أفكار وآراء

حيث نجحت الرأسمالية!

ترجمة: نهى مصطفى

دفع الاستياء الواسع النطاق من الأنظمة الرأسمالية الحالية العديد من البلدان، الغنية والفقيرة، إلى البحث عن نماذج اقتصادية جديدة. بالرغم من أن المدافعين عن الوضع الراهن يواصلون تصوير الولايات المتحدة باعتبارها نجمًا ساطعًا، حيث يتفوق اقتصادها على أوروبا واليابان، وتظل أسواقها المالية مهيمنة كما كانت دائمًا. ومع ذلك فإن مواطنيها متشائمون مثل أي شخص فـي الغرب. ويعتقد نحو ثلث الأمريكيين أنهم سيصبحون أكثر ثراءً من آبائهم، بينما تستمر حصة من يثقون فـي الحكومة فـي التراجع، حتى مع قيام الدولة ببناء شبكة أمان أكثر سخاءً. يقول 70% من الأمريكيين إن النظام «يحتاج إلى تغييرات كبرى أو إلى هدمه بالكامل»، والأجيال الأمريكية الشابة هي الأكثر إحباطًا، حيث الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا لديهم وجهة نظر أكثر إيجابية عن الاشتراكية مقارنة بالرأسمالية.

فـي البلدان ذات الاقتصادات الناشئة، من المذهل أن نرى «أرض الأحرار» تتخلى عن تشككها التقليدي فـي السلطة والتخطيط المركزيين وتروج بدلا من ذلك لحلول الحكومة الكبيرة. لم تنس العديد من هذه البلدان، من الهند إلى بولندا، تجاربها الفاشلة مع الاشتراكية. لذلك فوجئوا عندما قاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ثورة ضد التجارة الحرة والحدود المفتوحة، بعدها بدأ خليفته جو بايدن فـي الترويج لما أسماه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان «عقلية اقتصادية تدافع عن البناء».

لم يعد بوسعهم أن يبحثوا عن الإلهام فـي الصين. فقد أخذت «المعجزة الاقتصادية» فـي التعثر تحت قيادة شي جين بينج. عادت الصين إلى أساليبها القديمة القائمة على القيادة والسيطرة. وفـي ظل الديون الثقيلة، وشيخوخة السكان، وتجاوز الدولة لحدودها، انحرف الاقتصاد الصيني عن مسار المعجزة.

فـي حين يبدو أن هذه البلدان الكبرى تتراجع عن الرأسمالية، هناك عدة أماكن عبر منحنى الدخل، بما فـي ذلك سويسرا وتايوان وفـيتنام، لا تزال الرأسمالية تعمل وتحقق نجاحا، لأن حكوماتها تقدر الحرية الاقتصادية، وتحد من دورها فـي إدارة الاقتصاد وتنظيم الأعمال. تدرك أن الدين العام والعجز يشكلان مخاطر جسيمة، وبالتالي تنفق الأموال العامة بحذر.

غالبا ما يرجع التقدميون الأمريكيون رؤيتهم للجنة الاشتراكية إلى الدول الإسكندنافـية مثل الدنمارك والنرويج والسويد، وهي غنية مثل الولايات المتحدة، ولكنها تتميز بتوزيع أكثر مساواة للثروة وتقدم رعاية صحية بأسعار معقولة وكليات مجانية للجميع.

لكن سويسرا، على الرغم من أنها نادرًا ما يتم اعتبارها نموذجًا من قبل اليسار السياسي، فهي أغنى بكثير من الديمقراطيات الاجتماعية الاسكندنافـية وعادلة بنفس القدر. يبلغ اقتصادها 700 مليار دولار، أكبر من أي اقتصاد فـي اسكندنافـيا، وتقدم فوائد الرعاية الاجتماعية بشكل شامل، مع حكومة أكثر انسيابية، وضرائب أقل، واستقرار مالي أكبر من الديمقراطيات الاجتماعية الاسكندنافـية، التي واجهت العديد من الأزمات المالية فـي الماضي القريب.

