تناقضات ميخائيل مشاقة
الأربعاء / 23 / صفر / 1446 هـ - 13:18 - الأربعاء 28 أغسطس 2024 13:18
يمثل الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر مفارقة. فمن ناحية، أصبحت في ذلك الوقت فكرة المجتمع الحديث العلماني ممكنة. ومن ناحية أخرى، شهد ذلك الزمن معارضة تلك الفكرة بصعود الهويات الدينية الجديدة المثيرة للانقسام. وفي ولايات الإمبراطورية العثمانية العربية جميعا، كان المثقفون ينشئون مجالا عاما حديثا، ذا صحافة دورية نابضة بالحياة، وسلسلة من الجمعيات الثقافية ومدارس من طراز جديد. وصار أتباع الأديان المختلفة ـ من مسلمين ومسيحيين ويهود ـ يتلاقون في تلك المؤسسات، ويتجادلون في المجتمع والعلم والثقافة. وبدأ قلة منهم من أمثال «المادي» شبلي شميل يبشرون بالعلم الحديث بديلا للدين. في الوقت نفسه أعلنت الدولة العثمانية المساواة بين رعاياها جميعا على اختلاف أديانهم في عام 1856. وصدَّق الكثير من المثقفين ذلك فدعوا أبناء أوطانهم إلى تنحية الاختلافات الدينية جانبا باسم «وطن» و«أمة» للناس من كل العقائد.
في الوقت نفسه، كانت هذه الولايات العربية- وبخاصة سوريا ولبنان- تعاني من صراعات كبيرة بين الطوائف الدينية. فقد شهدت أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر في لبنان قتالا مريرا بين جماعات مسلحة من الدروز الإبراهيميين والموارنة المسيحيين. وتصاعدت التوترات في سوريا، بدافع من تدخل الدول الأوروبية ومخاوف تنامي سلطتهم داخل الأراضي العثمانية. في عام 1860، بلغت هذه الضغوط ذروتها، ففي دمشق نفسها، وهي عاصمة الولاية، ارتكبت جماعة من المسلمين المسلحين مجزرة في آلاف المسيحيين. في الوقت نفسه، كان القادة والمجددون الدينيون يسعون إلى إقامة طوائف دينية أكثر تجانسا، ومتمايزة بوضوح عن بعضها بعضا. فناصر النشطاء المسلمون المنتمون إلى بواكير الحركة السلفية من أمثال رشيد رضا عودة مثال العصر النبوي المحمدي الخالص. واستهدف رجال الدين الكاثوليك من أمثال البطريك مكسيموس مظلوم تمييز طوائفهم تمييزا واضحا عن غيرهم من الجماعات المسيحية الأخرى وعن المسلمين أيضا. وكانت تلك المشاريع تتماثل ـ بطريقتها ـ مع حداثة العلمانية أو العقلانية العلمية. فقد شرعت في محو أنظمة الممارسات الدينية القديمة من قبيل عبادة القديسين والأضرحة الشائعة أو المواكب المشتركة والأيام المقدسة التي عملت في بعض الأوقات على طمس الحدود بين العقائد.
وبذلك يكون القرن التاسع عشر في العالم العثماني العربي قد خلّف إرثا متناقضا. فقد شهد ظهور ضربين من المشاريع من شأنهما أن يقسما الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، فمنهما ما يرمي إلى مجتمع علماني وعلم وعقلانية، ومنها في المقابل ما يصر على هوية دينية وفصل بين الطوائف الدينية. فكيف تأتى لهاتين النزعتين ـ شديدتي التناقض في ظاهر الأمر ـ أن تأتيا إلى الوجود في اللحظة نفسها، وجنبا إلى جنب؟
من طرق الإجابة على هذا السؤال طريقة التاريخ المصغر [microhistory]، أي بالنظر إلى قصة فرد واحد لعب دورا في نشوء كلا الضربين من المشاريع. وذلك الشخص كان ميخائيل مشاقة، وهو رجل ساعد في صوغ كل من العقلانية العلمية والتجديد الديني، إذ مضى في مساره الخاص الفريد خلال القرن التاسع عشر. وتلقي قصة رحلته الفريدة من الشك إلى الإيمان ضوءا على التحول الذي جرى لمكانة الدين في المجتمع العثماني العربي، ويساعدنا هذا التحول على رؤية كيفية تشابك جذور العلمانية العقلانية والهوية الدينية الانقسامية.
وصل مشاقة إلى ميناء دمياط المصري سنة 1817 وهو في السابعة عشرة من عمره. وكانت تلك المدينة الصاخبة هي المقر الرئيسي للتجارة بين سوريا ومصر، فعثر فيها على عالم شديد الاختلاف عن بلدة دير القمر الجبلية اللبنانية التي نشأ فيها. على طول ضفة النيل كانت البوارج تفرغ القهوة والأرز والعدس مباشرة في مداخل البيوت والخانات المحاذية للنهر. وكان الميناء يشهد مرور الفلاحين من فلسطين والأئمة من إسطنبول واليهود من رودس والمسيحيين الأقباط المصريين في رحلات الحج إلى القدس. وفي القلب من تجارة المدينة كان مجتمع صغير، وثري، من التجار المسيحيين الوافدين من سوريا، وبينهم اتخذ ميخائيل الشاب مكانه، مقيما مع عمه وأخيه الأكبر اللذين سبق أن استقرا في دمياط، وشرع يتعلم التجارة ويجني المال.
لولا شائبة. فمع مقدم الربيع كان الطاعون يظهر في المدينة. وفي ذروته، كان يمكن أن تشهد المدينة مائة موكب جنائزي. وكان دأب المرض أن يستمر في إصابة وقتل أهل دمياط لأشهر عديدة، وصولا إلى يونيو ويوليو. فكانت تلك مشكلة للجميع، ومع ذلك لم يكن من إجماع على سبيل التعامل معها. فكان كثير من المسلمين والمسيحيين يلجأون إلى الدعاء، والبعض يلوذون بالسحر كأن يرسموا مربعات أو المخططات على واجهات البيوت والغرف للحماية. وكان آخرون (أو أولئك أنفسهم) يلجأون إلى السبل الطبية، لكن الأطباء كانوا مختلفين في أسباب الطاعون الحقيقية وعلاجه. فمنهم من كان يعتقد أنه ينتشر باللمس، وغيرهم بتنفس الهواء الفاسد، ومنهم من ظن أن في تدخين التبغ أو الأفيون حماية ونفعا، وآخرون رفضوا كل تلك العلاجات. فكان أثرياء دمياط يقصدون إلى حماية أنفسهم بنوع من «الحظر» إذ يغلقون على أنفسهم أبواب بيوتهم ومساكنهم لأشهر عدة، ويغسلون كل ما يدخلها من سلع بالماء أو الخل.
