر أولًا بأن الألعاب الأولمبية في العصور القديمة، على غرار الألعاب الحديثة، كانت عبارة عن مسابقات رياضية وفروسية بين مواطنين ينحدرون من دول عدّة. غير أنها -وعلى العكس من الألعاب الحديثة- كانت حكرًا على الإغريق ويتم استبعاد كل من لم يكن ينحدر من إحدى الدويلات (أو الدول المدن) الإغريقية العديدة والمشتّتة، وهي كيانات مستقلة كان لكلٍّ منها أراضيها ونظامها السياسي الخاص بها.
إن لم تشكّل المدن الإغريقية كيانًا سياسيا متوحدًا، إلا أنها كانت تشكّل مجتمعًا ثقافيًا واحدًا يتقاسم نفس اللغة وشعورًا بصلة القرابة وممارسات متطابقة، ثم إنها أيضًا كانت تتشارك العبادات والأماكن المقدسة، وعلى رأسها معبد الإله زيوس في أولمبيا.
وفي حرم أولمبيا كان الإغريق ينظمون كل أربع سنوات مسابقات رياضية تدوم بضعة أيام خلال فصل الصيف، والتي كان يُشترط أن يكون المشاركون فيها مواطنين ذكور ينحدرون من إحدى المدن الإغريقية (وليس فقط مهاجرون يقيمون فيها)، وكان الشرط نفسه يسري على المتفرّجين.
المنافع السياسية التي يجنيها الفائزون
من أجل الحكم على البُعد السياسي لهذه الألعاب، فإن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان المتنافس يشارك في الألعاب بصفته الفردية، وما إذا كان يحصّل من فوزه أي منفعةٍ شخصية أو سياسية في المدينة التي ينحدر منها. لنقل بدايةً أنه ومن أجل المشاركة في الألعاب، فإن المواطن الراغب في المشاركة يتقدّم من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى الموافقة المبدئية للمدينة التي ينحدر منها، إذ إن هذه الأخيرة لا تقوم بإجراء أي عملية للاختيار بين المتبارين، كما أنه لم يكن ثمّة وفود رسمية تمثّل المدن أو ما يماثل اللجان الأولمبية الوطنية في عصرنا اليوم.
لكن الشيء الأهم لم يكن هو المشاركة وإنما الفوز، خاصّةً أنه كان هناك فائزٌ واحد فقط في كل مسابقة رياضية، ولم يكن هناك ما يعادل الميداليات الفضية والبرونزية للمراتب الثانية والثالثة كما اليوم. لقد كان الفائز الأول هو وحده من يظلّ اسمه عالقًا في الذاكرة ويوُصف لبقية عمره بـ «البطل الأولمبي»، في جميع أنحاء العالم الإغريقي.
وبالنسبة للفائز المحظوظ، فإن الفوز في الألعاب في حدّ ذاته لم يكن مصدرًا مباشرًا للثروة، حيث إنه لم يكن يحصل كجائزة سوى على إكليلٍ من الزيتون، وهي مكافأة رمزية بحتة تُكسبه مجدًا يتجاوز حدود مدينته.
أما بعد العودة إلى مدينته، فإن البطل الأولمبي قد يحظى بمزايا تتنوع بحسب الحالة: المال أو الطعام على نفقة الدولة أو مكان شرفي في المسرح أو التصويت على مرسوم فخري يُحفر على تذكار حجري أو نصب تمثاله في قلب المدينة أو حتى التكفّل بنحت صورته في معبد زيوس في أولمبيا.
وفضلًا عن هذه المكافآت المادية والفخرية، فإن الفائز في الألعاب الأولمبية كان يحظى بهالةٍ من المجد تسهّل عليه الولوج إلى مناصب السلطة والوجاهة داخل المدينة. ففي إسبرطة مثلا، كان بعض الأبطال الأولمبيين يحظون بشرف القتال إلى جانب الملك الذي يقود المعركة. وفي كروتوني (مدينة تقع جنوب إيطاليا)، وُضع البطل الشهير ميلو (Milo) على رأس قوات مدينته في حربها ضد غريمتها سيباريس.
