جهود العلماء في معرفة الحجم الحقيقي للوفيات والأمراض في غزة
السبت / 3 / ربيع الأول / 1446 هـ - 19:37 - السبت 7 سبتمبر 2024 19:37
ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
في شهر أغسطس، أصيب طفل يبلغ من العمر عشرة أشهر في غزة بالشلل الجزئي بسبب إصابته بمرض شلل الأطفال، وهي أول حالة مؤكدة هناك منذ 25 عاما. وقد يصبح الشلل دائما، ولا يوجد علاج له. هناك لقاح آمن وفعال للوقاية من الأمراض الخطيرة، ولكن الحرب الدائرة في المنطقة تعني توقف حملات التطعيم. ويبدو أنّ تفشي شلل الأطفال أمر لا مفر منه نظرًا لانتشار المرض من خلال القمامة والمياه الملوثة، التي تحيط بأولئك الذين يعيشون في المخيمات.
ولحسن الحظ، تم الاتفاق على سلسلة من فترات التوقف للحرب لمدة تسع ساعات على مدى أيام متتالية حتى يتسنى تطعيم الأطفال كجزء من حملة صحية طارئة للأمم المتحدة. وانتهت أولى هذه الفترات التي استمرت ثلاثة أيام يوم الثلاثاء. وسوف تستمر الفترة التالية حتى نهاية الأسبوع. ولكن هل سيتوقف القتال تمامًا؟ هذا الأمر يشكل مصدر قلق كبيرا، إذ سبق وهاجمت القوات الإسرائيلية المستشفيات والمدارس وشاحنات المساعدات وعمال الأمم المتحدة. ولذلك فإن وكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الغذاء العالمي لم تعد ترسل موظفيها إلى غزة بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النار على شاحنة تحمل علامة برنامج الغذاء العالمي حتى بعد أن حصلت المركبة على الموافقات من السلطات الإسرائيلية. ومن السهل للغاية أن نتفق على وقف مؤقت للحرب على الورق؛ ولكن الاختبار الحقيقي سيكون ما إذا كان هذا التوقف سيُحترم في الواقع.
إن اكتشاف شلل الأطفال في غزة يذكرنا بأن معرفة التكلفة الحقيقية للحرب أصبح أصعب مما كان. فنحن لا نملك حسًا بمدى انتشار المرض والجوع، أو ما يسمى «الوفيات غير المباشرة». ونحن في جهلٍ تامٍ فيما يتصل بالعدد الإجمالي للوفيات. وعادة ما تجمع البيانات من المستشفيات ومشارح الجثث، التي تشهد على كل وفاة وتخطر وزارة الصحة. ولكن أنظمة التسجيل المدني هذه انهارت في غزة، وهذا يعني عدم وجود بيانات دقيقة عن عدد الوفيات التي وقعت. وكانت وزارة الصحة تحاول جمع الأرقام باستخدام التقارير الإعلامية، وهي ليست وسيلة موثوقة لالتقاط الصورة الكاملة. وتشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 10 آلاف جثة مدفونة تحت الأنقاض (وهو ما يعني أنه لا يمكن إحصاؤها)، فضلًا عن عدد متزايد من الجثث التي لا يمكن التعرف على هوياتها.إن وجود استراتيجية مقبولة وموثوقة لتقدير العدد الحقيقي للوفيات من بعيد أمر مهم. فعلى مدى عدة عقود، تم تطوير أساليب لإنشاء مجموعات البيانات في المواقف التي تعاني من ضعف أو تلف أنظمة الرعاية الصحية والمراقبة. وتعدّ دراسة العبء العالمي للأمراض، التي تمولها مؤسسة بيل وميليندا جيتس، المعيار الأكثر دقة هنا. والهدف منها هو إنشاء استراتيجية لتقدير الوفيات ومن ثم التحقق من النتائج بين مجموعات البحث والأساليب المختلفة لتحديد ما إذا كان من الممكن الوصول إلى رقم موثوق ومقبول عالميًا. وعملية المراجعة هذه والتشاور تجري بين العلماء الزملاء.
نشرت مجلة لانسيت الطبية مؤخرًا تقديرًا للوفيات في غزة من قبل العديد من العلماء المحترمين، الذين يحددون استراتيجية التقدير الخاصة بهم، مقارنة بالصراعات المماثلة، ثم يحددون الأرقام النهائية. وتشير تقديرات الباحثين إلى أن الصراع الحالي في غزة قد يؤدي إلى وفاة نحو 186 ألف شخص بحلول منتصف يونيو 2024، وهذا العدد يمثل نحو 7.9% من سكان القطاع. وهذا الرقم المرتفع من الوفيات وقع على الرغم من اتفاقات وقف إطلاق النار المختلفة على مدى الأشهر الستة الماضية. وإذا استمرت الوفيات بهذا المعدل، أي نحو 23 ألف حالة وفاة شهريا، فسوف يكون هناك 149500 حالة وفاة إضافية بحلول نهاية العام، أي بعد نحو ستة أشهر ونصف الشهر من التقديرات الأوليّة في منتصف يونيو. وباستخدام هذه الطريقة، فإن إجمالي الوفيات منذ بدء الصراع سوف يقدر بنحو 335500 حالة وفاة في المجموع.