تتمتع سويسرا بمتوسط دخل أعلى، مقارنة مع تلك الموجودة فـي الدول الاسكندنافـية. يبلغ متوسط ثروة الأسرة فـي سويسرا 685000 دولار - ضعف المتوسط فـي الدول الاسكندنافـية. تعد سويسرا أيضا من بين أسعد دول العالم، وعادة ما تسجل فـي المراكز الخمسة الأولى فـي مؤشر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للحياة الأفضل. وقد نجحت فـي تحقيق كل هذا رغم ميزانيتها الضئيلة بشكل مدهش: إذ يمثل الإنفاق العام 35% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 55% فـي السويد.

تحتل سويسرا المرتبة الثانية بعد اليابان فـي «تعقيد» صادراتها، وفقًا لمرصد التعقيد الاقتصادي. وتتلخص فرضية تصنيفات منظمة التعاون الاقتصادي فـي أن صنع صادرات معقدة مثل الأدوية الحيوية أو الأجهزة الرقمية يتطلب مجموعة من نقاط القوة، من الجامعات ذات الجودة إلى مراكز الأبحاث، التي تدفع التقدم الاقتصادي. وتزدهر الشركات السويسرية فـي كل قطاع رئيسي بخلاف النفط، وتمثل 15 من أكبر 100 شركة أوروبية من حيث القيمة السوقية للأسهم، أكثر من أي منافس اسكندنافـي.

الاقتصاد السويسري لا مركزي مثل نظامه السياسي الفـيدرالي. فالكثير من صادراته الأكثر شهرة تأتي من مقاطعات البلاد: سكاكين الجيش السويسري من شفـيتس، والساعات من برن، والجبن من فريبورج. والشركات الصغيرة هي التي ترسخ الاقتصاد، حيث تمثل وظيفتين من كل ثلاث وظائف. ويعمل واحد فقط من كل ستة سويسريين فـي الحكومة، وهو نصف المتوسط الاسكندنافـي. ويفضل السويسريون أن يعملوا على أن يأخذوا إعانات الدولة. وفـي استفتاء عام 2016، رفض الناخبون السويسريون بأغلبية ساحقة الدخل الشهري المضمون الذي يبلغ 2500 دولار، والذي وصفه المنتقدون بأنه «مال بلا مقابل».

على مدى العقد الماضي، شهدت أغلب الدول الغنية انخفاض حصتها من عائدات التصدير العالمية، لكن حصة سويسرا استمرت فـي الارتفاع. ونتيجة لهذا، ارتفعت قيمة الفرنك السويسري بشكل أسرع من أي عملة أخرى، ومع ذلك ازدهرت الصادرات. ويساعد تدفق الأموال هذا فـي دعم الاقتصاد. بالرغم من ذلك، السياسة المالية السويسرية ليست خالية من العيوب، ففـي محاولة لإبطاء ارتفاع الفرنك على مدى العقد الماضي، خفض البنك المركزي أسعار الفائدة بشكل حاد. وكانت النتيجة طفرة فـي الإقراض دفعت ديون الشركات الخاصة والأسر إلى 280% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ارتفاع محفوف بالمخاطر يزيد من خطر الأزمات الائتمانية والمصرفـية فـي المستقبل.

يميل العالم إلى تجاهل النموذج السويسري، الذي كان مختبئًا على مرأى من الجميع، ربما بسبب سمعة البلاد العتيقة كملاذ ضريبي، حيث تختبئ الثروات غير المشروعة وراء قوانين سرية البنوك الصارمة. فـي عام 2015، وافقت سويسرا، تحت ضغط من الحكومات الأجنبية، على فتح بنوكها لمزيد من التدقيق.

بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان تُعرف باسم «المعجزات الآسيوية»، لأنها استثمرت بشكل أكبر فـي البحث والتطوير مقارنة بالدول الفقيرة الأخرى وارتفعت بسرعة إلى صفوف الأغنياء. وكانت الحكومات المختصة، التي تعمل بالشراكة مع الصناعة لتصدير المنتجات، هي التي أرشدت هذه المعجزات. تعد رعاية كوريا الجنوبية لشركتي سامسونج وهيونداي، اللتين أصبحتا الآن شركات ضخمة، مثالاً بارزًا.