أما في أثينا، فإن مثال ألسيبياديس (Alcibiades) يعدّ غايةً في الأهمية، فبعد أن حقّق هذا الرجل السياسي الإنجاز المتمثل في حصول عرباته على المراكز الأولى والثانية والرابعة في نفس السباق عام 416 قبل الميلاد (شارك بسبع عربات في نفس السباق)، لم يتوانَ خلال حملته الانتخابية عن تذكير المجلس الديمقراطي لمدينته بإنجازه باعتباره حجّةً على أهليته للقيادة، ودليلًا على أنه الأجدر بممارسة المسؤولية العسكرية والسياسية التي كان يسعى وراءها.
وإذا كان الفوز في الألعاب الأولمبية يعود بالمنافع وبالمجد على الفائز وعائلته، فهل كان هذا النصر ينطوي على مزايا بالنسبة لمدينته؟ هل كان الفائز الأولمبي ممثّلًا لمدينته، وأي دورٍ كانت هذه الأخيرة تلعبه قبل فوزه وبعده؟
المتنافس الأولمبي ممثلًا لمدينته؟
لقد أوضحنا من قبل أن المدينة لم تكن تختار المتنافسين الذين يمثّلونها في الألعاب الأولمبية غير أنها كانت تكافئ الفائزين منهم، ويعدّ ذلك بمثابة تشجيعٍ غير مباشر لهم على المشاركة (من أجل الفوز). وذلك لأن المجد الذي يكتسبه المنتصرون ينعكس على نحوٍ لا يمكن إنكاره على مدنهم، والتي يُعلن عن أسمائها مباشرة بعد الإعلان عن اسم الفائزين أثناء تتويجهم - وهو ما يشبه تقريبًا رفع العلم الخاص ببلد الفائز وعزف نشيده الوطني اليوم. ومن جهة أخرى، فإن الفائز إذا نُصب له تمثال في أولمبيا تخليدًا لذكرى فوزه، فإن قاعدة هذا التمثال تشير إلى اسمه ونوع الرياضة التي فاز فيها، هذا فضلًا عن اسم مدينته والتي يأتي ذكرها في المقام الأول أحيانًا.
وبالتالي فليس من المستغرب أن تكون المدينة هي نفسها من يتكلّف بتمويل هذا النّصب التذكاري في بعض الأحيان؛ لأنها تستفيد على مستوى المكانة والشرف المترتّبيْن عن ذلك. وللسبب ذاته كانت المدينة تنصب تمثالًا آخر للفائز في الألعاب الأولمبية في ساحتها العامة (الأغورا)، وهو ما كان يعدّ بلا ريب شرفًا للبطل الأولمبي، لكنه كان أيضًا مظهرا من المظاهر التي تبعث المدينة على الفخر، بحيث تعرض أمجادها المحلية أمام عيون الزوّار الأجانب.
كان يُنظر إلى الانتصارات الأولمبية في الواقع على أنها مؤشّر يدلّ على قوة المدينة، ولقد عرض ألسيبياديس الأثيني، في خطابه المذكور آنفًا، إنجازه الأولمبي على أنه مظهر من مظاهر قوة مدينته في الوقت الذي اعتقد فيه منافسوها أنها في ضعف، وبكونه سلاحًا نفسيا يُرفع ضد خصومها.
ولهذا فقد كان يُنظر إلى الفائزين على أنهم ممثّلون لمدنهم، وكان لذلك عواقب على المتنافسين وحقهم في المشاركة في المسابقات. ففي الواقع، لم يكن من الممكن المشاركة في الألعاب «تحت راية محايدة»، وكانت العقوبات التي يُنزلها المنظّمون أحيانًا بمدينةٍ ما تسري على جميع مواطنيها. ولذلك فحينما استُبعدت إسبرطة من الألعاب بسبب خرقها للهدنة المقدسة، تعذّر على جميع مواطنيها المشاركة ولم يكن لها أي متنافس يمثّلها.