وقد يفضي هذا الاختلاف في ردود الأفعال إلى مشاحنات، لأن تبني الاحتياطات الطبية المعقدة قد يبدو إنكارا لقدرة الله، وقد يبدو الاعتماد على السحر أو الدعاء دون غيرهما طيشا له خطره. وفي مجتمع ذلك الميناء المصري المزدحم المختلط، كان الاحتكاك دائما بين مختلف الأنظمة الاعتقادية في مواجهتها لذلك التحدي المشترك. وما كاد ميخائيل مشاقة يصل إلى دمياط حتى أصيب شقيقه الأكبر أندراوس بعدوى الطاعون، لكنه تعافى. وعثر ميخائيل أعلى باب غرفته على ورق يحمل شعارا دينيا وضعه القسيس الكاثوليكي المحلي. وكان يفترض بتلك الشعارات مثلما قيل له أن «تصد الطاعون عن المكان» ففشلت في ذلك فشلا مبينا ـ حسبما أشار ميخائيل ـ لأن أخوه أندراوس أصيب فعلا بالطاعون. وقيل له «لا تكن قليل الدين وتبذر الشكوك». لكن الشك ألح عليه، وكانت تلك التناقضات في التعامل مع الطاعون عاملا أفضى بمشاقة إلى الشك في الدين كله.
والعامل الكبير الآخر كانت جذوره تضرب في خليط دمياط الاجتماعي المتنوع تنوعا غير معهود. فعلى مدار أكثر من عقد، كان أغنى تجار المدينة باسيلي فخر ـ وأحد المتصلين برجال الدين والبحارة اليونانيين والرحالة والباحثين الأوروبيين الغربيين ـ يرعى ترجمة أعمال عصر التنوير الأوروبي إلى العربية. فكانت تلك هي المرة الأولى التي يتاح فيها العلم ما بعد النيوتني وفكر المؤلهة الفرنسيين التشكيكي باللغة العربية. وكان مشاقة قد اطلع بالفعل على بعض تلك الكتب في بيته بجبل لبنان بفضل عم له رجع بها من دمياط، ثم تيسر له أن يقرأ المزيد. وأتاح له علم عصر التنوير تفسير نظام «قوانين الطبيعة» لظواهر الطبيعة ـ من قبيل حركة الكواكب والنجوم ـ وتنبؤه بها بدقة رياضية. وعلى النقيض، كانت «القوانين» الموضوعة دينيا تبدو محاطة بالشكوك منافية للعقلانية. واكتمل رفض مشاقة للدين حينما قرأ ترجمة أخرى من ترجمات فخر إلى العربية. وكانت تلك هي «أطلال امبراطورية» للفيلسوف الفرنسي قنسطنطين فرانسوا دي فولني الذي ارتحل في مصر وسوريا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.
ذهب فولني إلى أن الأمور الإنسانية ـ شأن العالم الطبيعي ـ خاضعة لأحكام «قوانين الطبيعة، ماضية في مسارها، متسقة في آثارها». غير أن الأديان تضليل لهذه القوانين، ونتاج سوء فهم للكون، وما بقاؤها إلا بقوة النخب الكهنوتية الرامية إلى إدامة سلطتها. ومثلما قالها مشاقة لاحقا: «لقد بت أعتقد أن الأديان كلها أكاذيب، وأن قوانين الأديان أنشأها الحكماء ليلجموا بها الجهلاء». وشأن فولني، لم يرفض مشاقة فكرة الكائن الإلهي الذي خلق عجائب الطبيعة لكنه عزم على أن يعمل «وفقا لهداية نور الطبيعة» الذي «غرسه الله في أنفسنا». وبرغم بقائه على كاثوليكيته في ظاهر الأمر اجتنابا لإلحاق فضيحة بأهله وأبناء دينه، فقد بات «يعد كل ما يقرأ ويسمع في كتب الطوائف زيفا وضلالا لا طائل من ورائه» ولا يقبله «العقل السليم».
وفي حين انجذب مشاقة ـ ومن حوله دائرة صغيرة من شباب السوريين الكاثوليك من أمثال شقيقه أندراوس ـ إلى مذهب المؤلهة القائم على «القانون الطبيعي» والعقل، مضى آخرون في دمياط إلى مقاومته. فكتب القسيس الكاثوليكي المثقف سابا الكاتب مجموعة مقالات في تفنيد «هرطقات» الماديين سواء القدامى منهم (من أمثال ديمقريطوس وإبيقور) أو المحدثين (من أمثال فولتير وهوبز). فطرح في مواجهتهم حجة التصميم الشهيرة: وهي أن الكون العجيب الذي يكشفه العلم لا بد أن يكون له خالق إلهي. ولا تخفى دلالة أن الكاتب قد تبنى أسلوبا في الاحتجاج غير شائع في الدفاعات المسيحية [عن وجود الله]، فبما أن خصومه «لا يؤمنون بأي كتاب مقدس، ولا برسالة رسول» كما كتب «فقد جعلت أساسي في الجدل هو البرهان العقلي وحده». وشأن خصومه من المؤلهة أو الملاحدة، تبنى الكاتب «العقل» ـ لا النصوص الإنجيلية أو التقاليد الكنسية ـ جاعلا منه معيارا له.
***
رجع مشاقة إلى جبل لبنان سنة 1820 وقد ضجر من الطاعون والحظر الذي «كان يحبسني في بيتي قرابة خمسة أشهر» من كل عام. وتأسيسا على دور عائلته بوصفها عائلة تجار ومصرفيين يعملون لحساب أمير جبل لبنان بشير الشهابي، سرعان ما وجد مشاقة نفسه قريبا من مراكز السلطة السياسية المحلية. وكان لا يزال في العشرينيات من عمره حينما تولى وظيفة مستشار أمراء حاصبيا وهي بلدة في جبال لبنان الشرقية وصارت له إيجارات أراض شاسعة. واصل تعليمه الذاتي، فدرس الطب بعدما أصابه مرض عابر، وكتب بحثا مبتكرا في الموسيقى العربية، وظل على تشككه في الدين، فيسجل في مذكراته وقائع عديدة سخر فيها من ادعاءات رجال الدين، من مسيحيين ومسلمين. وكان هذا هو موقفه أيضا حينما صادف للمرة الأولى سنة 1823 شخصية دينية من نوع جديد عليه هي شخصية المبشر البروتستنتي جوناس كينج الذي كان قد وصل حديثا إلى سوريا. فلما سمع الشاب «الوسيم» ابن نيو إنجلند يجادل الكاثوليك في دير القمر، «ضحك [مشاقة] سرا من كلا الطرفين».
