أعمدة

غابات حيّة تأتي داخل قفص!



الراغبون في التحول إلى طُهاة أو عازفي موسيقى أو رسامين، سيقرأون بعض الوصفات السرية التي تضعهم على أول الدرب، بينما قد يذهب أحدهم إلى الكتابة الروائية، بإحساس واهم بأنها لا تعدو أن تكون أي الروايات- أكثر من رغبة مجوفة بالحكي! فيكتب دون نزوع مضنٍ للمثول أمام عذوبة القراءة ومشقتها، دون تأنٍ في مطالعة المنجز البشري في هذا الحقل الحيوي، رغم كل ما تُتيحه الوسائل الحديثة من إمكانيات ووفرة!

«يتعين على كل جيل أن يُعيد تأليف كتب الماضي. أكتب قصيدة كتبها الآخرون قبلي عدة مرات، ولكن مهمتي أن أعيد اكتشافها»، فهل تصغي الأجيال الجديدة من الكتاب إلى نصيحة بورخيس، هل تعيد القبض على جوهر ما؟

فإن كانت القراءة هي إعادة كتابة كتب الماضي، فهي أيضًا الطريق إلى غابة السرد الأكثر بهاءً وشساعة. لقد كتبنا من قبل عن: رسائل لوركا ويوسا وفن كونديرا ومباهج همنجواي، ورائحة جوافة ماركيز، والقائمة تطول، وكل هذه التجارب ووجهات النظر تُنمي عضلة الكتابة، وصولًا إلى جوهر الصوت الفردي.

الكتاب الذي ضم مجموعة حوارات أجريت مع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، تحت عنوان «متعة الأدب»، ترجمة: جوهر عبد المولى، الصادر عن منشورات حياة، يحاول أن يبين لنا الطرق الفرعية للكتابة، والحياة القوية التي بالكاد نستطيع فهمها قبل أن تغلبنا.

وبينما كنت أقرأ هذا الكتاب شعرت بأهمية السير الذاتية والحوارات والمذكرات المتعلقة بكتاب السرد لنا نحن الروائيين، إذ بدت كمفتاح سري لتمثلات عوالمهم وعوالمنا وضجيج الأسئلة التي لا تهدأ.

عاش بورخيس طفولته في مكتبة والده، ولذا فقد تخيل نفسه على الدوام كاتبًا، حتى قبل تأليف أي كتاب، فلم يتخيل يومًا أن يسلك طريقًا مغايرًا. نضج ببطء شديد، وكان محظوظًا لأنه ارتكب أسوأ الأخطاء الأدبية التي يمكن أن يرتكبها المرء في أولى مراحله ككاتب ولذا فهو لا يتورع عن وصف بداياته بأنها «محض هراء».

رأى أن قراءة الكتب لا تقل أهمية عن السفر أو الوقوع في الحب. «إننا نغير الكتب في كل مرة نقرأها أو نعيد قراءتها»، فالأدب حي وينمو مثل الغابات، الأدب متشابك ويوقعنا في شراكه.

هناك من لا يرى من الكتابة سوى قشرتها الخارجية المتمثلة في أضواء الظهور والسفر والجماهير، متناسين ما يعتمل في مياهها الباطنية من فوضى مخاتلة. لم يرغب بورخيس يومًا في لفت الانتباه، فمنذ أن كان صغيرًا كان يتعرض للتنمر لضعف بصره، ولذا فضّل الشخصيات الثانوية والشوارع الجانبية عمّا سواهما وعلى مستوى مظهره وثيابه حاول ألا يظهر بعلامات فارقة، أراد أن يكون غير مرئي قدر الإمكان.

يلزم الكاتب الأعمى جهدًا إضافيًا لكي يتخيل ويحلم بالأشياء. فآخر مرة رأى فيها بورخيس وجهه كانت عام 1957. خشي أن يكون قد أصبح كالأرض المجعدة، فهو لا يعرف الرجل العجوز الذي ينظر إليه من خلال المرآة، وتدفعه الشيخوخة لأن ينكمش على ذاته.

الكتاب ليسوا على سوية واحدة، بورخيس كان خجولًا وخائفًا من التحدث أمام جمهور. بدا أن العمى وسيلة دفاع جيدة عن النفس. يقول له الأصدقاء: «القاعة فارغة لم يحضر أحد لأجلك»، لتهدأ أعصابه، بينما القاعة ممتلئة. وكم تمنى لو كان خفيًا، لكن الترويج الإعلامي وجد إليه طريقًا.

هناك من يذهب إلى الإلهام، وهناك من يتذلل له، بينما فضّل بورخيس مقاومته، لكن الإلهام استمر في مضايقته، إلى أن بدأ بتحويله إلى نصوص، «أنا لا أبحث عمدًا عن الموضوعات لأنها تأتيني داخل قفص». شدّد على أهمية العواطف في النص، بدت أكثر أهمية من الدلالات: «الكتابة دون أحاسيس تجعلنا أمام نص مصطنع».

هذه النوعية من الكتب تُجيب عن أكثر أسئلتنا صخبًا، تُضيء الأفكار التي تتوهج في أذهاننا والتصورات التي نأمل صوغها -في ظل غياب ورش الكتابة- لأنها تمنحنا فهمًا حول ماهية ما نرغب في تمثله، فحتى وإن بدا عالمنا الحقيقي مُدهشًا بالحكايات لدرجة نخاله فيها مُتخيلا كما يقول «كونراد»، فإن ذلك لا يصنع منا كتابًا جيدين إن كنا عاجزين عن ولوج أنفاقنا الأكثر قتامة.