لقد أدّت هذه النظرة إلى الفائزين باعتبارهم ممثّلين للمدن التي ينحدرون منها إلى حصول تغييرٍ على مستوى الدور الذي تلعبه هذه المدن، والتي لم تعد تكتفي بتوظيف الإنجازات الفردية لمواطنيها لمصلحتها الخاصة. فبالنسبة للمسابقات الرياضية مثلا، شرعت المدن تدريجيًا في تدريب الرياضيين في قاعات رياضية كانت تُستعمل أيضًا من أجل تدريب المحاربين. وبمرور الزمن، ظهر في المدن الإغريقية محترفو الرياضات، وبدأت بعض هذه المدن تدفع أجورًا لهم حتى قبل أن يتمكنوا من تحقيق أي فوز.
وإذا كان المتنافسون يمثلون مدنهم بشكل غير مباشر، فهل كانت المدن نفسها تتنافس فيما بينها من خلال الألعاب، وهل كانت لهذه المنافسات عواقب على علاقاتها السياسية بشكل عام؟
المسابقات الأولمبية
ورهاناتها السياسية
دعونا نذكّر بدايةً أن المدن الإغريقية لم تكن تتنافس بينها من أجل استضافة الألعاب كما هو الحال اليوم بدافع اكتساب البلد المضيف للحظوة من خلال إثارة إعجاب المتفرجين. لم يكن إذن للألعاب الأولمبية في العصور القديمة هذا البُعد؛ لأنها كانت تُقام على الدوام في أولمبيا، والتي لم تكن دولة مدينة وإنما حرمًا مقدّسًا. وكان هذا الحرم يقع على أراضي مدينة إليس (Elis) التي يبعد مركزها الحضري خمسةً وثلاثين كيلومترًا. لقد كانت إليس مدينة ذات أهمية ثانوية، وكانت هي التي تسهر على إدارة الحرم وتنظيم المسابقات، فكان التنظيم والتحكيم يُعهد به إلى مواطني إليس الذين يتم اختيارهم بالقرعة.
ثمّة سؤال ثانٍ يتعلّق بالحرب بين المدن. نحن نعلم أن الحركة الأولمبية الحديثة كانت دائمًا ما تزعم على أنها تعمل من أجل السلام بين الشعوب، مع الإشارة أحيانًا إلى «الهدنة المقدّسة» التي ترجع إلى العصور القديمة والتي تسود خلال فترة الألعاب الأولمبية. غير أن الأمر لم يكن يقضي بتعليق جميع الحروب فما بالك بوضع حدٍّ لها، وإنما بحظر الحروب التي تكون مدينة إليس طرفًا فيها فقط وضمان حماية جميع من يقصد حرم أولمبيا بمناسبة الألعاب من رياضيين ومدربين ومشجعين ومتفرجين.
لم تكن الهدنة المقدسة مدفوعةً بالهدف السياسي النبيل المتمثل في إحلال السلام، بل كانت مجرد اتفاقٍ بسيط يسعى لضمان حسن سير المسابقات على الرغم من الحروب الجارية، والتي يمكن أن تستمر أثناء الألعاب. بل إنه قد حدث أن أُلقيت في أولمبيا خطبٌ تدعو إلى خوض حروب مشتركة، ضد الفرس على سبيل المثال.
وإن لم يكن ثمّة منافسة رسمية بين المدن، إلا أن هناك منافسة في الواقع إذ كانت المدن تقدّر انتصار مواطنيها وتستغله لصالحها. ولقد أدّى العرض الدائم لنجاحات مواطنيها من خلال النقوش والتماثيل المنصوبة إلى تعزيز مكانتها الدولية. وكانت المقارنة بين هذه الإنجازات أحد أبعاد التنافس بين المدن. كما أن هذه الأخيرة لم تكن تتردّد في الاستفادة دبلوماسيًا من الفائزين الأولمبيين من خلال إرسالهم كسفراء أثناء المفاوضات بين الدول، بحيث يتركون انطباعًا جيدًا لدى الخصوم ولو تعلق الأمر حتى بملك فارس نفسه.