وتُعَد تايوان اليوم الأكثر إثارة للاهتمام بين المعجزات. اختارت التركيز على تطوير الشركات الأصغر حجمًا التي تصنع أجزاء للشركات الأجنبية، بدلا من الشركات المتعددة الجنسيات التي تبيع المنتجات تحت علاماتها التجارية العالمية الخاصة، تجاوزت تايوان فـي السنوات الأخيرة كوريا الجنوبية والولايات المتحدة باعتبارها الرائدة عالميًا فـي تصنيع رقائق الحاسوب المتقدمة، وهي اللبنات الأساسية للذكاء الاصطناعي وغيرها من الصناعات فـي المستقبل.

حتى سبعينيات القرن العشرين، كانت تايوان فـي المقام الأول مصدرًا للمنسوجات والملابس، ثم مثل العديد من نظيراتها، بدأت فـي تحديث اقتصادها من خلال نسخ التكنولوجيا الغربية. فـي عام 1980، بدأت حكومة تايوان، مستلهمة من وادي السيليكون، فـي إنشاء «حدائق علمية»، فـي كل منها حرم جامعي خاص بها، فـي جميع أنحاء الإقليم لضمان النمو المتوازن إقليميًا. أصبحت الحدائق بيوتًا حاضنة للشركات الناشئة، التي استقطبت المواهب من تلك الجامعات واستخدمت المكافآت الحكومية لجذب المغتربين ذوي الخبرة إلى الوطن. نمت بعض هذه الشركات الناشئة على نطاق واسع. وتُصنع بها أصغر وأسرع الرقائق الإلكترونية، التي لا غنى عنها لأحدث التقنيات الرقمية. ويتم تصنيع ثلثي الرقائق الإلكترونية فـي تايوان.

تعتبر شركة تايوان لتصنيع الرقائق الإلكترونية نتاجا لنوع من السياسة الصناعية التي يتبناها الآن العديد من الساسة الغربيين، ولكن فـي حالة تايوان، يتم تنفـيذها من قبل حكومة مبسطة. يبلغ الإنفاق العام حوالي 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي، والدين العام حوالي 34٪، وواحد من كل 30 عاملا يعمل لدى الدولة؛ وهو كسور من المتوسط للدول المتقدمة الأخرى.

لا تتدخل تايوان لإنقاذ الأسواق المالية فـي كل مرة تتعثر فـيها أو تنقذ البنوك والشركات الكبرى. وفـي حين تلتقي الحكومات الأخرى بكل أزمة مالية جديدة بإغاثة سخية على نحو متزايد، مارست تايوان ضبط النفس ــ حتى أثناء جائحة كوفـيد 19. ففـي عام 2020، بلغ مجموع التحفـيز المالي والنقدي أقل من سبعة فـي المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل خمس متوسط حزم التحفـيز التي أقرتها الولايات المتحدة وأوروبا والمملكة المتحدة واليابان. على الرغم من أن معدلات الضرائب فـي تايوان نموذجية بالنسبة لاقتصاد متقدم، فإن عادات الإنفاق تختلف: حيث تكون خفـيفة على البرامج الاجتماعية والرعاية الصحية، وثقيلة على التعليم والبحث. والنتيجة هي إنتاجية استثنائية. وتجاوز نمو إنتاجية العامل فـي تايوان دول مجموعة الأربعة (G-4) باستمرار على مدى الأربعين عامًا الماضية.

تبدو فـيتنام، بقيادة حكومة شيوعية براجماتية، أشبه كثيرا بالصين خلال مرحلة المعجزة قبل عشرين عامًا. مع عدد سكان أقل من عُشر عدد سكان الصين، لن يكون لفـيتنام نفس التأثير العالمي أبدا، لكنها أيضا تظهر أن الرأسمالية يمكن أن تعمل حتى فـي ظل حكم الحزب الواحد الاستبدادي.

فـي أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وبعد أن دمرتها الحرب الأهلية، كانت فـيتنام تعيش على المساعدات من الاتحاد السوفـييتي. كان النمو راكدًا، ويبلغ معدل التضخم 700%. واستجابت هانوي بفتح الاقتصاد الذي تديره الدولة أمام القطاع الخاص، وإلغاء المزارع الجماعية، وتأجير الأراضي للأفراد، الذين سُمح لهم للمرة الأولى ببيع منتجاتهم وتحقيق ربح، سواء فـي الداخل أو الخارج، وارتفع الإنتاج بسرعة. وبعد أن كانت فـيتنام لفترة طويلة مستوردة للأرز تكافح الجوع، أصبحت الآن مصدرة للأرز. وحتى الآن، فـي حين تعمل العديد من البلدان على رفع الحواجز التجارية، تظل فـيتنام بطلة شيوعية للأسواق الحرة.

