أعمدة

في المسألة خلاف

 
يتكرر الحديث كثيرا عن المسائل الخلافية، وخاصة بين أهل العلم، وهذا أمر متوقع لاعتبارات كثيرة، يأتي منها تجربة الحياة، والحصيلة المعرفية، والتقدير الشخصي للمجتهد، والقدرة على المقارنات، والمقاربات بين المواقف والأحداث، وكذلك القدرة على إجراء عمليات القياس، والظروف الزمنية والبيئية المختلفة، وأمر الخلاف ليس مقتصرا على أهل العلم، فكل إنسان يستطيع أن يتقاطع مع آخر، ولنفس الأسباب الواردة أعلاه، فليس هناك إنسان لم يكوِّن مجموعة من الآراء والمواقف والقناعات، ويمر بتجربة حياة وفق عمره الذي كتب له، والأمر؛ في حقيقته؛ ليس يسيرا بالمطلق، ولا معقدا بالمطلق، لأن الإنسان جبل على أن يكون متحفزا؛ ويشجعه هذا على الخلاف، وأن يكون متمهلا وهذا يدعوه إلى عدم الاستسلام لأي رأي أو موقف، أو قناعة يبديها فلان من الناس، كما أن هناك تراجعا عن قناعات تأكدت في لحظة زمنية ما، واستجدت قناعة أخرى أكثر حيوية ومنطقية، وهناك تأمل؛ فلعل في المسألة زاوية أخرى غير واضحة في اللحظة الزمنية الفارقة التي يجب أن يتخذ فيها قرارا ما، فقضايا الحياة؛ بقدر كثرتها وتنوعها، وشموليتها، بقدر تعقيداتها وحساسياتها، وخطورتها أيضا، فمنها ما يذهب إلى القيم الحاكمة بين الناس والمنظمة لحياتهم اليومية، ومنها ما يتعلق بالدين، ومنها ما يتعلق بالعادات، ومنها ما يتداخل مع العلاقات القائمة بين الأطراف، وتعدد هذه العلاقات بين: نسب، أو جماعة، أو بيئة عمل، أو حالة مصلحية، مؤازرة في لحظة حرجة، أو صداقة، ومنها ما يذهب أكثر إلى العمق الإنساني «الحب» وحقيقته المشتتة للتركيز، فيما يعرف بالعلاقة الرأسية، وهي أخطرها، لأن في نقيضها تذهب إلى إحداث صدمات غير متوقعة في الطرف الآخر، وفي كل هذه «التوليفة» يبقى من الصعوبة بمكان الوصول إلى حقيقة مطلقة في حسم الخلافات، مع التأكيد أن لا وجود؛ حقيقة مطلقة، إلا حقيقة النشأة والفناء؛ فهما الوحيدان اللذان يمكن أن لا يختلف عليهما اثنان، وما عدا ذلك، يبقى الحكم فيها نسبيا، مهما بلغ اليقين مستوى عال من الاطمئنان، وحوى كمًا مقدرا من الحقائق، لأن كل منطق خاضع للزمن الذي يعيش فيه، ولا يمكن تسويقه لأزمان قادمة، وذلك لسبب بسيط، وهو تغير الأدوات والوسائل في كل زمن جديد، ولذلك يتعب الناس أنفسهم عندما يغالون في مسألة الخلاف على حقائق ماثلة في عصرهم، ويريدون تسويقها لعصر قادم، من خلال تفريغ محتوياتها على أبنائهم؛ مثلا؛ فهذا لا يمكن على الإطلاق، ولنا العبرة في مقولة: «ولدوا في زمن غير زمانكم».

المشكلة ليست في مسألة الخلاف، فهذا أمر قطعي مرتبط بالإنسان أينما كان؛ ومن كان، وإنما المشكلة في مسألة الخروج من الخلاف، وهذه قضية متجذرة، ليست فقط في الحقل المعرفي؛ وخاصة في القضايا الخلافية، وإنما في حقول الحياة كافة، وقس ذلك على كل الأنشطة التي يمارسها الإنسان في حياته اليومية، سواء على المستوى الفردي، عندما يتقاسم عدم الخروج من الخلاف مع غيره، فيصل بهما الأمر إلى التنازع والشقاق، أو على مستوى المجموع، جماعة ضد جماعة، أو مؤسسة ضد مؤسسة، أو دولة ضد دولة، أو مكون سياسي/ اقتصادي/ ثقافي؛ ضد آخر يماثله في الوظيفة، ولعل أسهل الحلول عند الفقهاء؛ حيث يقال لك: «وللخروج من الخلاف عليك أن لا تأخذ بما يثير الخلاف» أي نقيض ما هو مختلف عليه، والذي يؤجج مواقف الخلاف أكثر، وعدم الركون إلى «الخروج من الخلاف» هو التعنت، والنرجسية، والاستصواب المطلق للرأي الخاص، وعلى الرغم من التجربة الإنسان الطويلة في مسألة الخلاف والخروج من الخلاف، إلا أن هذه المسالة لا تزال في مربعها الأول، وهذا ما يؤسف له حقا.