وعلى نحو مماثل، قدمت تقديرا تقريبيا في الشتاء الماضي من خلال النظر في حالات الصراع الأخرى وتقييم عدد الوفيات التي قد تحدث إذا استمر القتال دون تدخل دولي. وفي ديسمبر 2023، كان تقديري للوفيات نحو نصف مليون حالة وفاة دون وقف إطلاق النار. وهذا يتماشى تقريبا مع تقديرات مجلة لانسيت، فقد استخدموا تقديرًا متحفظًا للغاية، لكنهم سمحوا بأن يكون العدد أعلى من ذلك بكثير بسهولة. كما يظهر ما كان يمكن أن يحدث لو لم يتحرك المجتمع الدولي، ولم يستغل الفرص القصيرة المتاحة لتقديم المساعدات والرعاية الطبية. فقد تم إنقاذ العديد من الناس من خلال هذه التوقفات المختلفة في القتال والتدخلات الإنسانية، حتى لو تم فرضها بشكل متقطع.
من السهل أن نضيع في هذه الأرقام وننسى اسم ووجه كل جثة. في حين قد يبدو الوضع في غزة ميؤوسًا منه، فهو ليس كذلك. إن محاولات الوصول إلى القطاع من قبل الأمم المتحدة، مثل تلك التي أدت إلى توقفات إنسانية لتطعيم شلل الأطفال، تسهم في إنقاذ الأرواح. إنها تُحدِثُ فرقًا لمئات الآلاف من الأسر، حتى في ظل الرعب المروع للحرب. إن هذا ليس نقاشا سياسيا، فتعاون العلماء لإثبات الحقائق والبيانات الموثوقة أمر بالغ الأهمية لتوثيق ما يحدث في الصراع في قطاع غزة، وسوف يساعد كل من يعمل لإيجاد حلول للحفاظ على حياة الإنسان وصحته.
البروفيسورة ديفي سريدهار هي رئيسة قسم الصحة العامة العالمية في جامعة إدنبرة.
عن الجارديان البريطانية
في شهر أغسطس، أصيب طفل يبلغ من العمر عشرة أشهر في غزة بالشلل الجزئي بسبب إصابته بمرض شلل الأطفال، وهي أول حالة مؤكدة هناك منذ 25 عاما. وقد يصبح الشلل دائما، ولا يوجد علاج له. هناك لقاح آمن وفعال للوقاية من الأمراض الخطيرة، ولكن الحرب الدائرة في المنطقة تعني توقف حملات التطعيم. ويبدو أنّ تفشي شلل الأطفال أمر لا مفر منه نظرًا لانتشار المرض من خلال القمامة والمياه الملوثة، التي تحيط بأولئك الذين يعيشون في المخيمات.
ولحسن الحظ، تم الاتفاق على سلسلة من فترات التوقف للحرب لمدة تسع ساعات على مدى أيام متتالية حتى يتسنى تطعيم الأطفال كجزء من حملة صحية طارئة للأمم المتحدة. وانتهت أولى هذه الفترات التي استمرت ثلاثة أيام يوم الثلاثاء. وسوف تستمر الفترة التالية حتى نهاية الأسبوع. ولكن هل سيتوقف القتال تمامًا؟ هذا الأمر يشكل مصدر قلق كبيرا، إذ سبق وهاجمت القوات الإسرائيلية المستشفيات والمدارس وشاحنات المساعدات وعمال الأمم المتحدة. ولذلك فإن وكالات الأمم المتحدة مثل برنامج الغذاء العالمي لم تعد ترسل موظفيها إلى غزة بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النار على شاحنة تحمل علامة برنامج الغذاء العالمي حتى بعد أن حصلت المركبة على الموافقات من السلطات الإسرائيلية. ومن السهل للغاية أن نتفق على وقف مؤقت للحرب على الورق؛ ولكن الاختبار الحقيقي سيكون ما إذا كان هذا التوقف سيُحترم في الواقع.
