الثقافة من العاصمة إلى المحافظات
الثلاثاء / 6 / ربيع الأول / 1446 هـ - 20:11 - الثلاثاء 10 سبتمبر 2024 20:11
يعرّف ندين لإدوارد تايلور (ت 1917م) الثّقافة بأنّها: «الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع»، فالثّقافة ضرورة لإفراز طاقات المجتمع وإبداعه، فهي لا تنحصر في زاوية محدّدة، كما أنّها لا تهمش الزّوايا الأخرى، ولا تنطلق من أيديولوجيّة ضيّقة.
وإذا ارتفعت الثّقافة كوجود مؤسّسي في المجتمع، وقلّ الاهتمام بها، والالتفاتة إليها، تتوسع دائرة الفراغ، ليملأ بدوائر أخرى قد تحمل طابعا متطرّفا، أو رؤية لاهوتيّة ضيّقة، أو على الأقل نفقد طاقات إبداعيّة يمكن أن تخرج هذه الإبداعات الجماليّة الّتي تعطي رسائل إيجابيّة في المجتمع، أو توجه هذه الطّاقات الإبداعيّة لأغراض خارجيّة وسلبيّة.
عندما أتحدّث هنا عن الثّقافة؛ أتحدّث عن الثّقافة من منظورها الواسع، والمرتبط بالجمال الإنسانيّ، من حيث العقل والقلب والبدن، والإسقاط الخارجيّ النّاتج عن هذه الثّلاثة، فهناك ثقافة العقل وما يرتبط بها من معارف، ومن ابتكارات علميّة، ومن نتائج عقليّة، ومن قراءة للتّأريخ والواقع برؤية منفتحة تضفي شيئا من العمق والتّعدّديّة المعرفيّة.
كما أنّ هناك ثقافة القلب والضّمير والوجدان، المرتبطة بثقافة الفنّ والجمال والأدب، ويصنّفها شوبنهاور (ت 1860م) تصنيفا هرميا، «فيرتبها حسب ما تعبّر عنه من مُثل تكون نابعة من قوى الإرادة، فالمثل الخاصة بقوى الطّبيعة غير العضويّة هي أدنى درجات المثل تعبيرا عن الإرادة، لهذا نجده يرى أنّ فنّ العمارة أدنى درجات الفنون؛ لأنّ المنفعة تتغلّب على الجانب الجماليّ، فيرتفع إلى فنّ النّحت وبعده التّصوير، ويعتبر الشّعر أعلى درجة من التّصوير؛ لأنّه يعبّر عن المثل بواسطة الخيال الّذي يجسّد التّصورات عن طريق الكلمات، أمّا الفنّ الّذي له مكانة عليا عنده فهو فنّ الموسيقى، فالموسيقى عنده كالأعداد والأشكال تكشف عن قانون الوجود، عن الفرح في ذاته، وعن الحزن في ذاته، والموسيقى عالم مستقل من عالم الظّواهر المحسوسة؛ لأنّها تجسّد قوانين الوجود، ولكنّها لا تحاكيه».
وأمّا البدن فهناك ثقافة الرّياضة الشّعبيّة التّقليديّة والرّياضات المعاصرة، وما يرتبط بالبدن عموما، جميع هذه الجوانب الثّلاثة أي العقل والقلب والبدن لها إسقاط ثقافيّ وجماليّ في الخارج، من حيث الوجود بشكل عام، ومن حيث ثقافة المنطقة الّتي ولد فيها الإنسان بشكل أخصّ، وأثر ذلك على طعامه ولباسه وغنائه وأدبه وفنّه وعاداته وتقاليده، ونتاجه المعرفيّ والثّقافيّ.