جاء المبشرون الإنجيليون إلى سوريا العثمانية بجرعة ثقيلة من الازدراء الغربي إذ كانوا يرون أهلها بصفة عامة «جهلاء» و«غير متحضرين» وأنهم بحاجة إلى ما في جعبتهم من التنوير الديني. لكنهم جاؤوا أيضا مهتمين اهتماما خاصا بالمعتقدات الشخصية لمن يقابلونهم من الناس. وفيما مضوا يتقدمون في شرق المتوسط، كتبوا عن لقائهم ـ فضلا عن المؤمنين من المسلمين واليهود وأبناء المنطقة المسيحيين ـ بمن وصفوهم بـ«الكفار»، أي الأفراد غير المقتنعين في ما يبدو بأي من العقائد المطروحة. وكان من هؤلاء معماريٌّ مالطي يعد فولني مرجعا لاعتقاده بأن «الإنجيل ملفَّق»، والمؤلّه د. مابورجو وهو طبيب يهودي رائد من الإسكندرية، والراهب الأرميني جاكوب جريجوري وورتابت الذي نجحوا في إثنائه عن «آرائه الكفرية المؤلهة» وهدايته إلى البروتستنتية. وفيما انغمس المبشرون الأمريكيون في بلدات سوريا بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، عثروا على جماعات مماثلة، مؤلفة في الغالب من شبان مسيحيين ناقمين على كنائسهم المحلية وسرعان ما يتحولون إلى «التشكك التام في الدين برمته».
وبغية إقناع تلك الجماعات بفضائل الدين والمسيحية البروتستنتية، اعتمد المبشرون البروتستنت على الثيمات العقلانية في تراثهم. فالمسيحية الحقة ـ أي البروتستنتية الإنجيلية طبعا ـ مثلما قال الأمريكي بلايني فيسك سنة 1823 قد تُرى بوصفها «الوسط الذهبي» بين «نقيضي الخرافة والكفر»: أي بين معتقدات المحليين من المسيحيين والمسلمين وغيرهم، والتأليه أو الشك. ومن أجل إقناع المسيحيين المحليين ـ وبخاصة الكاثوليك ـ كانوا كثيرا ما يستهدفون في عظاتهم وكتابتهم ما رأوه جوانب غير عقلانية في معتقداتهم: من قبيل عبادة القديسين والأيقونات، وتحول الخبز والنبيذ إلى لحم المسيح ودمه. ولإقناع «الكفار» المتشككين، كانوا كثيرا ما يبرزون ما يرونه «براهين» على صدق المسيحية. وفي شبه كبير بما كان يفعله الكاثوليكي سابا الكاتب في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، أقاموا دعوتهم لهؤلاء الناس لا على الكتاب المقدس أو التراث وإنما على «العقل».
وحدث في أربعينيات القرن التاسع عشر أن شعر مشاقة بقوة تلك الدعوة. وكان في ذلك الوقت يعيش في دمشق، متزوجا، ومرابيا رائجا، وطبيبا، وتاجرا. وكان قد شهد تغيرات هائلة في سوريا منها احتلالها على يد جيش حاكم مصر القوي محمد علي باشا، وأولى توترات العنف الطائفي الذي أعقب انسحاب جيشه سنة 1841. كان مشاقة قد تعرض بالفعل لجملة من العوامل الاجتماعية والثقافية دفعته إلى البحث من جديد عن الحقيقة الدينية، وصادف في 1842 و1843 كتابا ترجمه المبشرون البروتستنت في مالطا إلى العربية بعنوان «دلائل النبوءة». وفي هذا الكتاب الإنجيلي الرائج شرع القس المشيخي ألكسندر كيث في إثبات أن نبوءات الإنجيل قد تحققت بالفعل، مثبتا بذلك أن الكتاب المقدس لا بد أن يكون مستلهما من السماء. وتحقيقا لهذا الهدف، قارن الكتاب المقدس بالرحالة المحدثين إلى الأرض المقدسة، راصدا «البراهين» على زوال المدن التي قال الرب إنها ستتحطم. بل إنه رجع إلى كتاب رحلة المؤله فولني دعما لمزاعمه. ولتقريب وجهة نظره، أرفق بكتابه رسوما ـ ثم صورا فوتوغرافية في ما بعد ـ مقدما الدليل التجريبي من خرائب البتراء والنمرود وبابل.
بعد تفكير وتردد، تبين لمشاقة أن حجج كيث مقنعة، وذلك بفضل أسلوبه العقلاني بصفة خاصة، وهو أسلوب شديد الاختلاف عن أسلوب «الدكاترة في كنيتسي» بحديثهم في «أمور... تأباها العقول السليمة». وبعد سنوات قليلة، وبعد المزيد من التردد، وبعد ازدياده قربا من المبشرين البروتستنت الأمريكيين في بيروت، ومن سوريين آخرين اعتنقوا البروتستنتية، ومن القنصل البريطاني في دمشق، خطا مشاقة الخطوة التي لا تراجع عنها، إذ أعلن في نوفمبر من عام 1848 اعتناقه المسيحية وفقا للكتاب المقدس وسرعان ما انخرط في جدال مرير مع رئيس الطائفة التي خرج عنها مكسيموس مظلوم بطريرك الكنيسة الكاثوليكية اليونانية. وفي مآخذه على الكاثوليكية ـ التي نشرها له البروتستنت في بيروت ـ نبذ مشاقة «الخرافات» المنافية للعقل و«تلفيقات القساوسة» في العقيدة الكاثوليكية، بمثل الطريقة التي دأب أن يتبعها مع الدين بعامة في مرحلة التأليه في شبابه. ظل «العقل» شعاره، غير أنه لم يعد يؤمن به منفردا بلا عون له. فبات يقبل الوحي الإلهي دليلا موثوقا، ويبرز في الأحكام العقلية أنها متغيرة وغير يقينية في الغالب.
