أعمدة

أعطوه أو منعوه

ليلة البارحة استوقفني طفل عربي عمره لا يزيد عن الـ15عاما، يحمل في يده كيسًا به بعض الأكل ربما ابتاعه له قبلي أحد المحسنين. سألني مساعدته والإحسان إليه وإلى أسرته التي تعاني من ضنك الحياة بسبب الحرب الطاحنة التي يمر بها بلده.

حتى اللحظة لا يوجد جديد يمكن أن يقال أو أن يضاف إلى هذا المشهد، فكلنا بلا استثناء نتعرض لهذا الموقف بشكل يومي متكرر إما في الشارع أو في المسجد أو أمام باب البيت بألوان وأجناس وأشكال كلها تتفق على هدف واحد وهو سؤال الناس. رغم يقيني التام أن هذا الطفل محترف وممتهن للتسول، لكنني قررت مجاراته في حديثه لمعرفة بعض من خبايا وأسرار هذه المهنة، وكيفية التنقل من بلد إلى آخر وطرق الدخول والخروج والحصول على التأشيرة القانونية المناسبة لدخول أي بلد دون أن يتعرض له أحد بالسؤال وكيفية جمع المال وتحويله وغيرها من التفاصيل التي لم أكن على يقين منها.

اسمه طلال كما قال، وجاء بتأشيرة زيارة لثلاثة أشهر هو وواحد من أصدقائه الأصغر منه سنًا، ساعده في الحصول على تلك التأشيرة رجل صالح خيّر يبتغي وجه الله فقط مع بعض الفائدة البسيطة، إن منّ الله على طلال برزق وفير مما يجود به عليه المحسنون أو إن كتب الله له الحصول على وظيفة يضمن من خلالها استدامة شهرية لراتب وإن كان قليلًا.

قاطعته بسذاجة محقق غير متمرس، ولكنك طفل ولا يمكن أن تجد وظيفة لأن لا أحد يمكنه أن يوظّف طفلًا فهذا يتنافى مع حقوق الطفل وعمالة الأطفال، ونسيت أو تناسيت أن ما يقوم به أمامي هو خرق واضح لكل القوانين والأعراف على الأرض. أجابني بكلمة واحدة «الأمور يا عمي ليست على ما يرام، وفي سبيل لقمة العيش سأفعل أي شيء مقابل أن أعيل أسرتي وإخواني»

استرسل طلال في استماتته لاستدرار مزيد من العطف مع حالته وحالة شعبه وأهل بيته واعدًا ومقسمًا بالله أنه سيكف عن طلب الناس إن تطوعت بكفالته لوجه الله فهو يتيم يستحق العطف من أمثالي من الميسورين وكان يقصد بالكفالة هنا ليس كفالة المال فحسب وإنما كفالة الإقامة في هذا البلد. تفاصيل كثيرة عرفتها عن نظام تلك الشبكات الاحترافية ليس فقط في البلدان العربية وإنما في البلدان الغربية التي رغم تشددها في موضوع الهجرة والتأشيرات إلا أن تلك الشبكات دائمًا ما تجد لها مداخل ومخارج في العبور سواء بالطرق الشرعية أو غير الشرعية، وهي أيضا تتشابه في طرق التسول وكأنه لغة عالمية يفهمها كل البشر ويتعاطفون معها، فيلجأ المتسولون إلى حيل كثيرة لجلب التعاطف إليهم كالتظاهر بالإعاقة والمرض واستخدام الأطفال كوسيلة للتسول واختلاق بعض القصص المؤثرة عن الحوادث والكوارث والحروب الطاحنة، ولقد وقفت بنفسي على الكثير من تلك النماذج في دول تدّعي احترامها للإنسان وكينونته بتوفير سبل العيش الكريم له، لكنها لم تستطع رغم كل ما لديها من قوانين وإمكانات مادية واقتصادية من القضاء على التسول بل إن أعدادهم زادت إلى حد باتت الشوارع تزدحم بهم. لست أول ولا آخر من يكتب عن التسول وظواهره الحديثة والقديمة رغم يقيني التام بأن كل ما قيل ويقال من تحذيرات وتوعية وضبط ومراقبة لن تستطيع التقليل أو الحد من هذه الظاهرة التي يتزايد أعداد ممتهنيها كل يوم لأسباب كثيرة متداخلة تتوزع بين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وبعض الأسباب المفتعلة التي يكون الإنسان ذاته سببًا فيها، ولا أعتقد بأنه قد يأتي يوم تخلو فيه البسيطة من متسول أو متشرد يسأل الناس أموالهم أعطوه أو منعوه. استكمالًا لمشهد طلال الذي استطاع -رغمًا عني- انتزاع ما أسماه «صدقة» وأسميتها «معلومات» لكتابة هذا المقال، سألت عامل المطعم بعد ذهابه إن كان يعرف ذلك الفتى؟ أجاب بأنهم ثلاثة أكبرهم ذلك الطفل، وهم بالقرب من مطعمه كل يوم ويجنون مبلغًا جيدًا من المال أحيانا من بيع بخور أو ورد وأشياء أخرى، وفي أحيان كثيرة من استجداء للناس، مستطردًا وهو يؤكد على جملة لا تخلو من حسد بأن ما يجنونه من مال يفوق راتبه الشهري بكثير.

عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»