هذه الرّؤية الواسعة للثّقافة تعطي مساحة واسعة من حريّات الإبداع الثّقافيّ، والّذي ينبغي أن تحتضنه مؤسّسات قادرة على تفعيل هذا التّنوّع والإبداع الثّقافيّ، ولا ينبغي كبت هذا الواقع، ولا خسران مثل هذه الإبداعات؛ لأنّ المؤسّسات الثّقافيّة دورها احتضان وتنميّة مثل هذه الجوانب، ودعمها لتملأ الفراغ المجتمعيّ عند النّاس عموما بشكل عام، وعند الشّباب والمبدعين والموهوبين منهم بشكل خاصّ، حيث يخرجون طاقاتهم الإبداعيّة، ويوجهونها في خدمة الوطن وتنميته، وخدمة الإنسان فيه، بدل أن تستغلّ وتستثمر خارجيّا، وقد توجه ضمن جماعات متطرّفة، أو لها أغراض أيدلوجيّة أو سياسيّة لا علاقة للوطن وتقدّمه بها.
لهذا حصر النّشاط الثّقافيّ واقتصاره عند مركزيّة العاصمة حالة سلبيّة وليست عمليّة بشكل عام، نعم، نشاط الجانب الثّقافيّ في العاصمة حالة طبيعيّة، لسبب تمركز العديد من المواهب والإبداعات فيها، لسبب العمل أو الدّراسة أو الاستقرار الكامل نتيجة الهجرة، لما يجدونه فيها من سعة فضاء حريّة الإبداع الثّقافيّ ما لا يجدونه في مدنهم لسبب الحالة الانغلاقيّة نتيجة بعض العادات الّتي تعوق الإبداع الثّقافيّ، كما يجدون في العاصمة مؤسّسات حاضنة بشكل أوسع، لكن أن يتحوّل هذا إلى ظاهرة تقصر الإبداع الثّقافيّ في العاصمة أو مدن معينة من المجتمع؛ هي ظاهرة ليست حسنة على المدى البعيد، ويفقد المجتمع بها طاقات إبداعيّة، كما في الوقت نفسه ستنقرض فيه ثقافات على مستوى اللّغة واللّهجات والفنون والعادات والتّقاليد شيئا فشيئا، لسبب تمركز الحالة الثّقافيّة في العاصمة، أو تتوقف عند المدن فقط.
وعُمان - كما أسلفتُ في أكثر من مناسبة - تحوي من التّعدّديّة الثقافيّة، في جميع الجوانب المتعلّقة بالعقل والقلب أو الرّوح والبدن، وإسقاطاتها الجماليّة والثّقافيّة في الواقع الخارجيّ، هذا يحتاج إلى مؤسّسات قادرة على تفعيل ذلك، والحفاظ على التّراث الثّقافيّ، وتنمية الإبداعات الثّقافيّة المعاصرة، وبما أنّ عُمان استطاعت في هذه النّهضة المتجدّدة أن تنتقل من مركزيّة العاصمة إلى الشّراك من خلال المحافظات، فينبغي أن نجد حضورا ثقافيّا واسعا في المحافظات، على الأقل مبدئيّا على مستوى عواصم هذه المحافظات، حيث رأينا سلفا نشاطا في بعضها، وركودا عند الأغلب، بيد أنّه أيضا لا ينبغي أن يقتصر الجانب الثّقافيّ عند مهرجانات سنويّة، وإن كانت حالة صحيّة، إلّا أنّ الحالة المهمّة هنا يتمثل في خلق مؤسّسات ثقافيّة فاعلة وقادرة على احتضان التّنوّع الثّقافيّ في المحافظات، مع دعمه وتشجيعه، وعدم قصره عند زوايا معينة.
