أفكار وآراء

الأسلحة البيولوجية تزعزع استقرار العالم

ترجمة: نهى مصطفى -

في 2020، خضع المجتمع البشري لنوع من اختبارات الاختراق: كوفيد-19. فقد اختبر الفيروس، وهو عدو غير مدروس، قدرة العالم على الدفاع ضد مسببات الأمراض الجديدة. وبحلول نهاية الاختبار، أصبح من الواضح أن البشرية فشلت. فقد انتشر كوفيد-19 في كل مكان، من محطات الأبحاث النائية في القارة القطبية الجنوبية إلى القبائل المعزولة في الأمازون. ومع انتشاره، أباد الضعفاء والأقوياء العاملين في الخطوط الأمامية ورؤساء الدول على حد سواء.

أبطأت عمليات الإغلاق الصارمة التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية واللقاحات المعجزة التي طورتها الديمقراطيات انتشار الفيروس، لكنها لم توقفه. ومع نهاية عام 2022، أصيب ثلاثة من كل أربعة أمريكيين بالعدوى مرة واحدة على الأقل. وفي الأسابيع الستة التي أعقبت إنهاء الصين لقيود «صفر كوفيد» في ديسمبر، أصيب أكثر من مليار شخص في البلاد. والسبب الرئيس وراء حصيلة الوفيات المتواضعة نسبيًا بسبب الوباء لم يكن سيطرة المجتمع على المرض، بل لأن العدوى الفيروسية أثبتت أنها ليست مميتة بشكل كاف. وفي النهاية، استنفد كوفيد-19 نفسه إلى حد كبير.

فشل البشرية في مواجهة كوفيد-19 أمر صادم؛ لأن العالم يواجه عددًا متزايدًا من التهديدات البيولوجية. بعضها، مثل إنفلونزا الطيور، يأتي من الطبيعة. لكن الكثير منها يأتي من التقدم العلمي. على مدى السنوات الستين الماضية، طور الباحثون فهمًا لكل من البيولوجيا الجزيئية والبشرية، ما سمح بتطوير مسببات الأمراض القاتلة والفعالة. اكتشفوا كيفية إنشاء فيروسات يمكنها التهرب من المناعة. تعلموا كيفية تطوير الفيروسات الموجودة لتنتشر بسهولة أكبر عبر الهواء، وكيفية هندسة الفيروسات لجعلها أكثر فتكًا. لا يزال من غير الواضح ما إذا كان كوفيد-19 نشأ من مثل هذه الأنشطة أو دخل إلى السكان من خلال التفاعل مع الحياة البرية. في كلتا الحالتين، من الواضح أن التكنولوجيا البيولوجية، التي يعززها الآن الذكاء الاصطناعي، جعلت إنتاج الأمراض أسهل من أي وقت مضى.

في حالة تسرب أو إطلاق مسببات الأمراض من صنع الإنسان أو تحسينها من أحد المختبرات، فقد تكون العواقب كارثية، بعض مسببات الأمراض الاصطناعية قادرة على قتل عدد أكبر بكثير من الناس والتسبب في دمار اقتصادي أكبر بكثير مما فعله فيروس كورونا المستجد. وفي أسوأ السيناريوهات، قد يتجاوز عدد القتلى في جميع أنحاء العالم عدد القتلى من الطاعون الأسود، الذي قتل واحدًا من كل ثلاثة أشخاص في أوروبا. وللتعامل مع هذا الخطر، سوف تحتاج الدول إلى البدء في تقوية مؤسساتها للحماية من مسببات الأمراض التي من صنع الإنسان.

على مدى أكثر من قرن من الزمان، كان أغلب الناس ينظرون إلى علم الأحياء باعتباره قوة للتقدم. ومع أوائل القرن الحادي والعشرين، ساعدت اللقاحات البشرية في القضاء على الجدري وطاعون الأبقار، وكادت تقضي على شلل الأطفال. ولكنه نجاح غير مكتمل؛ فالكثير من الأمراض المعدية لا علاج لها، وبالتالي فإن القضاء التام على مسببات الأمراض يظل استثناء وليس قاعدة. ولكن التقدم لا يمكن إنكاره. ولعل أفضل مثال على النجاح العلمي هو التعامل مع جائحة فيروس نقص المناعة البشرية (HIV). فعلى مدى عقود من الزمان، قتل فيروس نقص المناعة البشرية كل من أصابه تقريبا. ولا يزال يصيب الملايين من الناس كل عام. ولكن بفضل الإبداع العلمي، أصبح العالم الآن يمتلك كوكتيلات من الأدوية التي تمنع تكاثر الفيروسات، وحولت المرض من حكم بالإعدام إلى حالة طبية يمكن السيطرة عليها.

