أعمدة

لا حياة «الرولز رويس» و لا .. الماعز

فوجئت، بكم كبير من منشورات ملأت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة تتحدّث عن الفيلم الهندي «حياة الماعز»، وصرنا لا نكاد ندخل موقعًا من هذه المواقع إلّا ونقرأ منشورات تتحدّث عن الفيلم وتفاصيله، واختلفت وجهات النظر بين مادح وقادح، وقبل ذلك تابعنا حملة مموّلة من الجهة المنتجة للفيلم سوّقت له، وجاءت على شكل «بوسترات» متعدّدة نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، هذا التمويل جعل الأنظار تلتفت له، فاتّسعت مساحة المشاهدة، ووجدتْ بعض الأقلام به فرصة لتُسقط عليه ما تُضمر، فكثر الكلام، الذي كانت غالبيته خارج إطار النقد السينمائي، فلم تتطرّق، للعناصر الفنية وجماليات الصورة، والأداء، والمؤثرات الصوتية، والبناء الدرامي، إلّا قلّة، علمًا أننا، ومن وجهة نظر فنية، لم نرَ فيه ما رأى الكثيرون الذين وصفوه بـ«التحفة السينمائيّة»، فهو لا يخلو من هِنات فنية، ومبالغات ومازلنا ننتظر من نقّاد السينما المتخصصين، تقييمًا حقيقيًا، فقد صمتوا عن الكلام المباح، ولم يكن صمتهم إلّا بسبب كثرة الخائضين، فتنحّوا جانبا، ريثما تنتهي الضجّة، ليقولوا كلمتهم.

وأظن أن هذه الضجّة لم تكن ستحصل لو أخذ مخرج الفيلم «بلاسي» بنصيحة د. خالد الزدجالي عندما طلب مساعدته في إنتاج فيلمه في عُمان، وكان الزدجالي، في البداية، متحمّسًا له، لكن بعد قراءته للسيناريو انطفأ حماسه؛ لأنه وجد فيه إساءة لبلد شقيق وللمنطقة، وأبلغه بتحفظاته، ولكن المخرج أصرّ على موقفه وقدّمه للرقابة على المصنفات الفنية في سلطنة عُمان، وكما توقّع د. خالد، استنادا لخبرته الطويلة، تمّ رفض تصوير الفيلم في عُمان، وكما يقول «ليس لسبب آخر غير أن سياسة السلطنة هي عدم التعرّض لأي دولة شقيقة مراعاة للجيرة والأخوة ومجلس التعاون»، وربما وضع المخرج ملاحظة د.خالد بنظر الاعتبار، فأثبت في بدايته عبارة «الفيلم لا يقصد الإساءة لأي بلد أو شعب»، لكن فيلمه، جاء مليئًا بالإساءات، تكريسًا للصورة النمطيّة التي رسمتها «هوليوود» في الأذهان، وهي الصورة التي جعلت أحدهم يسأل صديقًا عمانيًّا في منتصف التسعينيات: هل خيمتك كبيرة!؟

وحين نجحت المنطقة في تغيير هذه الصورة وإثبات زيّفها الذي يقف خلفه الإعلام المعادي، جاءت «بوليوود» لتعيد مرّة أخرى، وتقول للعالم أنّ منطقة الخليج ليست سوى صحراء، وخيم، وإبل، وماعز، وقحط، وبين «هوليوود» و «بوليوود» ضاعت الصورة الحقيقية للعربي، أمّا مشهد الثري السعودي الذي كان يقود سيارة الرولز رويس وتعاطف مع «نجيب» حين رآه بهيئة مزرية، بعد هروبه من الصحراء، فقام بنقله بسيارته ليوصله إلى برّ الأمان، فهو مشهد يتيم، أراد به صنّاع الفيلم رسم صورة تؤكّد وجود فوارق طبقية حادّة، وفي الحقيقة ليست الحياة في منطقة الخليج كلّها حياة ماعز ولا حياة الرولز رويس، ففي المنطقة التي دخلت عصر الحداثة قبل أكثر من نصف قرن، نجد الغني والفقير، على حدّ سواء، المتعلّم والجاهل، الإنسان الخيّر والشرّير، وفيها مواطنون كادحون، لذا ليس من الصواب أن نعتبر مثل هذه الأعمال الفنّيّة وثيقة، كونها استندت على قصّة واقعيّة؛ لأنها تعاطت مع حالة استثنائية، وقد أدخل صنّاع الفيلم هذا الاستثنائي في مصهرهم، وعملوا عليه عدّة عمليات تبشيعية، من باب الإثارة، فالفيلم في النهاية «هندي» بمعنى أنه يبرع في تجسيد الأحداث المأساوية التي أحيانا تأتي دون منطق سليم، من هنا دخلت القصّة الحقيقية مصهرين، الأول: سردي عندما حوّلها الكاتب الهندي بنيامين «وهو اسم مستعار لبيني دانيال» إلى رواية كتبها باللغة الماليالامية عنوانها «أيام الماعز»، فأضاف على القصة الحقيقية الكثير من «البهارات الهندية»، لذا سرعان ما نجحت، وصارت الكتاب الأكثر مبيعًا في الهند عام 2008م، وترجمت، ولم ينشرها الكاتب باسمه الصريح كونه كان يعمل في البحرين، وربما سمع الحكاية من الشخصية الحقيقية عندما عمل في البحرين أيضًا، رغم أن البطل قال في ختام الفيلم وهو ينظر للآسيويين العائدين من الخليج إلى بلدهم محمّلين بالهدايا «الجميع عاد بحقائب كبيرة مليئة بالعطور وأجهزة التلفاز، بينما زوجتي وابني في انتظاري، وكلّ ما لديّ لأعطيهم هو الوقت الباقي من عمري» لكن البطل الحقيقي عاد للعمل في الخليج ثانية، ومكث ثلاث سنوات في البحرين، كما قال لي الفنان طالب البلوشي، بل أن ولده «نبيل» الذي علم بولادته بعد هروبه من الصحراء، يعمل حاليًّا في مسقط.

والمصهر الثاني عندما جرى تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، فابتعدت القصّة الحقيقيّة بمسافة خطوتين عن الواقع، فكيف نعتبره وثيقة عن أوضاع العمال الآسيويين وعلاقتهم بالكفلاء؟ علمًا أن الرجل الشرّير الذي اختطف «نجيب» وصاحبه «حكيم» ليس الكفيل، ففي الخليج قوانين تنظّم عمليّة الكفالة، وتجعل الكفيل مسؤولا عن ظروف عمل المكفول وحقوقه، ولكن مشكلتهما بدأت في الهند مع المبتزين الذين احتالوا عليهما في بلدهما، فباع «نجيب» بيته، ليحصل على عقد عمل مزيّف ليتركوه لقمة سائغة لذئب بشري يقيم في الصحراء جسّد دوره ببراعة الفنان طالب البلوشي، وهذا الابتزاز، لم يتوقف عنده الذين سرقت أنظارهم «حياة الماعز»!