إن اكتشاف شلل الأطفال في غزة يذكرنا بأن معرفة التكلفة الحقيقية للحرب أصبح أصعب مما كان. فنحن لا نملك حسًا بمدى انتشار المرض والجوع، أو ما يسمى «الوفيات غير المباشرة». ونحن في جهلٍ تامٍ فيما يتصل بالعدد الإجمالي للوفيات. وعادة ما تجمع البيانات من المستشفيات ومشارح الجثث، التي تشهد على كل وفاة وتخطر وزارة الصحة. ولكن أنظمة التسجيل المدني هذه انهارت في غزة، وهذا يعني عدم وجود بيانات دقيقة عن عدد الوفيات التي وقعت. وكانت وزارة الصحة تحاول جمع الأرقام باستخدام التقارير الإعلامية، وهي ليست وسيلة موثوقة لالتقاط الصورة الكاملة. وتشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من 10 آلاف جثة مدفونة تحت الأنقاض (وهو ما يعني أنه لا يمكن إحصاؤها)، فضلًا عن عدد متزايد من الجثث التي لا يمكن التعرف على هوياتها.إن وجود استراتيجية مقبولة وموثوقة لتقدير العدد الحقيقي للوفيات من بعيد أمر مهم. فعلى مدى عدة عقود، تم تطوير أساليب لإنشاء مجموعات البيانات في المواقف التي تعاني من ضعف أو تلف أنظمة الرعاية الصحية والمراقبة. وتعدّ دراسة العبء العالمي للأمراض، التي تمولها مؤسسة بيل وميليندا جيتس، المعيار الأكثر دقة هنا. والهدف منها هو إنشاء استراتيجية لتقدير الوفيات ومن ثم التحقق من النتائج بين مجموعات البحث والأساليب المختلفة لتحديد ما إذا كان من الممكن الوصول إلى رقم موثوق ومقبول عالميًا. وعملية المراجعة هذه والتشاور تجري بين العلماء الزملاء.
نشرت مجلة لانسيت الطبية مؤخرًا تقديرًا للوفيات في غزة من قبل العديد من العلماء المحترمين، الذين يحددون استراتيجية التقدير الخاصة بهم، مقارنة بالصراعات المماثلة، ثم يحددون الأرقام النهائية. وتشير تقديرات الباحثين إلى أن الصراع الحالي في غزة قد يؤدي إلى وفاة نحو 186 ألف شخص بحلول منتصف يونيو 2024، وهذا العدد يمثل نحو 7.9% من سكان القطاع. وهذا الرقم المرتفع من الوفيات وقع على الرغم من اتفاقات وقف إطلاق النار المختلفة على مدى الأشهر الستة الماضية. وإذا استمرت الوفيات بهذا المعدل، أي نحو 23 ألف حالة وفاة شهريا، فسوف يكون هناك 149500 حالة وفاة إضافية بحلول نهاية العام، أي بعد نحو ستة أشهر ونصف الشهر من التقديرات الأوليّة في منتصف يونيو. وباستخدام هذه الطريقة، فإن إجمالي الوفيات منذ بدء الصراع سوف يقدر بنحو 335500 حالة وفاة في المجموع.
وعلى نحو مماثل، قدمت تقديرا تقريبيا في الشتاء الماضي من خلال النظر في حالات الصراع الأخرى وتقييم عدد الوفيات التي قد تحدث إذا استمر القتال دون تدخل دولي. وفي ديسمبر 2023، كان تقديري للوفيات نحو نصف مليون حالة وفاة دون وقف إطلاق النار. وهذا يتماشى تقريبا مع تقديرات مجلة لانسيت، فقد استخدموا تقديرًا متحفظًا للغاية، لكنهم سمحوا بأن يكون العدد أعلى من ذلك بكثير بسهولة. كما يظهر ما كان يمكن أن يحدث لو لم يتحرك المجتمع الدولي، ولم يستغل الفرص القصيرة المتاحة لتقديم المساعدات والرعاية الطبية. فقد تم إنقاذ العديد من الناس من خلال هذه التوقفات المختلفة في القتال والتدخلات الإنسانية، حتى لو تم فرضها بشكل متقطع.
من السهل أن نضيع في هذه الأرقام وننسى اسم ووجه كل جثة. في حين قد يبدو الوضع في غزة ميؤوسًا منه، فهو ليس كذلك. إن محاولات الوصول إلى القطاع من قبل الأمم المتحدة، مثل تلك التي أدت إلى توقفات إنسانية لتطعيم شلل الأطفال، تسهم في إنقاذ الأرواح. إنها تُحدِثُ فرقًا لمئات الآلاف من الأسر، حتى في ظل الرعب المروع للحرب. إن هذا ليس نقاشا سياسيا، فتعاون العلماء لإثبات الحقائق والبيانات الموثوقة أمر بالغ الأهمية لتوثيق ما يحدث في الصراع في قطاع غزة، وسوف يساعد كل من يعمل لإيجاد حلول للحفاظ على حياة الإنسان وصحته.
البروفيسورة ديفي سريدهار هي رئيسة قسم الصحة العامة العالمية في جامعة إدنبرة.
عن الجارديان البريطانية