لكن التقدم قد يكون سلاحًا ذا حدين. يسر الفهم المتزايد لعلم الأحياء الدقيقة إحراز تقدم كبير في مجال الصحة البشرية، ولكنه مكن أيضًا من محاولات تقويضه. فخلال الحرب العالمية الأولى، درس الحلفاء استخدام الأسلحة البكتيرية، واستخدم عملاء الاستخبارات العسكرية الألمانية مثل هذه المسببات للأمراض لمهاجمة الحيوانات التي استخدمها الحلفاء في النقل. وقد أصابوا الخيول والبغال بالمرض في فرنسا ورومانيا. مع بداية الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المبادرات قد نضجت إلى أسلحة مصممة لقتل البشر.

لكن مثل هذا التفكير لم يمنع دولًا أخرى من البحث والتطوير في مجال الأسلحة البيولوجية. ففي ستينيات القرن العشرين، أطلقت وزارة الدفاع الأمريكية المشروع 112، والتزمت بتطوير أسلحة بيولوجية قاتلة ومعوقة. مع اقتراب ستينيات القرن العشرين من نهايتها، كان العلماء الحكوميون ينتجون كميات كبيرة من البكتيريا والسموم القاتلة التي تم تصميمها، على حد تعبير عالم الأحياء الدقيقة رايلي هاوسرايت، «لخلط التشخيص وإحباط العلاج».

وفي عام 1969، قرر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون وقف برنامج الأسلحة البيولوجية في بلاده. كما دعا إلى إبرام معاهدة دولية تحظر مثل هذه المبادرات. وبعد وقت قصير من إعلان نيكسون، أدلى جوشوا ليدربيرج ــ عالم الأحياء الحائز على جائزة نوبل ــ بشهادته أمام الكونجرس لدعم الحظر العالمي. وقال: الأسلحة البيولوجية قد تصبح بنفس القدر من الفتك مثل الأسلحة النووية. ولكن تصنيعها سيكون أسهل. وقال ليدربيرج: الأسلحة النووية «احتكرتها القوى العظمى لفترة كافية للحفاظ على توازن فعلي للردع وبناء نظام أمني قائم على منع الانتشار». وأضاف: «قوة الجراثيم على عكس ذلك تمامًا».

ولكن الخصم الرئيس لواشنطن لم يقتنع. ففي عام 1971، وبينما العالم يتفاوض بشأن معاهدة، أطلق الاتحاد السوفييتي سلالة مسلحة من فيروس الجدري على جزيرة في بحر الآرال. وأدى ذلك إلى تفشي الجدري في كازاخستان الحالية. وتم احتواء تفشي المرض من خلال الجهود البطولية التي بذلها مسؤولو الصحة العامة السوفييت، ولكن هذه الجهود لم تنجح إلا بسبب قلة عدد السكان في المنطقة المتضررة ولأن معظم المواطنين السوفييت تم تطعيمهم وامتلكوا بعض المناعة.

وفي وقت لاحق من ذلك العام، اتفق الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على معاهدة تحظر الأسلحة البيولوجية، والتي أطلق عليها اسم «اتفاقية الأسلحة البيولوجية». وأشادت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاتفاقية، وفي عام 1972، فُتِح باب التوقيع عليها في لندن وموسكو وواشنطن.

ولكن اتفاقية الأسلحة البيولوجية واجهت مشكلة أخرى: فهي لم تحظر على الجماعات الخاصة والأفراد السعي إلى الحصول على مثل هذه الأسلحة. ففي عام 1984، قامت حركة راجنيش الدينية، التي تتخذ من ولاية أوريجون مقرًا لها، بتلويث مطاعم السلطة بالسالمونيلا. (كان هدفها شل قدرة الناخبين المعارضين حتى يتمكن مرشحو راجنيش من الفوز في انتخابات مقاطعة واسكو). ولم يمت أحد، ولكن مئات الأشخاص أصيبوا بالمرض. وفي عام 1995، أصابت جماعة أوم شينريكيو المروعة الآلاف من الناس في طوكيو بغاز الأعصاب الكيميائي السارين؛ وكانت الجماعة قد حاولت من قبل، دون جدوى، صنع أسلحة الجمرة الخبيثة. وفي عام 2001، أسفرت هجمات الجمرة الخبيثة في الولايات المتحدة عن مقتل 5 أشخاص.

والحقيقة أن الاتفاقيات الدولية الحالية وتدابير الصحة العامة لا يمكنها منع مثل هذه الهجمات.