ثمّة أمر أخير يمكنه أن يوضّح الدور السياسي الذي تستطيع الألعاب الأولمبية أن تلعبه، ألا وهو الحصول على الاعتراف من الآخرين حينما يتعلق الأمر بمدينةٍ يكون وجودها محلّ نزاع. ففي عام 368 قبل الميلاد، فاز داميسكوس (Damiskos)، وهو أحد مواطني مدينة ميسيني (Messene) بسباق الجري. غير أن ميسيني لم تكن قد نشأت سوى عام واحد قبل ذلك على أرضٍ كانت تخضع سابقًا لإسبرطة، وقد تحرّر سكانها، الذين كانوا من مكانةٍ دنيا، بفضل التدخل العسكري لمدينة أخرى عدوة لإسبرطة، وهي طيبة (Thebes).
وعلى الرغم من هزيمتها، فإن إسبرطة قد رفضت الاعتراف بمدينة ميسيني الجديدة. ومع ذلك، فإن مجرد كون داميسكوس قد استطاع المشاركة في الألعاب فقد كان ذلك يعني ضمنيًا أن إليس (المدينة المنظمة) قد اعترفت رسميًا بوجود ميسيني كمدينة مستقلة وشرعية. وكان إعلان النصر أمام ممثلي عشرات المدن بمثابة فعلٍ سياسي قوي، استخدمه قضاة إليس بعد ذلك.
لا ريب أن مسألة حياد مدينة إليس هي موضع شك، نظرًا لصراعاتها المتكررة مع إسبرطة. لكن تظل الحقيقة أن أولمبيا يمكن أن تكون بالتالي مكانًا للاعتراف العام بدولة جديدة على الرغم من معارضة البعض لها. نفكّر، مع مراعاة ما يقتضيه الاختلاف بين الحالتين بالطبع، في مشاركة فلسطين في الألعاب الأولمبية الحديثة، والتي تجعل من الفلسطينيين على الأقل أمّة رياضية منذ عدة عقود، وتمثل هذه المشاركة شكلًا من الانخراط في إطار حل الدولتين.
المنافسة والاجتماع
على الرغم من غياب التنظيم الرسمي، فإن المدن الإغريقية كانت في منافسة بينها على غرار التنافس الحاصل بين الأمم في عالمنا اليوم. ويتعلق الرهان الأساسي لهذا التنافس بصورتها ومكانتها، لكنه لا يخلو أيضا من تداعيات محتملة على مستوى القوة. وفي الوقت نفسه، كانت مسابقات أولمبيا مظهرًا من مظاهر تأكيد الانتماء الهيليني والتميّز عن «البرابرة».
لقد رأى الإغريق أنفسهم في الألعاب الأولمبية عاملًا للوحدة الثقافية. وكانت هذه الألعاب فرصةً فريدة لاجتماعٍ سلمي غفير يشارك فيه عشرات الآلاف من الإغريق الوافدين من مناطق عدّة، والذين يتحدّثون اللغة نفسها، ويلتزمون بالقواعد نفسها، ويمارسون الرياضات نفسها، ويشاركون في العبادات نفسها. أما بالنسبة للألعاب الأولمبية الحديثة، فمن المؤكد أنها على الرغم من إخفاقها في تعزيز السلام بين الدول، إلا أنها نجحت في فرض لغة مشتركة على مستوى الكوكب.
• دومينيك لونفون أستاذة التاريخ الإغريقي بجامعة ستراسبورغ (فرنسا)
** عن موقع The Conversation
غالبًا ما ننظر إلى الألعاب الأولمبية القديمة في بُعديها الرياضي أو الديني، وباعتبارها النموذج الذي استلهمته الألعاب الأولمبية الحديثة إبّان نشأتها، فإنها تستحق أن نتساءل أيضًا بخصوص العنصر السياسي الحاضر في هذه الألعاب.