ودعمت هذه المسيحية العقلانية مشاقة فيما بقي من حياته مرورا بمزيد من الاضطرابات. ففي عام 1860 تعرض مع مسيحيين آخرين في دمشق لهجمة من حشد من المسلمين في واقعة دامية من وقائع العنف الطائفي. وهرب في الشوارع برفقة ابنيه الصغيرين وقد تعرضوا للضرب المبرح وأسعده الحظ فنجا بحياته. غير أنه استطاع أن يقيم حياته من جديد في دمشق تاجرا ثريا ونائبا لقنصل الولايات المتحدة، وأورث كلا العملين لابنيه. وحافظ على سمعته كرجل مثقف في نطاق عريض من الرياضيات إلى الموسيقى، وكتبَ سيرة حية وذكية تناول فيها حياته وزمنه، قبل وفاته سنة 1888.
***
لا شك أن مشاقة أسهم في إيجاد مجال عام حديث بالعربية لقضية العقلانية العلمية. فكان عضوا مبكرا في الجمعيات العلمية والثقافية في سوريا العثمانية، وكتب في إصداراتها الدورية المتنامية. وكانت كتاباته الدينية، الموجهة لجمهور يعتنق عقائد مختلفة، رائدة في استعمال الكتيبات المطبوعة في الجدل العام. ولعل عقلانيته كانت تتسم أحيانا بالحدة، ومن ذلك نبذه العلني لعقائد وعادات وممارسات دينية باعتبارها «خرافات».
غير أن مشاقة كان أيضا ناشطا دينيا، فبالتوزاي مع البعثات التبشيرية الأمريكية، سعى إلى إقامة شكل عربي من المسيحية الإنجيلية. وأسهمت مجادلاته في الكاثوليكية إسهاما كبيرا في تشكيل الطائفة البروتنسنتية السورية التي قد تكون صغيرة ولكنها مؤثرة، حيث قدّم العقائد الإنجيلية في قالب ملائم للجمهور القارئ بالعربية، وسوف تظل البعثات التبشيرية تعيد طبعاتها حتى القرن العشرين. فباتت جزءا من تراث الجدل بين الأديان إذ التقطها المدافعون عن العقائد من المسلمين والكاثوليك على السواء. ونتيجة لهذا نجد نسخا رقمية من نصوص القرن التاسع عشر تلك متاحة الآن في مواقع مخصصة لنشر الإسلام من قبيل [Quran For All] و[Comprehensive Muslim e-Library].
هناك ثيمة واحدة تسري في هذه الجوانب المنفصلة ظاهريا في عمل مشاقة وإرثه، وهي إصراره على «العقل». فقد كان هذا بالنسبة له هو المعيار الذي يجب تبرير أي معتقد به، سواء أكان المعتقد نظرية علمية يمكن اختبارها بالتجربة، أم عقيدة موحى بها من السماء وتتجاوز الفهم البشري. وكان لهذا عواقب بادية التناقض، فقد كان بوسع مشاقة أن ينعم بإمكانية أن يكون بلا دين نهائيا ـ ولقد قضى في نهاية المطاف خمسا وعشرين سنة من عمره مؤلها ـ ويحاكم مختلف العقائد من الخارج، في ضوء العقل. لكنه، وقد اختار عقيدة بعينها، بات يصر على أوراق اعتمادها العقلية، التي تفصلها فصلا حادا عن «الخرافة» غير العقلانية وتضع لها حدودا مرسومة بدقة.
ولم يكن مشاقة وحده، في سوريا القرن التاسع عشر، في تبني رؤية الدين ما بعد التنويرية باعتباره شيئا يمكن تبريره عقليا، أو رؤية العقيدة الحقة باعتبارها «الوسط الذهبي» بين «الخرافة» وعدم الإيمان. فحتى الإصلاحي الكاثوليكي مكسيموس مظوم كتب دفاعا عن عقيدة الكنيسة في مواجهة باحث مسلم من جامعة [كذا] الأزهر في القاهرة، لم يستند فيه إلى الكتاب المقدس أو التراث بل إلى «البراهين العقلية والفلسفية». وفي العقود التالية لوفاة مشاقة سنة 1888، باتت هذه الطريقة في الجدال في الدين هي المتزايدة الشيوع في المجال العام العربي المتنامي. فبات المسيحيون والمسلمون و«الماديون» العلميون على السواء يتجادلون في العلاقة بين الإيمان والعقل، وكلهم باتوا يفترضون شأن مشاقة أن عليهم أن يضعوا أنفسهم في موضع ما من الطيف الكبير القائم بين الإيمان دونما تفكير والعقل دونما إله.
لكن أولئك المصلحين أنفسهم كانوا يؤكدون أيضا الحدود بين المؤمنين بالدين والممارسات الدينية. إذ ابتدأ الإصلاحيون المسلمون والمسيحيون ـ أي بواكير الحركة السلفية والبعثات التبشيرية البروتستنتية والكاثوليك الإصلاحيين من أمثال مظلوم ـ بنبذ «خرافات» عوام الناس. وكانت بعض تلك الممارسات تطمس الخطوط القائمة بين الطوائف الدينية إذ كان كل من المسلمين والدروز والمسيحيين يزورون أولياء بعضهم بعضا. ومزج آخرون بين الدين والسحر أو أساؤوا ـ في حالة الصوفية الشعبية ـ إلى المعايير الصارمة للأخلاقيات العامة أو «الذائقة» النخبوية. ومن أجل طرح عقائدهم باعتبارها متسقة وقابلة لأن يعتنقها العقلانيون، كان على الإصلاحيين من مختلف العقائد أن يجردوها من أي ممارسات هرطقية أو عامية أو جماعية غالبا ما يسمها اختلاط الأصول. لكنهم وهم يفعلون ذلك، كانوا يفككون نسيج ثقافة دينية مشتركة، قد تكون هيراركية ولكنها نظام عديد العقائد وجد فيه المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم أماكن لهم. وبدلا من ذلك، ساعدوا في إيجاد احتمالات متناقضة للحداثة، فهناك، من ناحية، صورة لمجتمع علماني ومجال عام، وهي صورة للتعايش والمساواة بين العقائد، وهناك، من الناحية المقابلة، مشاريع إحياء عقلاني وهويَّاتي، لطوائف دينية كل منها يسمها الانغلاق والتجانس الداخلي.