تتزايد المخاطر بفضل ثورة تكنولوجية ثانية: صعود الذكاء الاصطناعي. فالنماذج اللغوية الكبيرة، مثل تلك التي تنتجها ChatGPT وClaude، أصبحت أكثر تعقيدًا وقوة مع كل تكرار جديد. واليوم، يستخدم الآلاف من العاملين في المختبرات الإصدارات الأحدث كل يوم لتسريع عملهم. في عام 2020، ابتكر باحثو الذكاء الاصطناعي نظاما، AlphaFold، والذي حل بفعالية مشكلة كبيرة في علم الأحياء: التنبؤ بالهيكل الثلاثي الأبعاد للبروتين من تسلسل الأحماض الأمينية.

ولكن بالنسبة للإرهابيين البيولوجيين المحتملين، فإن هذه الأنظمة قد تسهل الطريق إلى الفوضى. ويبدو أن أكبر نماذج الذكاء الاصطناعي تم تدريبها على مجمل المعرفة المنشورة في علوم الحياة. وبطبيعة الحال، كانت معظم هذه المعرفة متاحة بالفعل على الإنترنت، ولكن لا يمكن لأي إنسان أن يستهلكها أو يعالجها أو يصنعها كلها. كما يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تصميم بروتينات جديدة (التي تمكن من تصميم مسببات الأمراض الخطيرة) وتنفيذ العمليات المختبرية. حتى أن بعض علماء الكمبيوتر يعملون على إنشاء أنظمة آلية قادرة على تنفيذ المهام المختبرية. وإذا نجحت هذه الجهود، فقد يتمكن الإرهابيون من إنشاء مسببات أمراض جديدة قاتلة ببساطة عن طريق اختطاف مثل هذه المرافق الآلية.

سيكون من الصعب للغاية على السلطات أن توقفهم. فقد أثبت المتسللون قدرتهم على اختراق أنظمة أمنية معقدة للغاية، وتشمل المواد اللازمة لإنتاج مسببات الأمراض الجديدة الكواشف والمعدات المتاحة على نطاق واسع. وقد تحاول الهيئات التنظيمية استهداف العشرات من الموردين الذين يلبون طلبات المكونات الرئيسية. ولكن هناك طرق للالتفاف حول هؤلاء الموردين، وإغلاقهم قد يؤدي إلى إبطاء البحث والتطوير في مجال الطب الحيوي القيم.

إذا نجح الإرهابيون في النهاية في إنتاج وإطلاق مسببات الأمراض الفيروسية، فقد تصيب مساحات شاسعة من السكان في وقت أقل بكثير مما قد يستغرقه المسؤولون للكشف عن التهديد وتحديده والبدء في محاربته. وإنتاج مسببات الأمراض، في نهاية المطاف، أرخص من الدفاع ضدها.

مجرد التفكير في إنفاق مليارات الدولارات في محاولة لوقف جائحة أخرى يجب أن يكون كافيًا لردع الدول عن تسليح البيولوجيا. ومع ذلك، تواصل بعض الحكومات متابعة مبادرات خطيرة. في أبريل 2024، قدرت وزارة الخارجية الأمريكية أن كوريا الشمالية وروسيا لديهما برامج أسلحة بيولوجية هجومية وأن الصين وإيران تواصلان أنشطة بيولوجية يمكن تسليحها. وكل هذه الدول أطراف في اتفاقية الأسلحة البيولوجية.

في عام 1969، حذر ليدربيرج من أن عواقب الانتشار البيولوجي غير المنضبط ستكون أشبه بجعل «القنابل الهيدروجينية متاحة في السوبر ماركت». ولأن الردع على غرار أسلوب الحرب الباردة صعب التنفيذ، فإن الوضع الحالي يتطلب فلسفة مختلفة. وهنا لا يكمن الردع في القدرة على الرد، بل يكمن بدلًا من ذلك في الدفاع القوي إلى الحد الذي يجعل شن الهجمات البيولوجية أمرًا غير مجد.

تحتاج الحكومات إلى بناء أنظمة قادرة على تطوير اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات وغيرها من التدخلات الطبية بسرعة. ولكن كما حدث مع الحرائق في المناطق الحضرية، تحتاج الحكومات إلى فهم أن الاستجابات السريعة لن تكون كافية. فالعالم قادر، بل ويجب عليه، على تطوير القدرة على تطعيم 8 مليارات شخص في غضون 100 يوم من تفشي المرض ــ أسرع مما استغرقته الولايات المتحدة لتطعيم 100 مليون شخص بالكامل ضد كوفيد-19.

وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على صناع السياسات اتخاذ خطوات أشبه بوضع قواعد تجعل من الصعب انتشار مسببات الأمراض. ويمكنهم أن يبدأوا بإنشاء مخزونات أكبر من معدات الوقاية الشخصية. وتعتبر الأقنعة والقفازات وأجهزة التنفس الصناعي أساسية لوقف انتقال الفيروس، وبالتالي ينبغي للمسؤولين توقيع عقود تحضيرية لمثل هذه السلع. وينبغي للدول أيضًا أن تدعم قواعدها الصناعية حتى تتمكن من زيادة الإنتاج إذا لزم الأمر. وينبغي لها أن تأمر الشركات المصنعة بإعادة تصميم معدات الوقاية الشخصية لجعلها أرخص وأكثر فعالية وأكثر راحة. وينبغي للدول أن تساعد في تزويد مباني هذه القطاعات بأنظمة تنقية الأشعة فوق البنفسجية البعيدة القاتلة للميكروبات ومرشحات الجسيمات. ومن شأن هذه التدابير مجتمعة أن تقلل بشكل كبير من خطر تفشي الفيروسات.

هناك طريقة أخيرة للحد من خطر الكوارث البيولوجية، وهي طريقة تتجاوز التخطيط للاستجابات والدفاعات. ويتعين على المسؤولين أن يحكموا بشكل أفضل التقنيات الجديدة. وقد تكون هذه هي الطريقة الوحيدة لمنع هجوم بيولوجي جماعي. هناك العديد من الأدوات التي يمكن للحكومات استخدامها لتنظيم التقدم. فيمكن للمسؤولين، على سبيل المثال، رفض التمويل أو حتى حظر تجارب معينة. ويمكنهم أن يطلبوا من الأشخاص والمرافق الحصول على تراخيص قبل القيام بأنواع معينة من العمل. ويمكنهم أن يكونوا أكثر صرامة في الإشراف على المختبرات في المستقبل.

ولكن يتعين على المسؤولين أيضًا أن يعملوا على تشكيل النظام البيئي الذي يدعم البحث والتطوير البيولوجي. فيتعين عليهم على سبيل المثال أن يطلبوا من الشركات التي تبيع الأحماض النووية والسلالات والكواشف وغيرها من معدات العلوم الحيوية المستخدمة في صنع العوامل البيولوجية أن تتبنى قواعد «اعرف عميلك»، التي تلزم الشركات بتأكيد هويات عملائها وطبيعة أنشطتهم. كما يتعين عليهم أن يضمنوا شحن البضائع إلى مواقع معروفة ومشروعة فقط. فضلاً عن ذلك، ينبغي لصناع السياسات أن يتمكنوا من تنظيم السلوك بشكل أفضل. ويتعين على الحكومات أن تبتكر طرقًا جديدة للكشف عن الأنشطة البيولوجية المحظورة حتى تتمكن أجهزة إنفاذ القانون والاستخبارات من منع الهجمات قبل وقوعها.

وأخيرا، تحتاج الدول إلى صياغة سياسات الدفاع البيولوجي الخاصة بها مع وضع الذكاء الاصطناعي في الاعتبار. كأن تقوم الشركات باختراع وتثبيت ضمانات مختلفة، مثل «الخطوط الحمراء» التي لا يمكن للمستخدمين تجاوزها. على سبيل المثال، يرفض ChatGPT-4 وClaude 3.5 Sonnet الإجابة على أسئلة مباشرة حول كيفية تطوير فيروس لقتل الحيوانات في المزارع. ولكن إذا طلب المستخدمون إرشادات حول نفس المعلومات دون استخدام كلمة «قتل»، فإن هذه النماذج سوف تقدم إرشادات جيدة. وبالتالي، تحتاج نماذج الذكاء الاصطناعي إلى ضمانات إضافية ضد توزيع معلومات خطيرة، وينبغي للحكومات المساعدة في إنشائها.

لن يكون من السهل الحد من المخاطر الناجمة عن هذه التقنيات الجديدة، كما أن بعض تدابير الحوكمة قد تؤدي إلى إبطاء البحوث المشروعة. ولكن الرقابة الذكية ضرورية. وعلى الرغم من كل مزاياه، فإن الذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية تحملان مخاطر هائلة، ويتعين على المجتمعات والحكومات أن تقيم بصدق الفوائد الحالية والمستقبلية لهذه التطورات في مقابل مخاطرها المحتملة.

روجر برينت عالم أحياء أمريكي وأستاذ العلوم الأساسية في مركز فريد هاتشينسون للسرطان.

ت. جريج ماكيلفي الابن باحث أول في مجال السياسات الطبية في مؤسسة راند البحثية الأمريكية.

جيسون ماثيني خبير اقتصادي وتقني وخبير في الأمن القومي للولايات المتحدة، ويشغل منصب رئيس مؤسسة راند البحثية.

نُشر هذا المقال في مجلة الشؤون الخارجية وعلى موقع» ForeignAffairs.com»