لنذكّر أولًا بأن الألعاب الأولمبية في العصور القديمة، على غرار الألعاب الحديثة، كانت عبارة عن مسابقات رياضية وفروسية بين مواطنين ينحدرون من دول عدّة. غير أنها -وعلى العكس من الألعاب الحديثة- كانت حكرًا على الإغريق ويتم استبعاد كل من لم يكن ينحدر من إحدى الدويلات (أو الدول المدن) الإغريقية العديدة والمشتّتة، وهي كيانات مستقلة كان لكلٍّ منها أراضيها ونظامها السياسي الخاص بها.
إن لم تشكّل المدن الإغريقية كيانًا سياسيا متوحدًا، إلا أنها كانت تشكّل مجتمعًا ثقافيًا واحدًا يتقاسم نفس اللغة وشعورًا بصلة القرابة وممارسات متطابقة، ثم إنها أيضًا كانت تتشارك العبادات والأماكن المقدسة، وعلى رأسها معبد الإله زيوس في أولمبيا.
وفي حرم أولمبيا كان الإغريق ينظمون كل أربع سنوات مسابقات رياضية تدوم بضعة أيام خلال فصل الصيف، والتي كان يُشترط أن يكون المشاركون فيها مواطنين ذكور ينحدرون من إحدى المدن الإغريقية (وليس فقط مهاجرون يقيمون فيها)، وكان الشرط نفسه يسري على المتفرّجين.
المنافع السياسية التي يجنيها الفائزون
من أجل الحكم على البُعد السياسي لهذه الألعاب، فإن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان المتنافس يشارك في الألعاب بصفته الفردية، وما إذا كان يحصّل من فوزه أي منفعةٍ شخصية أو سياسية في المدينة التي ينحدر منها. لنقل بدايةً أنه ومن أجل المشاركة في الألعاب، فإن المواطن الراغب في المشاركة يتقدّم من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى الموافقة المبدئية للمدينة التي ينحدر منها، إذ إن هذه الأخيرة لا تقوم بإجراء أي عملية للاختيار بين المتبارين، كما أنه لم يكن ثمّة وفود رسمية تمثّل المدن أو ما يماثل اللجان الأولمبية الوطنية في عصرنا اليوم.
لكن الشيء الأهم لم يكن هو المشاركة وإنما الفوز، خاصّةً أنه كان هناك فائزٌ واحد فقط في كل مسابقة رياضية، ولم يكن هناك ما يعادل الميداليات الفضية والبرونزية للمراتب الثانية والثالثة كما اليوم. لقد كان الفائز الأول هو وحده من يظلّ اسمه عالقًا في الذاكرة ويوُصف لبقية عمره بـ «البطل الأولمبي»، في جميع أنحاء العالم الإغريقي.
وبالنسبة للفائز المحظوظ، فإن الفوز في الألعاب في حدّ ذاته لم يكن مصدرًا مباشرًا للثروة، حيث إنه لم يكن يحصل كجائزة سوى على إكليلٍ من الزيتون، وهي مكافأة رمزية بحتة تُكسبه مجدًا يتجاوز حدود مدينته.
أما بعد العودة إلى مدينته، فإن البطل الأولمبي قد يحظى بمزايا تتنوع بحسب الحالة: المال أو الطعام على نفقة الدولة أو مكان شرفي في المسرح أو التصويت على مرسوم فخري يُحفر على تذكار حجري أو نصب تمثاله في قلب المدينة أو حتى التكفّل بنحت صورته في معبد زيوس في أولمبيا.