تذكرنا شخصية ميخائيل مشاقة الغريبة بأن هذه الاحتمالات المتناقضة جاءت من تحول مشترك، هو التحول إلى تبرير الدين في ضوء العقل، والتشديد على الاعتقاد الفردي في مقابل الممارسة الجماعية. ولا يزال قطبا العلمانية والإحيائية الدينية يثيران الكثير من الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم. وتذكرنا قصة مشاقة بأن هذين هما مظهران لواقع حديث واحد، وأنهما تكونا معا، فكانا حبيسي صراع هو في الوقت نفسه حوار.
في الوقت نفسه، كانت هذه الولايات العربية- وبخاصة سوريا ولبنان- تعاني من صراعات كبيرة بين الطوائف الدينية. فقد شهدت أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر في لبنان قتالا مريرا بين جماعات مسلحة من الدروز الإبراهيميين والموارنة المسيحيين. وتصاعدت التوترات في سوريا، بدافع من تدخل الدول الأوروبية ومخاوف تنامي سلطتهم داخل الأراضي العثمانية. في عام 1860، بلغت هذه الضغوط ذروتها، ففي دمشق نفسها، وهي عاصمة الولاية، ارتكبت جماعة من المسلمين المسلحين مجزرة في آلاف المسيحيين. في الوقت نفسه، كان القادة والمجددون الدينيون يسعون إلى إقامة طوائف دينية أكثر تجانسا، ومتمايزة بوضوح عن بعضها بعضا. فناصر النشطاء المسلمون المنتمون إلى بواكير الحركة السلفية من أمثال رشيد رضا عودة مثال العصر النبوي المحمدي الخالص. واستهدف رجال الدين الكاثوليك من أمثال البطريك مكسيموس مظلوم تمييز طوائفهم تمييزا واضحا عن غيرهم من الجماعات المسيحية الأخرى وعن المسلمين أيضا. وكانت تلك المشاريع تتماثل ـ بطريقتها ـ مع حداثة العلمانية أو العقلانية العلمية. فقد شرعت في محو أنظمة الممارسات الدينية القديمة من قبيل عبادة القديسين والأضرحة الشائعة أو المواكب المشتركة والأيام المقدسة التي عملت في بعض الأوقات على طمس الحدود بين العقائد.
وبذلك يكون القرن التاسع عشر في العالم العثماني العربي قد خلّف إرثا متناقضا. فقد شهد ظهور ضربين من المشاريع من شأنهما أن يقسما الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، فمنهما ما يرمي إلى مجتمع علماني وعلم وعقلانية، ومنها في المقابل ما يصر على هوية دينية وفصل بين الطوائف الدينية. فكيف تأتى لهاتين النزعتين ـ شديدتي التناقض في ظاهر الأمر ـ أن تأتيا إلى الوجود في اللحظة نفسها، وجنبا إلى جنب؟
من طرق الإجابة على هذا السؤال طريقة التاريخ المصغر [microhistory]، أي بالنظر إلى قصة فرد واحد لعب دورا في نشوء كلا الضربين من المشاريع. وذلك الشخص كان ميخائيل مشاقة، وهو رجل ساعد في صوغ كل من العقلانية العلمية والتجديد الديني، إذ مضى في مساره الخاص الفريد خلال القرن التاسع عشر. وتلقي قصة رحلته الفريدة من الشك إلى الإيمان ضوءا على التحول الذي جرى لمكانة الدين في المجتمع العثماني العربي، ويساعدنا هذا التحول على رؤية كيفية تشابك جذور العلمانية العقلانية والهوية الدينية الانقسامية.
وصل مشاقة إلى ميناء دمياط المصري سنة 1817 وهو في السابعة عشرة من عمره. وكانت تلك المدينة الصاخبة هي المقر الرئيسي للتجارة بين سوريا ومصر، فعثر فيها على عالم شديد الاختلاف عن بلدة دير القمر الجبلية اللبنانية التي نشأ فيها. على طول ضفة النيل كانت البوارج تفرغ القهوة والأرز والعدس مباشرة في مداخل البيوت والخانات المحاذية للنهر. وكان الميناء يشهد مرور الفلاحين من فلسطين والأئمة من إسطنبول واليهود من رودس والمسيحيين الأقباط المصريين في رحلات الحج إلى القدس. وفي القلب من تجارة المدينة كان مجتمع صغير، وثري، من التجار المسيحيين الوافدين من سوريا، وبينهم اتخذ ميخائيل الشاب مكانه، مقيما مع عمه وأخيه الأكبر اللذين سبق أن استقرا في دمياط، وشرع يتعلم التجارة ويجني المال.
لولا شائبة. فمع مقدم الربيع كان الطاعون يظهر في المدينة. وفي ذروته، كان يمكن أن تشهد المدينة مائة موكب جنائزي. وكان دأب المرض أن يستمر في إصابة وقتل أهل دمياط لأشهر عديدة، وصولا إلى يونيو ويوليو. فكانت تلك مشكلة للجميع، ومع ذلك لم يكن من إجماع على سبيل التعامل معها. فكان كثير من المسلمين والمسيحيين يلجأون إلى الدعاء، والبعض يلوذون بالسحر كأن يرسموا مربعات أو المخططات على واجهات البيوت والغرف للحماية. وكان آخرون (أو أولئك أنفسهم) يلجأون إلى السبل الطبية، لكن الأطباء كانوا مختلفين في أسباب الطاعون الحقيقية وعلاجه. فمنهم من كان يعتقد أنه ينتشر باللمس، وغيرهم بتنفس الهواء الفاسد، ومنهم من ظن أن في تدخين التبغ أو الأفيون حماية ونفعا، وآخرون رفضوا كل تلك العلاجات. فكان أثرياء دمياط يقصدون إلى حماية أنفسهم بنوع من «الحظر» إذ يغلقون على أنفسهم أبواب بيوتهم ومساكنهم لأشهر عدة، ويغسلون كل ما يدخلها من سلع بالماء أو الخل.