هناك العديد من المؤسّسات الثقافيّة في المحافظات، من نواد ثقافيّة ورياضيّة، ومن مراكز ثقافيّة وجامعات أهليّة ومكتبات ومبادرات شبابيّة، بيد أنّها تحتاج إلى استراتيجيّة وفق مركزيّة المحافظات ذاتها، لتحضى بالدّعم الماديّ والمعنويّ، لنرى في المستقبل ليس حضورا ثقافيّا فحسب، بل تنافسا في ذلك، يخلق إبداعات تنافسيّة، يرفع من قيمة المحافظة ذاتها، ويجعل اسمها حاضرا ليس على المستوى القطريّ، بل عابرا لفضاءات أوسع، ويضيّق من دائرة الفراغ، أو فقدان المواهب والإبداعات، أو استثمارها سلبا لأغراض تطرفيّة، أو هجرتها إلى خارج الوطن ذاته.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
وإذا ارتفعت الثّقافة كوجود مؤسّسي في المجتمع، وقلّ الاهتمام بها، والالتفاتة إليها، تتوسع دائرة الفراغ، ليملأ بدوائر أخرى قد تحمل طابعا متطرّفا، أو رؤية لاهوتيّة ضيّقة، أو على الأقل نفقد طاقات إبداعيّة يمكن أن تخرج هذه الإبداعات الجماليّة الّتي تعطي رسائل إيجابيّة في المجتمع، أو توجه هذه الطّاقات الإبداعيّة لأغراض خارجيّة وسلبيّة.
عندما أتحدّث هنا عن الثّقافة؛ أتحدّث عن الثّقافة من منظورها الواسع، والمرتبط بالجمال الإنسانيّ، من حيث العقل والقلب والبدن، والإسقاط الخارجيّ النّاتج عن هذه الثّلاثة، فهناك ثقافة العقل وما يرتبط بها من معارف، ومن ابتكارات علميّة، ومن نتائج عقليّة، ومن قراءة للتّأريخ والواقع برؤية منفتحة تضفي شيئا من العمق والتّعدّديّة المعرفيّة.
كما أنّ هناك ثقافة القلب والضّمير والوجدان، المرتبطة بثقافة الفنّ والجمال والأدب، ويصنّفها شوبنهاور (ت 1860م) تصنيفا هرميا، «فيرتبها حسب ما تعبّر عنه من مُثل تكون نابعة من قوى الإرادة، فالمثل الخاصة بقوى الطّبيعة غير العضويّة هي أدنى درجات المثل تعبيرا عن الإرادة، لهذا نجده يرى أنّ فنّ العمارة أدنى درجات الفنون؛ لأنّ المنفعة تتغلّب على الجانب الجماليّ، فيرتفع إلى فنّ النّحت وبعده التّصوير، ويعتبر الشّعر أعلى درجة من التّصوير؛ لأنّه يعبّر عن المثل بواسطة الخيال الّذي يجسّد التّصورات عن طريق الكلمات، أمّا الفنّ الّذي له مكانة عليا عنده فهو فنّ الموسيقى، فالموسيقى عنده كالأعداد والأشكال تكشف عن قانون الوجود، عن الفرح في ذاته، وعن الحزن في ذاته، والموسيقى عالم مستقل من عالم الظّواهر المحسوسة؛ لأنّها تجسّد قوانين الوجود، ولكنّها لا تحاكيه».
وأمّا البدن فهناك ثقافة الرّياضة الشّعبيّة التّقليديّة والرّياضات المعاصرة، وما يرتبط بالبدن عموما، جميع هذه الجوانب الثّلاثة أي العقل والقلب والبدن لها إسقاط ثقافيّ وجماليّ في الخارج، من حيث الوجود بشكل عام، ومن حيث ثقافة المنطقة الّتي ولد فيها الإنسان بشكل أخصّ، وأثر ذلك على طعامه ولباسه وغنائه وأدبه وفنّه وعاداته وتقاليده، ونتاجه المعرفيّ والثّقافيّ.
هذه الرّؤية الواسعة للثّقافة تعطي مساحة واسعة من حريّات الإبداع الثّقافيّ، والّذي ينبغي أن تحتضنه مؤسّسات قادرة على تفعيل هذا التّنوّع والإبداع الثّقافيّ، ولا ينبغي كبت هذا الواقع، ولا خسران مثل هذه الإبداعات؛ لأنّ المؤسّسات الثّقافيّة دورها احتضان وتنميّة مثل هذه الجوانب، ودعمها لتملأ الفراغ المجتمعيّ عند النّاس عموما بشكل عام، وعند الشّباب والمبدعين والموهوبين منهم بشكل خاصّ، حيث يخرجون طاقاتهم الإبداعيّة، ويوجهونها في خدمة الوطن وتنميته، وخدمة الإنسان فيه، بدل أن تستغلّ وتستثمر خارجيّا، وقد توجه ضمن جماعات متطرّفة، أو لها أغراض أيدلوجيّة أو سياسيّة لا علاقة للوطن وتقدّمه بها.