وفضلًا عن هذه المكافآت المادية والفخرية، فإن الفائز في الألعاب الأولمبية كان يحظى بهالةٍ من المجد تسهّل عليه الولوج إلى مناصب السلطة والوجاهة داخل المدينة. ففي إسبرطة مثلا، كان بعض الأبطال الأولمبيين يحظون بشرف القتال إلى جانب الملك الذي يقود المعركة. وفي كروتوني (مدينة تقع جنوب إيطاليا)، وُضع البطل الشهير ميلو (Milo) على رأس قوات مدينته في حربها ضد غريمتها سيباريس.
أما في أثينا، فإن مثال ألسيبياديس (Alcibiades) يعدّ غايةً في الأهمية، فبعد أن حقّق هذا الرجل السياسي الإنجاز المتمثل في حصول عرباته على المراكز الأولى والثانية والرابعة في نفس السباق عام 416 قبل الميلاد (شارك بسبع عربات في نفس السباق)، لم يتوانَ خلال حملته الانتخابية عن تذكير المجلس الديمقراطي لمدينته بإنجازه باعتباره حجّةً على أهليته للقيادة، ودليلًا على أنه الأجدر بممارسة المسؤولية العسكرية والسياسية التي كان يسعى وراءها.
وإذا كان الفوز في الألعاب الأولمبية يعود بالمنافع وبالمجد على الفائز وعائلته، فهل كان هذا النصر ينطوي على مزايا بالنسبة لمدينته؟ هل كان الفائز الأولمبي ممثّلًا لمدينته، وأي دورٍ كانت هذه الأخيرة تلعبه قبل فوزه وبعده؟
المتنافس الأولمبي ممثلًا لمدينته؟
لقد أوضحنا من قبل أن المدينة لم تكن تختار المتنافسين الذين يمثّلونها في الألعاب الأولمبية غير أنها كانت تكافئ الفائزين منهم، ويعدّ ذلك بمثابة تشجيعٍ غير مباشر لهم على المشاركة (من أجل الفوز). وذلك لأن المجد الذي يكتسبه المنتصرون ينعكس على نحوٍ لا يمكن إنكاره على مدنهم، والتي يُعلن عن أسمائها مباشرة بعد الإعلان عن اسم الفائزين أثناء تتويجهم - وهو ما يشبه تقريبًا رفع العلم الخاص ببلد الفائز وعزف نشيده الوطني اليوم. ومن جهة أخرى، فإن الفائز إذا نُصب له تمثال في أولمبيا تخليدًا لذكرى فوزه، فإن قاعدة هذا التمثال تشير إلى اسمه ونوع الرياضة التي فاز فيها، هذا فضلًا عن اسم مدينته والتي يأتي ذكرها في المقام الأول أحيانًا.
وبالتالي فليس من المستغرب أن تكون المدينة هي نفسها من يتكلّف بتمويل هذا النّصب التذكاري في بعض الأحيان؛ لأنها تستفيد على مستوى المكانة والشرف المترتّبيْن عن ذلك. وللسبب ذاته كانت المدينة تنصب تمثالًا آخر للفائز في الألعاب الأولمبية في ساحتها العامة (الأغورا)، وهو ما كان يعدّ بلا ريب شرفًا للبطل الأولمبي، لكنه كان أيضًا مظهرا من المظاهر التي تبعث المدينة على الفخر، بحيث تعرض أمجادها المحلية أمام عيون الزوّار الأجانب.
كان يُنظر إلى الانتصارات الأولمبية في الواقع على أنها مؤشّر يدلّ على قوة المدينة، ولقد عرض ألسيبياديس الأثيني، في خطابه المذكور آنفًا، إنجازه الأولمبي على أنه مظهر من مظاهر قوة مدينته في الوقت الذي اعتقد فيه منافسوها أنها في ضعف، وبكونه سلاحًا نفسيا يُرفع ضد خصومها.