وقد يفضي هذا الاختلاف في ردود الأفعال إلى مشاحنات، لأن تبني الاحتياطات الطبية المعقدة قد يبدو إنكارا لقدرة الله، وقد يبدو الاعتماد على السحر أو الدعاء دون غيرهما طيشا له خطره. وفي مجتمع ذلك الميناء المصري المزدحم المختلط، كان الاحتكاك دائما بين مختلف الأنظمة الاعتقادية في مواجهتها لذلك التحدي المشترك. وما كاد ميخائيل مشاقة يصل إلى دمياط حتى أصيب شقيقه الأكبر أندراوس بعدوى الطاعون، لكنه تعافى. وعثر ميخائيل أعلى باب غرفته على ورق يحمل شعارا دينيا وضعه القسيس الكاثوليكي المحلي. وكان يفترض بتلك الشعارات مثلما قيل له أن «تصد الطاعون عن المكان» ففشلت في ذلك فشلا مبينا ـ حسبما أشار ميخائيل ـ لأن أخوه أندراوس أصيب فعلا بالطاعون. وقيل له «لا تكن قليل الدين وتبذر الشكوك». لكن الشك ألح عليه، وكانت تلك التناقضات في التعامل مع الطاعون عاملا أفضى بمشاقة إلى الشك في الدين كله.
والعامل الكبير الآخر كانت جذوره تضرب في خليط دمياط الاجتماعي المتنوع تنوعا غير معهود. فعلى مدار أكثر من عقد، كان أغنى تجار المدينة باسيلي فخر ـ وأحد المتصلين برجال الدين والبحارة اليونانيين والرحالة والباحثين الأوروبيين الغربيين ـ يرعى ترجمة أعمال عصر التنوير الأوروبي إلى العربية. فكانت تلك هي المرة الأولى التي يتاح فيها العلم ما بعد النيوتني وفكر المؤلهة الفرنسيين التشكيكي باللغة العربية. وكان مشاقة قد اطلع بالفعل على بعض تلك الكتب في بيته بجبل لبنان بفضل عم له رجع بها من دمياط، ثم تيسر له أن يقرأ المزيد. وأتاح له علم عصر التنوير تفسير نظام «قوانين الطبيعة» لظواهر الطبيعة ـ من قبيل حركة الكواكب والنجوم ـ وتنبؤه بها بدقة رياضية. وعلى النقيض، كانت «القوانين» الموضوعة دينيا تبدو محاطة بالشكوك منافية للعقلانية. واكتمل رفض مشاقة للدين حينما قرأ ترجمة أخرى من ترجمات فخر إلى العربية. وكانت تلك هي «أطلال امبراطورية» للفيلسوف الفرنسي قنسطنطين فرانسوا دي فولني الذي ارتحل في مصر وسوريا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.
ذهب فولني إلى أن الأمور الإنسانية ـ شأن العالم الطبيعي ـ خاضعة لأحكام «قوانين الطبيعة، ماضية في مسارها، متسقة في آثارها». غير أن الأديان تضليل لهذه القوانين، ونتاج سوء فهم للكون، وما بقاؤها إلا بقوة النخب الكهنوتية الرامية إلى إدامة سلطتها. ومثلما قالها مشاقة لاحقا: «لقد بت أعتقد أن الأديان كلها أكاذيب، وأن قوانين الأديان أنشأها الحكماء ليلجموا بها الجهلاء». وشأن فولني، لم يرفض مشاقة فكرة الكائن الإلهي الذي خلق عجائب الطبيعة لكنه عزم على أن يعمل «وفقا لهداية نور الطبيعة» الذي «غرسه الله في أنفسنا». وبرغم بقائه على كاثوليكيته في ظاهر الأمر اجتنابا لإلحاق فضيحة بأهله وأبناء دينه، فقد بات «يعد كل ما يقرأ ويسمع في كتب الطوائف زيفا وضلالا لا طائل من ورائه» ولا يقبله «العقل السليم».
وفي حين انجذب مشاقة ـ ومن حوله دائرة صغيرة من شباب السوريين الكاثوليك من أمثال شقيقه أندراوس ـ إلى مذهب المؤلهة القائم على «القانون الطبيعي» والعقل، مضى آخرون في دمياط إلى مقاومته. فكتب القسيس الكاثوليكي المثقف سابا الكاتب مجموعة مقالات في تفنيد «هرطقات» الماديين سواء القدامى منهم (من أمثال ديمقريطوس وإبيقور) أو المحدثين (من أمثال فولتير وهوبز). فطرح في مواجهتهم حجة التصميم الشهيرة: وهي أن الكون العجيب الذي يكشفه العلم لا بد أن يكون له خالق إلهي. ولا تخفى دلالة أن الكاتب قد تبنى أسلوبا في الاحتجاج غير شائع في الدفاعات المسيحية [عن وجود الله]، فبما أن خصومه «لا يؤمنون بأي كتاب مقدس، ولا برسالة رسول» كما كتب «فقد جعلت أساسي في الجدل هو البرهان العقلي وحده». وشأن خصومه من المؤلهة أو الملاحدة، تبنى الكاتب «العقل» ـ لا النصوص الإنجيلية أو التقاليد الكنسية ـ جاعلا منه معيارا له.
***
رجع مشاقة إلى جبل لبنان سنة 1820 وقد ضجر من الطاعون والحظر الذي «كان يحبسني في بيتي قرابة خمسة أشهر» من كل عام. وتأسيسا على دور عائلته بوصفها عائلة تجار ومصرفيين يعملون لحساب أمير جبل لبنان بشير الشهابي، سرعان ما وجد مشاقة نفسه قريبا من مراكز السلطة السياسية المحلية. وكان لا يزال في العشرينيات من عمره حينما تولى وظيفة مستشار أمراء حاصبيا وهي بلدة في جبال لبنان الشرقية وصارت له إيجارات أراض شاسعة. واصل تعليمه الذاتي، فدرس الطب بعدما أصابه مرض عابر، وكتب بحثا مبتكرا في الموسيقى العربية، وظل على تشككه في الدين، فيسجل في مذكراته وقائع عديدة سخر فيها من ادعاءات رجال الدين، من مسيحيين ومسلمين. وكان هذا هو موقفه أيضا حينما صادف للمرة الأولى سنة 1823 شخصية دينية من نوع جديد عليه هي شخصية المبشر البروتستنتي جوناس كينج الذي كان قد وصل حديثا إلى سوريا. فلما سمع الشاب «الوسيم» ابن نيو إنجلند يجادل الكاثوليك في دير القمر، «ضحك [مشاقة] سرا من كلا الطرفين».