لهذا حصر النّشاط الثّقافيّ واقتصاره عند مركزيّة العاصمة حالة سلبيّة وليست عمليّة بشكل عام، نعم، نشاط الجانب الثّقافيّ في العاصمة حالة طبيعيّة، لسبب تمركز العديد من المواهب والإبداعات فيها، لسبب العمل أو الدّراسة أو الاستقرار الكامل نتيجة الهجرة، لما يجدونه فيها من سعة فضاء حريّة الإبداع الثّقافيّ ما لا يجدونه في مدنهم لسبب الحالة الانغلاقيّة نتيجة بعض العادات الّتي تعوق الإبداع الثّقافيّ، كما يجدون في العاصمة مؤسّسات حاضنة بشكل أوسع، لكن أن يتحوّل هذا إلى ظاهرة تقصر الإبداع الثّقافيّ في العاصمة أو مدن معينة من المجتمع؛ هي ظاهرة ليست حسنة على المدى البعيد، ويفقد المجتمع بها طاقات إبداعيّة، كما في الوقت نفسه ستنقرض فيه ثقافات على مستوى اللّغة واللّهجات والفنون والعادات والتّقاليد شيئا فشيئا، لسبب تمركز الحالة الثّقافيّة في العاصمة، أو تتوقف عند المدن فقط.
وعُمان - كما أسلفتُ في أكثر من مناسبة - تحوي من التّعدّديّة الثقافيّة، في جميع الجوانب المتعلّقة بالعقل والقلب أو الرّوح والبدن، وإسقاطاتها الجماليّة والثّقافيّة في الواقع الخارجيّ، هذا يحتاج إلى مؤسّسات قادرة على تفعيل ذلك، والحفاظ على التّراث الثّقافيّ، وتنمية الإبداعات الثّقافيّة المعاصرة، وبما أنّ عُمان استطاعت في هذه النّهضة المتجدّدة أن تنتقل من مركزيّة العاصمة إلى الشّراك من خلال المحافظات، فينبغي أن نجد حضورا ثقافيّا واسعا في المحافظات، على الأقل مبدئيّا على مستوى عواصم هذه المحافظات، حيث رأينا سلفا نشاطا في بعضها، وركودا عند الأغلب، بيد أنّه أيضا لا ينبغي أن يقتصر الجانب الثّقافيّ عند مهرجانات سنويّة، وإن كانت حالة صحيّة، إلّا أنّ الحالة المهمّة هنا يتمثل في خلق مؤسّسات ثقافيّة فاعلة وقادرة على احتضان التّنوّع الثّقافيّ في المحافظات، مع دعمه وتشجيعه، وعدم قصره عند زوايا معينة.
هناك العديد من المؤسّسات الثقافيّة في المحافظات، من نواد ثقافيّة ورياضيّة، ومن مراكز ثقافيّة وجامعات أهليّة ومكتبات ومبادرات شبابيّة، بيد أنّها تحتاج إلى استراتيجيّة وفق مركزيّة المحافظات ذاتها، لتحضى بالدّعم الماديّ والمعنويّ، لنرى في المستقبل ليس حضورا ثقافيّا فحسب، بل تنافسا في ذلك، يخلق إبداعات تنافسيّة، يرفع من قيمة المحافظة ذاتها، ويجعل اسمها حاضرا ليس على المستوى القطريّ، بل عابرا لفضاءات أوسع، ويضيّق من دائرة الفراغ، أو فقدان المواهب والإبداعات، أو استثمارها سلبا لأغراض تطرفيّة، أو هجرتها إلى خارج الوطن ذاته.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»