ولهذا فقد كان يُنظر إلى الفائزين على أنهم ممثّلون لمدنهم، وكان لذلك عواقب على المتنافسين وحقهم في المشاركة في المسابقات. ففي الواقع، لم يكن من الممكن المشاركة في الألعاب «تحت راية محايدة»، وكانت العقوبات التي يُنزلها المنظّمون أحيانًا بمدينةٍ ما تسري على جميع مواطنيها. ولذلك فحينما استُبعدت إسبرطة من الألعاب بسبب خرقها للهدنة المقدسة، تعذّر على جميع مواطنيها المشاركة ولم يكن لها أي متنافس يمثّلها.
لقد أدّت هذه النظرة إلى الفائزين باعتبارهم ممثّلين للمدن التي ينحدرون منها إلى حصول تغييرٍ على مستوى الدور الذي تلعبه هذه المدن، والتي لم تعد تكتفي بتوظيف الإنجازات الفردية لمواطنيها لمصلحتها الخاصة. فبالنسبة للمسابقات الرياضية مثلا، شرعت المدن تدريجيًا في تدريب الرياضيين في قاعات رياضية كانت تُستعمل أيضًا من أجل تدريب المحاربين. وبمرور الزمن، ظهر في المدن الإغريقية محترفو الرياضات، وبدأت بعض هذه المدن تدفع أجورًا لهم حتى قبل أن يتمكنوا من تحقيق أي فوز.
وإذا كان المتنافسون يمثلون مدنهم بشكل غير مباشر، فهل كانت المدن نفسها تتنافس فيما بينها من خلال الألعاب، وهل كانت لهذه المنافسات عواقب على علاقاتها السياسية بشكل عام؟
المسابقات الأولمبية
ورهاناتها السياسية
دعونا نذكّر بدايةً أن المدن الإغريقية لم تكن تتنافس بينها من أجل استضافة الألعاب كما هو الحال اليوم بدافع اكتساب البلد المضيف للحظوة من خلال إثارة إعجاب المتفرجين. لم يكن إذن للألعاب الأولمبية في العصور القديمة هذا البُعد؛ لأنها كانت تُقام على الدوام في أولمبيا، والتي لم تكن دولة مدينة وإنما حرمًا مقدّسًا. وكان هذا الحرم يقع على أراضي مدينة إليس (Elis) التي يبعد مركزها الحضري خمسةً وثلاثين كيلومترًا. لقد كانت إليس مدينة ذات أهمية ثانوية، وكانت هي التي تسهر على إدارة الحرم وتنظيم المسابقات، فكان التنظيم والتحكيم يُعهد به إلى مواطني إليس الذين يتم اختيارهم بالقرعة.
ثمّة سؤال ثانٍ يتعلّق بالحرب بين المدن. نحن نعلم أن الحركة الأولمبية الحديثة كانت دائمًا ما تزعم على أنها تعمل من أجل السلام بين الشعوب، مع الإشارة أحيانًا إلى «الهدنة المقدّسة» التي ترجع إلى العصور القديمة والتي تسود خلال فترة الألعاب الأولمبية. غير أن الأمر لم يكن يقضي بتعليق جميع الحروب فما بالك بوضع حدٍّ لها، وإنما بحظر الحروب التي تكون مدينة إليس طرفًا فيها فقط وضمان حماية جميع من يقصد حرم أولمبيا بمناسبة الألعاب من رياضيين ومدربين ومشجعين ومتفرجين.
لم تكن الهدنة المقدسة مدفوعةً بالهدف السياسي النبيل المتمثل في إحلال السلام، بل كانت مجرد اتفاقٍ بسيط يسعى لضمان حسن سير المسابقات على الرغم من الحروب الجارية، والتي يمكن أن تستمر أثناء الألعاب. بل إنه قد حدث أن أُلقيت في أولمبيا خطبٌ تدعو إلى خوض حروب مشتركة، ضد الفرس على سبيل المثال.