جاء المبشرون الإنجيليون إلى سوريا العثمانية بجرعة ثقيلة من الازدراء الغربي إذ كانوا يرون أهلها بصفة عامة «جهلاء» و«غير متحضرين» وأنهم بحاجة إلى ما في جعبتهم من التنوير الديني. لكنهم جاؤوا أيضا مهتمين اهتماما خاصا بالمعتقدات الشخصية لمن يقابلونهم من الناس. وفيما مضوا يتقدمون في شرق المتوسط، كتبوا عن لقائهم ـ فضلا عن المؤمنين من المسلمين واليهود وأبناء المنطقة المسيحيين ـ بمن وصفوهم بـ«الكفار»، أي الأفراد غير المقتنعين في ما يبدو بأي من العقائد المطروحة. وكان من هؤلاء معماريٌّ مالطي يعد فولني مرجعا لاعتقاده بأن «الإنجيل ملفَّق»، والمؤلّه د. مابورجو وهو طبيب يهودي رائد من الإسكندرية، والراهب الأرميني جاكوب جريجوري وورتابت الذي نجحوا في إثنائه عن «آرائه الكفرية المؤلهة» وهدايته إلى البروتستنتية. وفيما انغمس المبشرون الأمريكيون في بلدات سوريا بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، عثروا على جماعات مماثلة، مؤلفة في الغالب من شبان مسيحيين ناقمين على كنائسهم المحلية وسرعان ما يتحولون إلى «التشكك التام في الدين برمته».
وبغية إقناع تلك الجماعات بفضائل الدين والمسيحية البروتستنتية، اعتمد المبشرون البروتستنت على الثيمات العقلانية في تراثهم. فالمسيحية الحقة ـ أي البروتستنتية الإنجيلية طبعا ـ مثلما قال الأمريكي بلايني فيسك سنة 1823 قد تُرى بوصفها «الوسط الذهبي» بين «نقيضي الخرافة والكفر»: أي بين معتقدات المحليين من المسيحيين والمسلمين وغيرهم، والتأليه أو الشك. ومن أجل إقناع المسيحيين المحليين ـ وبخاصة الكاثوليك ـ كانوا كثيرا ما يستهدفون في عظاتهم وكتابتهم ما رأوه جوانب غير عقلانية في معتقداتهم: من قبيل عبادة القديسين والأيقونات، وتحول الخبز والنبيذ إلى لحم المسيح ودمه. ولإقناع «الكفار» المتشككين، كانوا كثيرا ما يبرزون ما يرونه «براهين» على صدق المسيحية. وفي شبه كبير بما كان يفعله الكاثوليكي سابا الكاتب في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، أقاموا دعوتهم لهؤلاء الناس لا على الكتاب المقدس أو التراث وإنما على «العقل».
وحدث في أربعينيات القرن التاسع عشر أن شعر مشاقة بقوة تلك الدعوة. وكان في ذلك الوقت يعيش في دمشق، متزوجا، ومرابيا رائجا، وطبيبا، وتاجرا. وكان قد شهد تغيرات هائلة في سوريا منها احتلالها على يد جيش حاكم مصر القوي محمد علي باشا، وأولى توترات العنف الطائفي الذي أعقب انسحاب جيشه سنة 1841. كان مشاقة قد تعرض بالفعل لجملة من العوامل الاجتماعية والثقافية دفعته إلى البحث من جديد عن الحقيقة الدينية، وصادف في 1842 و1843 كتابا ترجمه المبشرون البروتستنت في مالطا إلى العربية بعنوان «دلائل النبوءة». وفي هذا الكتاب الإنجيلي الرائج شرع القس المشيخي ألكسندر كيث في إثبات أن نبوءات الإنجيل قد تحققت بالفعل، مثبتا بذلك أن الكتاب المقدس لا بد أن يكون مستلهما من السماء. وتحقيقا لهذا الهدف، قارن الكتاب المقدس بالرحالة المحدثين إلى الأرض المقدسة، راصدا «البراهين» على زوال المدن التي قال الرب إنها ستتحطم. بل إنه رجع إلى كتاب رحلة المؤله فولني دعما لمزاعمه. ولتقريب وجهة نظره، أرفق بكتابه رسوما ـ ثم صورا فوتوغرافية في ما بعد ـ مقدما الدليل التجريبي من خرائب البتراء والنمرود وبابل.
بعد تفكير وتردد، تبين لمشاقة أن حجج كيث مقنعة، وذلك بفضل أسلوبه العقلاني بصفة خاصة، وهو أسلوب شديد الاختلاف عن أسلوب «الدكاترة في كنيتسي» بحديثهم في «أمور... تأباها العقول السليمة». وبعد سنوات قليلة، وبعد المزيد من التردد، وبعد ازدياده قربا من المبشرين البروتستنت الأمريكيين في بيروت، ومن سوريين آخرين اعتنقوا البروتستنتية، ومن القنصل البريطاني في دمشق، خطا مشاقة الخطوة التي لا تراجع عنها، إذ أعلن في نوفمبر من عام 1848 اعتناقه المسيحية وفقا للكتاب المقدس وسرعان ما انخرط في جدال مرير مع رئيس الطائفة التي خرج عنها مكسيموس مظلوم بطريرك الكنيسة الكاثوليكية اليونانية. وفي مآخذه على الكاثوليكية ـ التي نشرها له البروتستنت في بيروت ـ نبذ مشاقة «الخرافات» المنافية للعقل و«تلفيقات القساوسة» في العقيدة الكاثوليكية، بمثل الطريقة التي دأب أن يتبعها مع الدين بعامة في مرحلة التأليه في شبابه. ظل «العقل» شعاره، غير أنه لم يعد يؤمن به منفردا بلا عون له. فبات يقبل الوحي الإلهي دليلا موثوقا، ويبرز في الأحكام العقلية أنها متغيرة وغير يقينية في الغالب.
ودعمت هذه المسيحية العقلانية مشاقة فيما بقي من حياته مرورا بمزيد من الاضطرابات. ففي عام 1860 تعرض مع مسيحيين آخرين في دمشق لهجمة من حشد من المسلمين في واقعة دامية من وقائع العنف الطائفي. وهرب في الشوارع برفقة ابنيه الصغيرين وقد تعرضوا للضرب المبرح وأسعده الحظ فنجا بحياته. غير أنه استطاع أن يقيم حياته من جديد في دمشق تاجرا ثريا ونائبا لقنصل الولايات المتحدة، وأورث كلا العملين لابنيه. وحافظ على سمعته كرجل مثقف في نطاق عريض من الرياضيات إلى الموسيقى، وكتبَ سيرة حية وذكية تناول فيها حياته وزمنه، قبل وفاته سنة 1888.
