أعمدة

مهانة المهنة ... الشاعر في سوق العمل

قيل لي إن الشعر لا يُطعم خبزا. نعم إن موهبتكَ جيدة؛ وفي وسعكَ أن تصبح شاعرا أسوأ بقليل من كبار الشعراء، ولكن لا تنسَ أن «أذكى» التلاميذ الذين سيتخرجون من هذه المدرسة عليهم أن يكونوا إما أطباء أو مهندسين.

كنتُ عائدا للتو من قراءة أولى قصائدي على منصة الإذاعة المدرسية في طابور الصباح، ولم يتسنَّ لي بعد أن أتنفس كامل نشوتي بذلك الانتصار الصغير حين داهمتني «النصيحة» من معلم الرياضيات على باب الحصة الأولى. وحتى وأنا أقف الآن على بعد سنوات ومسافات من البيت والمدرسة، لا أكاد أنسى المواقف الكثيرة التي سمعت فيها المقولة المشهورة عن الشعر والخبز، تلك التي يعاد تدويرها على مسمعي بأشكالٍ مختلفة على سبيل النصيحة، سواء من المعلمين أو من قِبل الأوصياء في العائلة. وللسخرية أنها لاحقتني إلى قاعة المحاضرات بالجامعة من بعض الأساتذة.

بطبيعة الحال لم يكن مساري الجامعي أو احتمالات الوظيفة المستقبلية أكبر همومي حينها. من نظرة إلى نهاية الشارع المرصوف، في انتظار حافلة الصباح، بدا المستقبل مسألة مؤجلة تتسع لأعظم الأحلام. مع ذلك لم أكن لأفكر سوى بكتابة قصيدة أفضل حتى أصبح بالفعل «أسوأ بقليل من كبار الشعراء». ولم يكن أمامي خيار آخر سوى المكابرة بزعم أن الشعراء لا يحتاجون لأكل الخبز أصلا. كان ذلك قبل سنوات قليلة من اكتشافي التاريخي المهول لحقيقة أن الشعراء كائنات حية، لنقل إنهم مبدئيا لا يختلفون كثيرا عن أسماك البحر، حتى وإن كانت أسماكُ حوض الزينة أليقَ تشبيها لبعضهم.

على أية حال فإن هواجسي عن الوظيفة والمكسب ومناخ سوق العمل المأزوم لم تستفق إلا متأخرة نسبيا، ربما بعد سنة أو سنتين من التحاقي بكلية الهندسة في جامعة السلطان قابوس. كنت أعي بأن دراستي للهندسة كانت نوعا من التفاوض مع واقعية المقولة المقيتة التي لا يتورَّع الكثير من المثقفين للأسف عن تكريسها أكثر فأكثر كحقيقة لا مفر منها، بل وتعميمها على مجمل العمل الثقافي، مجددا لأن الثقافة لا تطعم خبزا كما يقولون.

ما كان يشعرني حقا بالتهديد هو رؤيتي للمصائرِ المحزنة التي آلت إليها مواهب عدد من الأصدقاء الأكبر مني؛ فكتاباتُهم التي وعدت بالكثير خلال سنوات الجامعة سرعان ما تلاشت بعد صورة «السلفي» الجميلة بلباس حفل التخرج؛ إذ لم يكد أحدهم يخلع تلك التمصيرة المرتبة بعد الحفل حتى وجد نفسه صباح اليوم التالي واحدا من بين آلاف الخريجين، السابقين واللاحقين، المنتظرين لأدوارهم في الطابور الطويل للباحثين عن العمل.

كنت في مطعم عادة ما يقصده موظفو القطاع الخاص للغداء المتأخر قبل المغرب. صادفت على المدخل أحد أولئك الذين عرفتهم أيام الجامعة. كان موهبة ولادة للاستعارات ومخيلة منفتحة على الصور الشعرية الغريبة، وتذكرت هوسه برائحة الكتب الجديدة التي يهرع بها فورا من معرض الكتاب إلى غرفته الصغيرة بالخوض ليتفحَّص فيها رائحة الورق. سألته إن كان قد استقال من الكتابة للأبد؟ بل تقاعدتُ، هكذا رد على السؤال المباغت بسرعةِ بديهةٍ لم تفارق منطقَه يوما. أصبح موظفا في إحدى الشركات الثقيلة بالسوق، تقاعد من الكتابة - على حد تعبيره - ليمتهِن المهنة البعيدة عن تخصصه الدراسي، أي نعم، لكنها الآن محور حياته ومصدر عيشه، وأن يكون مديرا للمشاريع فيها فتلك أمنية تستحق التضحية برائحة الكتب والركض خلف سراب الاستعارات.

لست هنا لأحكي حكاية شخصية، فمن المؤكد أن النصيحة التي سمعتها، على واقعيتها البغيضة، قد صادفت آذان غيري في بواكير تفتُّح الموهبة وسنوات التجريب والتخريب الأولى من مغامرة الكتابة، منذ هولدرين إلى رامبو الشقي الذي توسَّل أمه من أجل بعض الفرنكات ليذهب بديوانه الأول للناشر: «سيُباع عدد جيد من كتابي، وسيعود علي بخمسمائة فرنك. لو أعطيتني المصاريف الأولية فسأكون في وضع أستطيع فيه أن أدفع أجور الطباعة بنفسي». لم تكن الأم تدرك جدوى ما يفعل الصبي من كتابته «قصصا ليس لها معنى أو داعٍ» بدلا من استثمار الفرنكات في قطعة أرض. في كتابه «رامبو الشاعر والإنسان» يخبرنا بيير بتفيز بالحكاية نقلا عن إيزابيل، شقيقة رامبو: «طلب رامبو من أمه أن تلقي نظرة على مخطوطة الكتاب، لكنها لم تفلح في العثور على رأس أو ذنب منها».

الأم: «ماذا تريد أن تقول»؟

رامبو: «أردت أن أقول ما تقوله المخطوطة، حرفيا ومن جميع النواحي».

ما الذي يمكن قوله إذن عن علاقة الشاعر العربي، أو المثقف عموما، بقلق المهنة وهاجس المال؟ عن دوامة الإهانات والتنازلات، من المهد إلى اللحد، سعيا للعيش الكريم ووفاء للكتابة في حياة واحدة؟ من المرعب والمحزن أن أتذكر كيف شرَّدت مهانة المهنة حياة واحد من أهم تجارب الشعر العربي في العصر الحديث، بدر شاكر السيَّاب. ففوق هشاشة الجسد المريض والحرمان من الحب ونكال الحياة الحزبية ومؤامراتها ذاق السيَّاب مرارات تأمين القوت وقسوة أرباب العمل. استحضرتُ مأساة السيَّاب مجتمعة حين صادفت على الإنترنت وثيقة مصورة تعود لتاريخ 12 أغسطس 1964، إخطار من المدير العام لمصلحة الموانئ العراقية يقول: «إلى السيد بدر شاكر السيَّاب: بناء على انتهاء إجازتك المَرضية وتغيبك عن العمل منذ يوم 1964/7/9 فإننا نخطرك بوجوب التحاقك بالوظيفة خلال مدة ثلاثين يوما من تاريخ نشر هذا الإخطار وبعكسه فسوف تُعتبر مستقيلا من الخدمة استنادا إلى أحكام الفقرة (2) من المادة 37 من قانون الخدمة المدنية». في ذلك التاريخ المذيَّل بالإخطار كان مُجدد القصيدة العربية يحتضر منفيا ووحيدا ومطرودا من الوظيفة في المستشفى الأميري بالكويت حتى وفاته في 24 من ديسمبر 1994 عن 37 عاما فقط.