وإن لم يكن ثمّة منافسة رسمية بين المدن، إلا أن هناك منافسة في الواقع إذ كانت المدن تقدّر انتصار مواطنيها وتستغله لصالحها. ولقد أدّى العرض الدائم لنجاحات مواطنيها من خلال النقوش والتماثيل المنصوبة إلى تعزيز مكانتها الدولية. وكانت المقارنة بين هذه الإنجازات أحد أبعاد التنافس بين المدن. كما أن هذه الأخيرة لم تكن تتردّد في الاستفادة دبلوماسيًا من الفائزين الأولمبيين من خلال إرسالهم كسفراء أثناء المفاوضات بين الدول، بحيث يتركون انطباعًا جيدًا لدى الخصوم ولو تعلق الأمر حتى بملك فارس نفسه.
ثمّة أمر أخير يمكنه أن يوضّح الدور السياسي الذي تستطيع الألعاب الأولمبية أن تلعبه، ألا وهو الحصول على الاعتراف من الآخرين حينما يتعلق الأمر بمدينةٍ يكون وجودها محلّ نزاع. ففي عام 368 قبل الميلاد، فاز داميسكوس (Damiskos)، وهو أحد مواطني مدينة ميسيني (Messene) بسباق الجري. غير أن ميسيني لم تكن قد نشأت سوى عام واحد قبل ذلك على أرضٍ كانت تخضع سابقًا لإسبرطة، وقد تحرّر سكانها، الذين كانوا من مكانةٍ دنيا، بفضل التدخل العسكري لمدينة أخرى عدوة لإسبرطة، وهي طيبة (Thebes).
وعلى الرغم من هزيمتها، فإن إسبرطة قد رفضت الاعتراف بمدينة ميسيني الجديدة. ومع ذلك، فإن مجرد كون داميسكوس قد استطاع المشاركة في الألعاب فقد كان ذلك يعني ضمنيًا أن إليس (المدينة المنظمة) قد اعترفت رسميًا بوجود ميسيني كمدينة مستقلة وشرعية. وكان إعلان النصر أمام ممثلي عشرات المدن بمثابة فعلٍ سياسي قوي، استخدمه قضاة إليس بعد ذلك.
لا ريب أن مسألة حياد مدينة إليس هي موضع شك، نظرًا لصراعاتها المتكررة مع إسبرطة. لكن تظل الحقيقة أن أولمبيا يمكن أن تكون بالتالي مكانًا للاعتراف العام بدولة جديدة على الرغم من معارضة البعض لها. نفكّر، مع مراعاة ما يقتضيه الاختلاف بين الحالتين بالطبع، في مشاركة فلسطين في الألعاب الأولمبية الحديثة، والتي تجعل من الفلسطينيين على الأقل أمّة رياضية منذ عدة عقود، وتمثل هذه المشاركة شكلًا من الانخراط في إطار حل الدولتين.
المنافسة والاجتماع
على الرغم من غياب التنظيم الرسمي، فإن المدن الإغريقية كانت في منافسة بينها على غرار التنافس الحاصل بين الأمم في عالمنا اليوم. ويتعلق الرهان الأساسي لهذا التنافس بصورتها ومكانتها، لكنه لا يخلو أيضا من تداعيات محتملة على مستوى القوة. وفي الوقت نفسه، كانت مسابقات أولمبيا مظهرًا من مظاهر تأكيد الانتماء الهيليني والتميّز عن «البرابرة».
لقد رأى الإغريق أنفسهم في الألعاب الأولمبية عاملًا للوحدة الثقافية. وكانت هذه الألعاب فرصةً فريدة لاجتماعٍ سلمي غفير يشارك فيه عشرات الآلاف من الإغريق الوافدين من مناطق عدّة، والذين يتحدّثون اللغة نفسها، ويلتزمون بالقواعد نفسها، ويمارسون الرياضات نفسها، ويشاركون في العبادات نفسها. أما بالنسبة للألعاب الأولمبية الحديثة، فمن المؤكد أنها على الرغم من إخفاقها في تعزيز السلام بين الدول، إلا أنها نجحت في فرض لغة مشتركة على مستوى الكوكب.
• دومينيك لونفون أستاذة التاريخ الإغريقي بجامعة ستراسبورغ (فرنسا)
** عن موقع The Conversation