ووجهت فـيتنام كل مواردها نحو بناء قوة تصنيعية للتصدير، على غرار الإصلاحات المبكرة فـي الصين. ولتحقيق الاستقرار فـي عملتها والسيطرة على التضخم، عملت هانوي على احتواء عجز الميزانية. ولتنشيط القطاع الخاص، باعت أكثر من 11 ألف شركة مملوكة للدولة، ولم يتبق سوى 600 شركة. ولدعم المصانع، استثمرت بكثافة فـي أنظمة النقل لجلب البضائع إلى السوق والمدارس لتثقيف العمال. والآن تحصل البلاد على درجات أعلى من البنك الدولي لجودة بنيتها التحتية مقارنة بأي دولة ذات مستوى دخل مماثل. وغالبًا ما تكون درجات اختبارات المدارس الثانوية الدولية فـي المراكز العشرة الأولى على مستوى العالم، وهي أعلى من درجات العديد من الدول المتقدمة، بما فـي ذلك الولايات المتحدة.

تسمح العمالة الماهرة لفـيتنام بإنتاج سلع أكثر تعقيدًا. فقد نقلت شركات عملاقة مثل سامسونج وآبل إنتاج الهواتف الذكية إلى البلاد. كما شهدت البلاد نموًا فـي الصادرات على مدى عدة عقود بلغ نحو 20% ونموًا فـي الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز 5%، وهو ما يطابق الإنجازات التي حققتها دول المعجزة الآسيوية. وخلال ثلاثة عقود، تضاعف متوسط الدخل السنوي فـي فـيتنام ثلاث مرات ليصل إلى نحو 3000 دولار، من الفقر إلى الطبقة المتوسطة الدنيا. وانخفضت حصة السكان الذين يعيشون على أقل من دولارين فـي اليوم من 60% إلى أقل من 5%؛ ويتمتع نحو 90% بتغطية صحية، ويعيش أقل من واحد فـي المائة منهم بدون طاقة كهربائية، وهو ما يجعل فـيتنام رائدة فـي الحرب على الفقر. وفـي عام 2013 أنتجت فـيتنام أول ملياردير لها، فام نهات فونج. بعد تخرجه من إحدى الجامعات فـي روسيا، بدأ فونج فـي تقديم النودلز سريعة التحضير إلى أوكرانيا، وهي المغامرة التي نمت لتصبح مجموعة فـينجروب.

والسؤال هو إلى متى يستمر ازدهار فـيتنام؟ يميل الحكم الاستبدادي إلى العمل بشكل أفضل فـي المراحل المبكرة من التنمية، عندما يتمكن القادة الأقوياء من إجبار الناس على إكمال مهام بسيطة مثل بناء الطرق. وبمرور الوقت، وفـي غياب الضوابط والتوازنات الديمقراطية، غالبا ما يدفع المستبدون السياسات إلى أقصى الحدود غير العقلانية، مما يؤدي إلى أزمات كبرى تعيد بلدانهم إلى الوراء.

تثبت سويسرا وتايوان وفـيتنام أن منح الناس المزيد من الحرية الاقتصادية لا يزال يشكل الأمل الأفضل للبشرية فـي تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي. التوسع اللامتناهي للدولة ليس الحل القابل للتطبيق لأزمات القرن الحادي والعشرين. ومن الممكن كبح جماح الدولة، وتوجيه الإنفاق العام على نحو أكثر استراتيجية، وترك مساحة كافـية للناس للاستثمار على النحو الذي يرونه مناسبًا، دون أن يثقل كاهلهم تشابك البيروقراطية والتدخل الحكومي.

روشير شارما رئيس مجلس إدارة شركة روكفلر الدولية، وهو مؤلف لعدد من الكتب الأكثر مبيعًا على مستوى العالم.

نشر المقال على موقع Foreign Affairs