***
لا شك أن مشاقة أسهم في إيجاد مجال عام حديث بالعربية لقضية العقلانية العلمية. فكان عضوا مبكرا في الجمعيات العلمية والثقافية في سوريا العثمانية، وكتب في إصداراتها الدورية المتنامية. وكانت كتاباته الدينية، الموجهة لجمهور يعتنق عقائد مختلفة، رائدة في استعمال الكتيبات المطبوعة في الجدل العام. ولعل عقلانيته كانت تتسم أحيانا بالحدة، ومن ذلك نبذه العلني لعقائد وعادات وممارسات دينية باعتبارها «خرافات».
غير أن مشاقة كان أيضا ناشطا دينيا، فبالتوزاي مع البعثات التبشيرية الأمريكية، سعى إلى إقامة شكل عربي من المسيحية الإنجيلية. وأسهمت مجادلاته في الكاثوليكية إسهاما كبيرا في تشكيل الطائفة البروتنسنتية السورية التي قد تكون صغيرة ولكنها مؤثرة، حيث قدّم العقائد الإنجيلية في قالب ملائم للجمهور القارئ بالعربية، وسوف تظل البعثات التبشيرية تعيد طبعاتها حتى القرن العشرين. فباتت جزءا من تراث الجدل بين الأديان إذ التقطها المدافعون عن العقائد من المسلمين والكاثوليك على السواء. ونتيجة لهذا نجد نسخا رقمية من نصوص القرن التاسع عشر تلك متاحة الآن في مواقع مخصصة لنشر الإسلام من قبيل [Quran For All] و[Comprehensive Muslim e-Library].
هناك ثيمة واحدة تسري في هذه الجوانب المنفصلة ظاهريا في عمل مشاقة وإرثه، وهي إصراره على «العقل». فقد كان هذا بالنسبة له هو المعيار الذي يجب تبرير أي معتقد به، سواء أكان المعتقد نظرية علمية يمكن اختبارها بالتجربة، أم عقيدة موحى بها من السماء وتتجاوز الفهم البشري. وكان لهذا عواقب بادية التناقض، فقد كان بوسع مشاقة أن ينعم بإمكانية أن يكون بلا دين نهائيا ـ ولقد قضى في نهاية المطاف خمسا وعشرين سنة من عمره مؤلها ـ ويحاكم مختلف العقائد من الخارج، في ضوء العقل. لكنه، وقد اختار عقيدة بعينها، بات يصر على أوراق اعتمادها العقلية، التي تفصلها فصلا حادا عن «الخرافة» غير العقلانية وتضع لها حدودا مرسومة بدقة.
ولم يكن مشاقة وحده، في سوريا القرن التاسع عشر، في تبني رؤية الدين ما بعد التنويرية باعتباره شيئا يمكن تبريره عقليا، أو رؤية العقيدة الحقة باعتبارها «الوسط الذهبي» بين «الخرافة» وعدم الإيمان. فحتى الإصلاحي الكاثوليكي مكسيموس مظوم كتب دفاعا عن عقيدة الكنيسة في مواجهة باحث مسلم من جامعة [كذا] الأزهر في القاهرة، لم يستند فيه إلى الكتاب المقدس أو التراث بل إلى «البراهين العقلية والفلسفية». وفي العقود التالية لوفاة مشاقة سنة 1888، باتت هذه الطريقة في الجدال في الدين هي المتزايدة الشيوع في المجال العام العربي المتنامي. فبات المسيحيون والمسلمون و«الماديون» العلميون على السواء يتجادلون في العلاقة بين الإيمان والعقل، وكلهم باتوا يفترضون شأن مشاقة أن عليهم أن يضعوا أنفسهم في موضع ما من الطيف الكبير القائم بين الإيمان دونما تفكير والعقل دونما إله.
لكن أولئك المصلحين أنفسهم كانوا يؤكدون أيضا الحدود بين المؤمنين بالدين والممارسات الدينية. إذ ابتدأ الإصلاحيون المسلمون والمسيحيون ـ أي بواكير الحركة السلفية والبعثات التبشيرية البروتستنتية والكاثوليك الإصلاحيين من أمثال مظلوم ـ بنبذ «خرافات» عوام الناس. وكانت بعض تلك الممارسات تطمس الخطوط القائمة بين الطوائف الدينية إذ كان كل من المسلمين والدروز والمسيحيين يزورون أولياء بعضهم بعضا. ومزج آخرون بين الدين والسحر أو أساؤوا ـ في حالة الصوفية الشعبية ـ إلى المعايير الصارمة للأخلاقيات العامة أو «الذائقة» النخبوية. ومن أجل طرح عقائدهم باعتبارها متسقة وقابلة لأن يعتنقها العقلانيون، كان على الإصلاحيين من مختلف العقائد أن يجردوها من أي ممارسات هرطقية أو عامية أو جماعية غالبا ما يسمها اختلاط الأصول. لكنهم وهم يفعلون ذلك، كانوا يفككون نسيج ثقافة دينية مشتركة، قد تكون هيراركية ولكنها نظام عديد العقائد وجد فيه المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم أماكن لهم. وبدلا من ذلك، ساعدوا في إيجاد احتمالات متناقضة للحداثة، فهناك، من ناحية، صورة لمجتمع علماني ومجال عام، وهي صورة للتعايش والمساواة بين العقائد، وهناك، من الناحية المقابلة، مشاريع إحياء عقلاني وهويَّاتي، لطوائف دينية كل منها يسمها الانغلاق والتجانس الداخلي.
تذكرنا شخصية ميخائيل مشاقة الغريبة بأن هذه الاحتمالات المتناقضة جاءت من تحول مشترك، هو التحول إلى تبرير الدين في ضوء العقل، والتشديد على الاعتقاد الفردي في مقابل الممارسة الجماعية. ولا يزال قطبا العلمانية والإحيائية الدينية يثيران الكثير من الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم. وتذكرنا قصة مشاقة بأن هذين هما مظهران لواقع حديث واحد، وأنهما تكونا معا، فكانا حبيسي صراع هو في الوقت نفسه حوار.